ر4773 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 15-11-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
طلبة العلم بين التزكية والتذكية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعده ﷺ ، أمَّا بعد :
فلقد تكلَّمَ أهلُ الأصُول في كُـتُبِهم، في أبواب الاجتهاد والإفـتاء، عن الشروط التي لا بُدَّ لِمَنْ أرادَ أن يتكلَّمَ في دِين الله -فضلًا عن الكتابة فـيه- أن يتحصَّنَ بِها، ويُحَصِّلَها علىٰ مَـرِّ السِّنين؛ حـتَّىٰ يَـقْـوَىٰ عُـودُهُ، ويتمكَّن مِن التكلُّم بعِلْمٍ وأصولٍ وقواعدَ مُـنضَبطة مستقيمة في هذا الدِّين المَـتِـين0
فمِمَّن فصَّلَ القولَ في ذلك: الخطيبُ البغداديُّ في كتابه: «الفقيه والمتفقه» (2/ 156-160)، فكان ممَّا قال، تحت باب: «ما جاء مِن الوعيد لِمَن أفـتىٰ وليس هو مِن أهل الفـتوىٰ»، فـروىٰ بسَـندِه:
(( أنا … عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله ﷺ : «مَن تَـقَوَّلَ عَلَيَّ ما لَمْ أَقُلْ، فلْيتبَوَّأْ مقعدَهُ مِن النَّار، ومَن اسْتشارَهُ أَخُوهُ المُسْلِمُ، فأشارَ عليه بغير رُشْدٍ ؛ فـقد خانَهُ، ومَن أُفْـتِيَ بفُـتْـيَا بغير ثَبْتٍ ؛ فإنَّما إثْمُهُ علىٰ مَن أفـتاهُ»0
أَخْـبَرنِي … عن ابن عـباسٍ أنه قال:«مَـن أَفْـتَى النَّاسَ بـفُـتْـيَـا يَـعْمَىٰ عـنها ؛ فإنَّما إِثْمُهُ عـلـيه» )) اهـ0
وهذا الحديث رواه أحمد في «المسند» (8249) بسندٍ صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه علَى «المسند»، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» (259)، وصححه الألبانِيُّ قال: «صحيحٌ لغيره»، وفي «الصحيحة» (3100)، ورواه البيهقي فِي «السُّنن الكبرىٰ» (10/ 112-116)، وروَى ابنُ ماجه شَـطْـرَهُ الأوَّل فِي مُـقدِّمة سُـنَـنهِ (35)، ورواه الحاكم في «المستدرك» (436)، وقال: «هذا حديثٌ صحيحٌ علىٰ شرط الشيخين، ولَمْ يُخرِّجاه، ولا أعرف له عِلَّة»، ووافقه الذهبي في «التلخيص» تمامًا، وذَكَرَهُ السيوطيُّ في «الجامع الصغير» (8490) وصححه0

ثُمَّ قال الخطيب البغداديُّ في «الفقيه والمتفقه» (2/ 156-160) تحت باب: «ذِكْر شروط مَن يصلح للفـتوىٰ» :
(( أوَّلُ أوصاف المُـفْـتِي الذي يلزم قبولُ فـتواه:
أن يكون بالِغًا ؛ لأنَّ الصَبِيَّ لا حُكْمَ لقوله0
ثُمَّ يكون عاقلًا ؛ لأنَّ القلمَ مرفوعٌ عن المجنون لعدم عقله0
ثُمَّ يكون عَدْلًا ثِـقَـةً ؛ لأنَّ علماءَ المسلمين لَمْ يختلفوا في أنَّ الفاسقَ غير مقبول الفتوىٰ في أحكام الدِّين؛ وإن كان بصيرًا بِها0
وسواء كان حُـرًّا أو عبدًا ؛ فإنَّ الحُرِّيَّة ليستْ شرطًا في صحة الفتوىٰ0
ثُمَّ يكون عالمًا بالأحكام الشرعية، وعِلْمُهُ بِها يشتمل علىٰ: معرفـته بأصولها، وارتياضٍ بفروعها0
وأصول الأحكام في الشرع أربعة:
أحدها: العِلْم بكتاب الله علَى الوجه الذي تصحُّ به معرفةُ ما تضَمَّنَهُ مِن الأحكام: مُحْكَمًا ومتشابِهًا، وعُمُومًا وخُصُوصًا، ومُجْمَلًا ومُـفَـسَّـرًا، وناسِخًا ومنسوخًا0
والثانِي: العِلْم بسُـنَّةِ رسولِ الله ﷺ الثابتة مِن أقواله وأفعاله، وطُـرُق مجـيئها في التواتر والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها علىٰ سببٍ أو إطلاق0
والثالث: العِـلْم بأقـاويل السَّـلَف فـيما أجـمـعـوا عـليه ، واخـتلفوا فـيه ؛ لِـيَـتَّبعَ الإجـماع ، ويجـتهد فِي الرأي مع الاخـتلاف0
والرابع: العِلْم بالقياس المُوجِب لِـرَدِّ الفروع المسكوت عنها إلَى الأصولِ المنطوقِ بِها، والمُجْمَعِ عليها؛ حتىٰ يَجِدَ المُفتي طريقًا إلَى العِلْم بأحكام النَّوازِلِ، وتمييز الحق مِن الباطل0
فهذا ما لا مَـنْدُوحَةَ للمُـفـتي عنه، ولا يجوز له الإخـلال بشيءٍ مـنه0
«أنا» … عن ابن سـيرين، قال: قال حُذيفة: «لا يُـفْـتِي الناسَ إلَّا ثلاثةٌ: رَجُلٌ قد عَـرَفَ ناسِـخَ القرآنِ ومنسُوخَهُ، أو أمـيرٌ لا يَجِدُ بُـدًّا، أو أحمقُ مُـتَكَلِّفٌ»0
أخبرنِي … قال الشافعيُّ: «لا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أن يُـفْـتِـيَ في دِين الله؛ إلَّا رَجُلًا عارِفًا بكتاب الله: بناسخهِ ومنسوخهِ، وبمُحكمهِ ومُتشابِههِ، وتأويلهِ وتنزيلهِ، ومَكِـيِّهِ ومَدَنِـيِّهِ، وما أُرِيدَ به، وفيما أُنْـزِلَ، ثُمَّ يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ﷺ ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف مِن الحديث مثل ما عرفَ مِن القرآن، ويكون بصيرًا باللُّغة، بصيرًا بالشِّعْر، وما يحتاج إليه للعِلْم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف وقلَّة الكلام، ويكون بعد هذا مُـشْرِفًا علَى اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحةٌ بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا؛ فلَهُ أن يتكلَّمَ ويُـفْـتِـيَ في الحَلال والحَرام، وإذا لَمْ يَكُنْ هكذا؛ فلَهُ أن يتكلَّمَ في العِلْم ولا يُـفْـتِي»0
قرأتُ علىٰ … ، «نا» صالح -يعني: ابن أحمد بن حنبل- أنه قال لأبيه: ما تقول في الرَّجُل يُسْأل عن الشيء فـيُجيب بما في الحديث، وليس بعالمٍ بالفُـتْيا؟ قال: «ينبغي للرَّجُل إذا حَمَلَ نفسَهُ علَى الفُـتْيا: أن يكون عالِمًا بالسُّنَنِ، عالمًا بوجوه القرآن، عالِمًا بالأسانيد الصحيحة، وإنَّما جاء خِلافُ مَن خالَفَ لِقِلَّةِ معرفتهم بما جاء عن النبيِّ في السُّـنة، وقلَّة معرفتهم بصحيحها مِن سَـقِـيمِها»0
قرأتُ علىٰ … عن ابن المبارك قال: قيل له: متىٰ يُـفْـتي الرَّجُلُ؟
قال: «إذا كان عالِمًا بالأثَر، بصيرًا بالرَّأْي»0
قلتُ [يعني: الخطيب البغدادي] : وينبغي أن يكون: قويَّ الاستنباط، جَيِّدَ الملاحظة، رصين الفِكْر، صحيح الاعتبار، صاحب أناةٍ وتُـؤَدَةٍ، وأخا اسْـتِـثْباتٍ وتَـرْكِ عَجَلَةٍ، بصيرًا بما فيه المَصْلَحة، مُستوقِـفًا بالمُشاوَرَة، حافِظًا لِدِينهِ، مُـشْـفِـقًا علىٰ أهل مِـلَّـتهِ، مُواظِـبًا علىٰ مُـرُوءَتهِ، حريصًا علَى اسْـتطابة مأْكَلِهِ؛ فإنَّ ذلك أوَّل أسباب التوفيق، مُـتورِّعًا عن الشُّبهات، صادِفًا عن فاسد التأويلات، صليبًا في الحق، دائمَ الانشغال بمعادِن الفتوىٰ، وطُـرُقِ الاجتهاد، ولا يكونُ ممَّن غَلَبَتْ عليهم الغفلة، واعْـتَوَرَهُ دَوامُ السَّهَر، ولا موصوفًا بـقِلَّةِ الضَّبط، مَـنْعُوتًا بنقص الفَهْم، معروفًا بالاختلال، يُجِيبُ بما لا يَسْـنَحُ له، ويُـفْـتِي بما يَخْـفىٰ عليه، … واعْلَمْ أنَّ العُلومَ كلها أبارِيزُ الفقه، وليس دون الفقه عِلْمٌ إلَّا وصاحبهُ يحتاجُ إلىٰ دون ما يحتاجُ إليه الفقيه؛ لأنَّ الفقيه يحتاج أن يتعلَّق بِطَـرَفٍ مِن معرفة كُلِّ شيءٍ مِن أمور الدنيا والآخِرة، وإلىٰ معرفة الجدِّ والهَزْل، والخِلافِ والضِّدِّ، والنَّفعِ والضَّرِّ، وأمورِ الناس الجارية بينهم، والعاداتِ المعروفة منهم0
فمِن شروطِ المُـفْـتِي النَّـظَـرُ في جميع ما ذَكَرْناهُ، ولن يُدْرِكَ ذلك إلَّا بِمُلاقاةِ الرِّجال، والاجتماع مع أهل النِّحَلِ وَالمَـقَالَاتِ المُخْـتَلِفة ومُساءَلَـتِهم، وكَـثْرةِ المُذاكَرةِ لَهُم، وجَمْعِ الكُـتُبِ ودَرْسِها، ودَوامِ مُـطَالعـتِها … )) اهـ0
قلتُ: هذا غَـيْضٌ مِن فَـيْضٍ، وقليل مِن كثيرٍ، ولقد جَمَعْتُ كلامَ أهل العِلْمِ باسْـتِفاضَةٍ وتفصيلٍ في كتابي: «الفِلَذُ شرح النُّـبَذ في أصول الفقه – لابْنِ حزمٍ الظاهريِّ» (ص489-505)0
وممَّا قال الشوكانِيُّ في «إرشاد الفحول إلىٰ تحقيق الحق مِن عِلْم الأصول» (2/ 1032) :
(( الشرط الرابع: أن يكون عالمًا بعِلْم أصول الفقه؛ لِاشتمالهِ علىٰ ما تمسُّ الحاجَةُ إليه، وعليه أن يُطَوِّلَ الباعَ فيه، ويَطَّلِعَ علىٰ مختصَراتهِ ومُطَوَّلاتهِ بما تبلغ إليه طاقته، وعليه أيضًا أن ينظُر في كل مسألةٍ مِن مَسائلهِ نظَرًا يُوَصِّلُهُ إلىٰ ما هو الحقُّ فيها، فإذا فعَلَ ذلك تمكَّنَ مِن رَدِّ الفُروع إلىٰ أصولِها بأيسرِ عمل، وإذا قصَّرَ في هذا الفنِّ صَعُبَ عليه الرَّدُّ، وخَـبطَ فيه وخَلط0
قال الفخر الرَّازِيُّ في «المحصول» -وما أحسن ما قال- : إنَّ أهمَّ العُلوم للمُجتهِد: عِلْمُ أصول الفقه )) اهـ0
قلتُ: وإنَّ المُـتأمِّـلَ لِكَلام أهل العِلْم في هذا الباب، إذا أَنْـزَلَهُ علىٰ مَن حَوْلَهُ ممَّن يتكلَّمُ في دِين الله؛ لَرَأَىٰ العَجَبَ العُجاب، ووَجَدَ الغُـرْبَةَ الحقيقية، وانفصالَ الواقع الدَّعَوِيِّ عن شروط التكلُّم في دِين الله ؛ إلَّا النَّـزْر اليسير ممَّن يُعَدُّونَ علىٰ أصابع اليد الواحدة0
فـقد روَى البخاريُّ في صحيحه (5231)، ومسلمٌ (2671)، مِن حديث أبِي موسَى الأشعريِّ ﭬ، وأبي هريرة ﭬ، وابن مسعودٍ ﭬ، عن النبيِّ ﷺ قال: (( إنَّ بين يَدِيِ الساعةِ أيَّامًا ينـزِلُ فيها الجهلُ، ويُرفَعُ فيها العِلْمُ ))، وفي روايةٍ لمسلم: (( يُـبَثُّ فيها الجهلُ ))0
وقد كان، وبُثَّ الجَهْلُ في الكثير من الشباب الذين يزعمون أنهم طلبةُ عِلْمٍ؛ حتىٰ قال لي الشيخُ الفاضلُ الدكتور «محمد سعيد رسلان» -حفظه الله- في لقاءٍ معه منذ أيام، استمرَّ لِساعتين، حيث تكلَّمتُ معه عن طلبة الفساد والإفساد ممَّن يُسَمُّون أنفسَهُم طَلَبةَ عِلْم؛ فـقال لي: « يا شيخ عيد ، أنتَ تُـنـزِلُهُم مَـنْـزِلَةً فوق طاقَـتِهم، هؤلاء ليسوا بطلبة عِلْمٍ، أنا ما أرىٰ طالبَ عِلْم !! » اهـ0
وحاصل المسألة: أنَّ جُـلَّ هؤلاء الطَلبة قد ترَكُوا تمامًا -أو شِـبْهَ التَّمام- ما ينبغي عليهم تحصيله مِن العُلوم الشرعية التي بدونها لَمْ ولن يتمكَّنوا مِن التكلُّمِ في الدِّين بالعِلْم والحَقِّ؛ إذْ هذه الشروط المذكورة آنفًا؛ إنَّما يُحَصِّلُها الرِّجالُ وهي بعيدةُ المَدَىٰ عن الصِّبيان والغِلْمان الذين مُـلِـئَتْ بهم طُـرُقات الدَّعوة إلَى الله؛ بل هم المُـخَـنَّـثُون الذين لا يستطيعون إلَّا الكلام المُـزَوَّق الخالي عن المضمون والمعنَى الفِعْلِيِّ0
* لُصُوصُ التَـزْكِـيَات :
فلمَّا كان ذلك كذلك، وقصرتْ بهم العزائمُ والهِمَمُ عن الاتِّصاف بصفات طلبة العِلْم -فضلاً عن العلماء- وعَجَـزُوا لِصِبْـيانِـيَّـتِهم عن تحصيل شروط التكلُّم في دِين الله؛ رَكَـنُوا إلَى الغِشِّ، والخديعة، والتدليس، والكذب، والتَّشَبُّع بما لَمْ يُـعْـطَـوْا0
روىٰ مسلمٌ في صحيحه (2129، 2130) مِن حديث عائشة ڤ أنَّ رسول الله ﷺ قال:
(( الْمُـتَـشَـبِّـعُ بِمَا لَمْ يُـعْـطَ كَـلَابِسِ ثَـوْبَـيْ زُورٍ ))0
قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (14/ 85) ،
تحت باب: « النهي عن التزوير في اللِّباس وغيره، والتَّشبُّع بما لَمْ يُعْطَ» :
(( قال العلماء: معناه: المُـتَـكَـثِّـرُ بما ليس عنده بأن يُظْهِرَ أنَّ عنده ما ليس عنده يَـتَـكَـثَّـرُ بذلك عند الناس، ويَـتَـزَيَّنُ بالباطِلِ، فهو مذمومٌ كما يُـذَمُّ مَن لَبِسَ ثَـوْبَـيْ زُورٍ0
قال أبو عُـبَـيدٍ وَآخَرُون: هو الَّذي يَلْبَسُ ثيابَ أهل الزُّهْدِ والعِـبادةِ والوَرَعِ، ومَـقْصُودُهُ أنْ يُظْهِرَ لِلناس أنَّهُ مُـتَّصِفٌ بـتِلْكَ الصِّفةِ، ويُـظْهِرَ مِن التَّخَـشُّعِ والزُّهْدِ أَكْـثَر مِمَّا في قَـلْـبهِ، فهذه ثِـيابُ زُورٍ ورِياء )) اهـ0
قلتُ: فهؤلاء لَمَّا عجَـزُوا عن الجهد والتعب والنَّصَب في تحصيل العِلْم، وتحقيق مَسائلهِ، وحِفْظِ كِـتابهِ، وسُـنَّةِ رسوله ﷺ ؛ رَكَـنُوا إلَى التَّشبُّع بما لَمْ يُعطَوْا، فجعلوا غايَـتَهُم الالْتِـفافَ حول بعض مشايخ أهل السُّـنة الطَّـيِّـبـين الذين لا خِـبرةَ لهم بمكرِ وخداعِ وخُبْثِ وقَذَرِ ونجاسةِ المُـتَـشَـبِّـعِـينَ بما لَمْ يُعْطَوْا، فـيتقرَّبون لهم بالدَّهاء والمكر؛ حتىٰ يسرقوا منهم ثناءً عليهم ليسوا أهلًا له، ولا مستحِـقِّين لمعناه، فـيتحايَل أحدُهم حتىٰ يتمكَّنَ مِن الضَّحِكِ علَى الشيخ الطَّـيِّب، فـيأخُذ منه تَـزْكِـيَـةً يُطَـيِّـرُها في كل مكانٍ، يضحك بها علَى صِغار الشباب مِمَّن يُحِـبُّون العِلْمَ والتَّعَلُّم؛ حتىٰ إنَّ بعضَهم كان مِن أقرب الناس لِرَجُلٍ مبتدعٍ بدَّعَهُ أهلُ العِلْم، ثُمَّ هو في بحر سَـنَةٍ واحدةٍ ظَـفَـرَ بـثناءٍ لبعض المشايخ الطَّـيِّـبين يُخْـفِي به ضَعْفَهُ وخِـزْيَهُ وعَجْـزَهُ عن تحصيل العِلْم والاتِّصاف به قولًا وعملًا ومُـعْـتـقَدًا0
ولقد نَشَطَ هؤلاءِ الخَدَّاعُون الماكِـرُون الجُهَّالُ السُّفهاءُ في هذا الباب جِدًّا ؛ حتىٰ أصبحوا يتنافسون فيه، لدرجةِ أن أصبح الضَّابطُ -عند الكثير ممَّن يحب طلبَ العِلْم مِن الشباب الصِّغار- لمعرفة مَن يجوز له أن يتكلَّمَ في الدِّين أو لا يتكلَّم؛ إنَّما هو الحصولُ علَى التَّـزْكِـيات!
ثُمَّ تـزيد الطَّامَّـةُ والفجيعة عندما يتقمَّصَ هذا اللِّصُّ دَوْرَ العالِم، فـيُـزَكِّيَ غيرَه، ويقال له -فيما بينهم- : «الشـيخ فُلان»! ، وقامتْ فيهم المَشْـيَخَةُ والتَّشْـيِـيخُ علىٰ ذلك، وحُـقَّ لنا أن نُسَمِّيَ تَشَـيُّخَهُم هذا بلفظ عَوامِّ المصريين للأطفال الرُّضَّع عندما يقضُونَ حوائجَهُم في ملابسهِم، فـيقولون: «الولد …»، وهذا أقربُ وأحرىٰ بهم؛ لِمَا فاحَ منهم مِن الرائحة العَـفِـنة، والقَذَرِ والنَّجاساتِ العَقَدِيَّة والقلبيَّة، والنَّـتَنِ الأخلاقيِّ0
ومِن هُـنا يتكلَّمُ في الدِّيانة الرُّوَيْـبِضَةُ والسَّفيه والجَهُول والمُـتَشَـبِّعُ بما لَمْ يُعْطَ، ويُلبِّسون علَى الناس دِينَهُم0
وطلبةُ العِلْم العُـقلاء -وهُم قِلَّةٌ قليلةٌ جِدًّا جِدًّا جِدًّا !- يعلمون هؤلاء ويخبرون أمْـرَهُم جِدًّا، ويعلمون أنهم علىٰ لا شيء !! وأنَّ أمْـرَهُم إلىٰ زَوال0
* فرِسالتي لِأَبنائي مِن طلبة العِلْم: لا تَـغْــتَـرُّوا بهذه التَّـزْكِـيات، وانظُروا إلىٰ أعمال هؤلاء السفهاء، وأقوالهم؛ تَـعْـلَمُوا حـقِـيقَـتَهُم0
* ثُمَّ إنِّي أقول لِمَن زَكَّىٰ هـؤلاء : بارَكَ الله فيك، لقد لَعِبَ بك الصِّبْـيانُ، وأخَذُوا منك ما يُرِيدُون، وأفسَدُوا الدَّعوةَ والدِّين بِاسْمِكَ وصِـيـتِكَ، وأنت لا تَشْعُر؛ بل بـتَـزْكِـيَـتِكَ لهؤلاء اللصوص قد «ذَكَّـيْـتَهُم» -بالذَّال- يعني: ذَبَحْـتَهُم، قال تعالىٰ: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ﴾ [المائدة: 3]، ونَصَّـبْـتَهُم مكانًا ليسوا له بأهلٍ، وفَـتَـنْتَ بهم الطَّـلَـبةَ الصِّغارَ في العِلْم؛ ولَو كَـبُـرَ سِــنُّـهُم!! فَـصِرْتَ تُـفْسِدُ في الأرض بهذه التَّـزكيات لهؤلاء الثعابين والثعالب0
قال الراغب الأصفهانِيُّ في «المفردات في غريب القرآن» (ص180) :
(( وحـقـيقة التذكية: إخراج الحرارة الغَرِيزِيَّة؛ لكن خُصَّ في الشَّرْع بـإبطال الحياة علىٰ وجهٍ دون وجه )) اهـ0
فأنتَ ذَبَحْـتَهُم! وكان الواجب عليك زَجْـرهم لِـيَذْهَـبُوا ويتعلَّموا حتىٰ يحينَ لهم أن يتكلَّموا في دِين الله0
يا أهلَ السُّـنة: اتَّـقُـوا الله في طلبة العِلْم، ولا تَـفْـتِـنُوهُم بِـزُبالاتِ السُّفهاء المُـتشبِّعين بما لَمْ يُعْطَوْا، فَـتُـزَكُّوا مَن لَمْ يسـتحِقَّ التَّـزْكِـية !!
وإنَّه لَفَرْضٌ علىٰ كُلِّ رَجُلٍ يزعم أنه مِن أهل السُّـنة، أن يَـكُـفَّ مَن ظَهَرَ منه التَّـزكيات بلا ضوابطَ شرعية معتبَرة، وليس ثَمَّ عند المُـزَكِّي -بكَسْرِ الكافِ وتشديدها- إلَّا الارتياح القلبيّ وخِـفَّـة دَمِ المُـزَكَّىٰ -بفـتح الكاف- وقد أطاحَ بكُلِّ المعايير والضوابط الحديثيَّة الشرعية في الحُكْم علَى الرِّجال0
فحالُ السَّاكِتِ أحدُ رَجُـلَـيْنِ :
إمَّا رَجُلٌ مميِّعٌ ساكتٌ عن تغـيير المُـنكَر، أخرس، لا ينطق بالحق ولا يقدر0
وإمَّا رَجُلٌ له وَجْهُ اسْـتِـفادةٍ مِن هذا الهُراءِ والعَبَثِ الحادِثِ في مَجال الدَّعوة إلَى الله في مِصْرَ ، حَـفِـظَها اللهُ مِن المُـفْـسِدِين0
ولأنَّ الطَّـيِّـبِـينَ مِن أهل السُّـنة كثيرون؛ فـقد كَـثُـرَ البلاءُ بهم في هذا الباب0
فـيا أهل السُّـنة: كونوا علىٰ حَذَرٍ مِن الحَـيَّاتِ والعقارِب والثعالب الماكرة «لصوص التَّـزْكِـية»؛ فإنهم يسعون جاهدين في تلميع أنفسِهم ووضْعِها مَـنْـزِلَةَ العالِم، وهُم سُفهاء0
ولقد كادَ «ابنُ الكَـيَّال» الأسْـوانِيُّ الصَّعِـيديُّ؛ أن يُصَرِّحَ بالمُـزَكِّي والمُـزَكَّىٰ -معذِرةً إلىٰ رَبِّـكُم، وتبليغًا للدِّين الذي يفسد بين المضحوك عليه والخبيث، بين المُـزَكِّي والمُـزَكَّىٰ- إذْ لا بُدَّ مِن البيان الذي عَجَـزَ عنه الكثير، وضَاعَ الدِّينُ بين الحياء والنِّـفاق والسَّـلْبِـيَّة، وإلَى الله المُـشْـتكَىٰ، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوكيل0
ولقد وَقَـفْتُ علىٰ كلامٍ طَـيِّبٍ في هذا الشأن للشـيخ الدكـتور «أحمد عمر بازمول»، في لقاءٍ له مع بعض طلبة العِلْم، وهو يُـقَـرِّرُ لهم بعضَ القواعد، فـقال:
(( فمِن ذلك: أن يعرف السَّـلَـفِـيُّون أنَّ تـزكـيةَ العالِم لِطالِبِ العِلْم، ولِعالِمٍ غيرِه؛ لا تعني هذه التـزكـيةُ أنَّ ذلك العالِمَ معصومٌ ومقبولٌ في كُلِّ ما يقوله؛ بل تـزكـيةُ العالِم هي دليلٌ علىٰ أنَّ الشخصَ مِن المقبولين، ثُمَّ يُـنظَـرُ في أقوالهِ وأعمالهِ، فإن كانت مُطابِقةً لهذه التـزكـية مِن حيث كونه سَـلَفِـيًّا ومُـتَمَسِّكًا بالسُّـنة؛ فهذا كما:
* قال الشيخ ربيع -حفظه الله تعالىٰ- : «الشـخـصُ تُـزَكِّـيـهِ أعـمـالُـهُ وأقـوالُـهُ»0
أمَّا إذا كانت التـزكـيةُ لشخصٍ ظَهَرَ منه بعد ذلك أمورٌ تُخالِفُ المنهجَ السَّلَفِيَّ، فإنَّ هذه التـزكـيةَ لا تـنـفـعـه؛ لأنَّ العِـبرةَ -كما سَـبَـقَ- بالمـنهج الذي يسيرُ عليه، والعالِمُ إنَّما زَكَّىٰ ما ظَهَـرَ مِن حالِ هذا الرَّجُـل0
* ثُمَّ إنَّ الشخص الذي يحصل علىٰ تـزكـية العلماء، ثُمَّ يظهر منه أمورٌ مُـخـالِـفَـةٌ لِمـنهج السَّلَف؛ هذا دليلٌ علىٰ خُبْثِ نِـيَّـتِـهِ وطَـوِيَّـتِـهِ؛ لأنه أراد أن يـتَـوصَّلَ بهذه التـزكـيات إلَى الْـتِـفافِ الشَّباب حَـوْلَهُ، والاسـتفادةِ منه، ثُمَّ يَـبُثُّ منهجَهُ المُخالِف0
وأيضًا، كما نعلم أنَّ الشخصَ قد يُـزَكَّىٰ بمنهجه السَّلَفِيِّ، ثُمَّ بعد ذلك قد ينحَرِف عن الحق، فهو عندما زَكَّاهُ العلماءُ كان سَـلَفِـيًّا، ثُمَّ كما قال السَّلَفُ: «الحَيُّ لا تُؤْمَنُ عليه الفِـتْـنَـةُ»0
فإذًا ، الخلاصةُ مِن هذه القاعدة :
أن لا يجعل الشبابُ السَّلَفِيُّ تـزكـيةَ العلماءِ لبعض طُلَّاب العِلْم أو الدُّعاة؛ صُكُوكَ غُـفْـرَان، فلا يُظَنَّ بهذا المُـزَكَّىٰ أنه السَّلَفِيُّ إلىٰ أن يموت، فهذا خطأ، فكَم مِن رَجُلٍ زَكَّاهُ العلماءُ، ثُمَّ انْحَرَفَ عن الحق، فما تنفعه هذه التـزكـية، ثُمَّ -كما سبقَ- تـزكـيةُ العلماء إنَّما هي بِناءً علىٰ تَمَسُّكهِ بالمنهج السَّلَفِيِّ؛ فإن خالَفَ المنهجَ السَّلَفِيِّ ؛ فلا تـنطَـبِق عليه هذه التـزكـيات )) اهـ0

أقـول: فما ظَــنُّـكُم بِمَنْ يـتحايَلُ حتىٰ زَكَّاهُ بعضُ المشايخ، وليس عنده مِن العِلْم أو الأخلاق أو المنهجية؛ مـا يُـؤَهِّـلُـهُ لهذه التـزكـية؟! والعِـبرةُ في الكلام والعُـقُودِ بالمَـقاصِدِ والمعانِي، لا بالألفاظِ والمَـبانِي -علىٰ ما تـقـرَّرَ عند الفقهاء- أفلا يقال لِمِـثْلِ مَن هذا حالُهُم: إنَّهُم لُصُوصُ التـزكـية؟! أصحابُ الأخلاق المُـتَـرَدِّية؟! المُـتَـشَـبِّعُون بما لَمْ يُعْطَوْا، مَنْ ليس لهم أُذُنٌ واعِـيةٌ للحَـقِّ مُـصْـغِـيَـةٌ؟!

فـيا طلبةَ العِـلْمِ العُــقَـلاءُ الغرباءُ القليلون: اعلموا أنَّ الخُـرُوجَ مِن هذا العَبَثِ الدَّعَوِيِّ والهُـرَاءِ التعليميِّ، والفسادِ العَقَدِيِّ، والتَّدَنِّي الأخلاقِيِّ ؛ إنَّما هو في العِلْم الصحيح، فـتَـعَـلَّموا واتَّـقوا الله يرزقكم العِلْمَ النافِـعَ، والفرقانَ الذي تَـفْـصِلُونَ به بين الحق والباطل0

قال الله تعالىٰ: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ﴾ [البقرة: 282]0
وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنـفال: 29]0
والله مِن وراء القَصْدِ ، وهو يهدي السبيل0
وصلَّى الله وسَلَّمَ علىٰ نبيِّنا محمدٍ، وآلهِ، وصحبهِ، ومَن تَـبِـعَـهُ بـإحسانٍ إلىٰ يوم الدِّين0


وكَـتَـبَ :
د/ أَبو عبد الرحمن
عِــيد بن أبي الســعـود الـكــيال
الجمعة 11من صَفَر عـام 1438هـ

تحـمـيل بـصـيغة PDF
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock