ر15110 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 15-10-2019 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
حُرُوفُ المَعَانِي وَأثَرُها في الاسْتِنْبَاطِ وتخْرِيجِ الفُرُعِ علي الأُصُولِ والمَبَانِي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده أمَّا بعد:

فهذه بحول الله وقوته والذي لا تتم الصالحات إلَّا به مقالة وجيزة في مسألة تكلم فيها عامة الأصوليين؛ لأهمّيتها وضرورة ذكرها لاتصالها بالأحكام التكليفية والفروع الفقهية من حروف وأدوات المعاني من حروف الجَرّ وغيرها كما سيأتي.

قال القاضي أبو يعلى إمام الحنابلة الفقيه الأصولي في كتابه: «العدَّة في أصول الفقه» (1/194):

«فصل في حروف تتعلق بها أحكام الفقه ويتنازع في موجباتها المتناظران» اهـ.

وقال الإمام الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه: «البحر المحيط في أصول الفقه» (1/253):

«أدوات المعاني: وإِنَّما احتاج الأصولي إليها؛ لأنها من جملة كلام العرب، وتختلف الأحكام الفقهية بسبب اختلاف معانيها.

قال ابن السَّيِّد النحوي: يخبر عمَّن تأمل غرضه ومقصده؛ فإنَّ الطريقة الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب مؤسسة على أصول كلام العرب، وأن مثلها ومثله قول أبي الأسود:

فإنْ لا يَكُنْها أو تَكُنْهُ فإنَّ                    أخوها غَذَتْهُ أُمُهُ بِلِبَانِها

قال ابن فارس في كتاب: «فقه العربية»:

«رأيت أصحاب الفقهاء يَضمُّون كتبهم في أصول الفقه حروفًا من حروف المعاني، وما أدرى ما الوجه في اختصاصهم إيَّاها دون غيرها، فذكرت عامة المعاني رَسْمًا واختصارًا» اهـ.

وقال السمعاني في: «قواطع الأدلة» (1/34- 36):

«أمَّا الحرف: أداة تفيد معنى في الكلام إذا ضم إليه، وأقل ما يأتلف منه الكلام اسم واسم كقولك: زيد قائم وكقولك: الله إلهنا، أو اسم وفعل كقولك: قام عمرو وضرب زيد، ولا يأتلف الفعل ولا الحرف مع الحرف ولا الحرف مع الفعل، ولا الحرف مع الاسم، ويأتلف الاسم والفعل والحرف كقولك: خرج عبد الله، وهل ذهب زيد ونحو ذلك …. ونذكر الآن معاني الحروف التي تقع إليها الحاجة للفقهاء، ولا يكون بدٌّ من معرفتها وتشتدَّ فيها المنازعة بين أهل العلم، فمنها حروف من حروف العطف، …. والحروف اللازمة لعمل الجرِّ، … واعلم أنَّ الكلام في معاني الأسماء والحروف كثيرة وذكرنا منها قدمًا تمس الحاجة إليه ويتصل بهذا الباب الأسامي الشرعية واللغوية….» اهـ.

وقال ابن عقيل في «الواضح في أصول الفقه» (1/109).

«فصول في بيان حروف المعاني: اعلم -وفقك الله- أنَّ الحرف واقع على الطَرْف والشفير، كطرف الوادي وحرف الإِجَّانة [-وهو إناء تُغسل فيه الثياب-]، والرغيف، وطرف كلّ شيء: حرفُه.

ويقع على الحرف المكتوب من حروف المعجم، ويقع في اللغة على الكلمة التامة، وعلى الكلمة غير التامة، يقولون: ما فهمت هذا الحرف من كلامهم، وما أخطأ فلان أو ما أصاب في حرف من كلامه، يريدون في كلمةٍ منه، وقد يُعَبَّر بالحرف عن قراءة وطريقة في القراءة، كقولهم يقرأ بحرف حفص، أوْ وَرش أوْ أبي عمرٍو.

فأمَّا الحرف اللغوي الذي يتكلم أهل العربية على معانيه وأحكامه، فهو اللفظ المتصل بالأسماء والأفعال، وكل جملة من القول، والداخل عليها لتغيير معانيها وفوائدها مثل «من»، و«إلى»، و«بعد»، و«حتى»، و«ما»» اهـ.

وقال المِرْداويّ الإمام الحنبلي الفقيه الأصولي صاحب كتاب: «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف»، وقد جمع فيه كل روايات المذهب ونصوصه وأقواله وتخريجاته حتى أصبح مرجعًا في ذلك، وكذلك حال كتابه في أصول الفقه وهو كتاب: «التحبير شرح التحرير» (2/598- 600):

«الحروف: قال القاضي عضد الدين: (قد قال النحاة: إنَّ الحرف لا يستقل بالمعنى، وعليه إشكال، فنقدر المراد أوَّلًا، والإشارة إلى الإشكال ثانيًا، وحلَّه ثالثًا.

أمَّا تقريره: فهو أن نحو: «من»، و«إلى» مشروط في وضعها -دالة على معناها الإفرادي، وهو الابتداء والانتهاء- ذكر متعلقها من دار أو سوق أو غيرهما ممَّا يدخل عليه الحرف، ومنه الابتداء وإليه الانتهاء، والاسم نحو:

الابتداء والانتهاء، والفعل: ابتدأ وانتهى، غير مشروط فيه ذلك.

وأمَّا الإشكال: فهو أنَّ نحو: «ذو»، و«أولو»، و«أولات»، و«قيد»، و«قيس»، و«قاب»، و«أي»، و«بعض»، و«كل»، و«فوق»، و«تحت»، و«أمام»، و«قدام»، و«خلف»، و«وراء» ممَّا لا يحصى كذلك إذْ لم يُجَوِّز الواضع استعمالها إلَّا بمتعلقاتها، فكان يجب كونها حروفًا وإنها أسماء.

وأمَّا الحَلّ: فهو أنها وإن لم يتفق استعمالها إلَّا كذلك لأمر عارض، فغير مشروط في وضعها دالة ذلك، لما عُلِمَ أنَّ «ذو» بمعنى صاحب، ويُفهم منه عند الإفراد ذلك، لكن وضعه له لغرض ما، وهو التوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس نحو: زيد ذو مال، وذو فرس، فوضعه ليتوصل به إلى ذلك، هو الذي اقتضى ذكر المضاف إليه؛ لأنه لو ذكر دونه لم يدلّ على معناه، نعم لم يحصل الغرض من وضعه، والفرق بين عدم فهم المعنى وبين عدم فائدة الوضع مع فهم المعنى ظاهر.

وكذلك «فوق»، وضع مكان له علو، ويفهم منه عند الإفراد ذلك، لكن وضعه له ليتوصل إلى علو خاص اقتضى ذكر المضاف إليه، كذلك باقي الألفاظ.

وإذا قد تحقق ذلك فنقول: الحرف وضع باعتبار معنًى عام وهو: نوع من النسبة: كالابتداء والانتهاء، لكل ابتداء وانتهاء معين بخصوصه.

والنِّسْبَة لا تستعين إلَّا بالمنسوب إليه، فالابتداء الذي للبصرة يتعين بالبصرة، والانتهاء الذي للكوفة يتعين بالكوفة، فما لم يذكر متعلقه لا يتحصّل فرد من ذلك النوع الذي هو مدلول الحرف لا في العقل ولا في الخارج، وإِنَّما يتحصل بالمنسوب إليه، فيتعقل بتعقله، بخلاف ما وضع للنوع عينه: كالابتداء والانتهاء، وبخلاف ما وضع لذات ما باعتبار نسبة نحو: «ذو»، و(فوق»، و«على»، و«عن»، و«الكاف» إذا أريد بها علو وتجاوز وشبه مطلقًا، فهو كالابتداء والانتهاء» انتهى كلام القاضي.

(*) تنبيه: المراد بالحروف هنا: ما يحتاج الفقيه إلى معرفتها، وليس المراد هنا تقسيم الأسم والفعل والحرف بخصُوصه، لأنَّه قد ذكر معها أسماء كـ«إذا»، و«إذْ»، وأطلق عليها حروفًا تغليبًا باعتبار الأكثر، وقال الصفَّار: (الحرف يُطلقه سبيويه على الاسم والفعل اهـ.

(*) صور من حروف المعاني والفروع الفقهية المُخرَّجَة عليها وبيان تأثيرها:

فإذا كان ذلك كذلك وتقرر عندك ما مضى تحقيقه، فاعلم أنَّ لحروف المعاني آثارًا فقهية استنباطية، تفرع عليها فروع ومسائل بسبب الاختلاف الحادث من هذه الحروف في معانيها ومدلولاتها، وما يترتب عليها من تحقيق كل حرف بما يلزم من فهمه والمراد منه، وتأثيره على الفتوى والأحكام التكليفية المتعلقة بفقه هذه الحروف وصفتها واختصاص كل حرف بما يتولد منه، وسيكون ذكري لهذه الحروف والفروع على سبيل المثال لا الحصر؛ لبيان التصوّر الفقهي في المسألة؛ ليدلّ ما ذُكر على ما لم يذكر.

(1) الفرع الأول في الواو:

قال الآمدي في: «الإحكام في أصول الأحكام» (1/88):

«أمَّا الواو: فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع المطلق غير مقتضيه ترتيبًا ولا معية، ونقل بعضهم أنها للترتيب مطلقًا، ونقل عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع؛ كقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].

وقيل: أنها ترد بمعنى «أو» كقوله تعالى: ﴿ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر: 1]، وقيل: أراد مثنى أو ثلاث أو رباع، وقد ترد للاستئناف، كالواو في قوله تعالى: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7] تقديره والراسخون يقولون آمنا به، وقد ترد بمعنى «مع» في باب المفعول معه، تقول: جاء البرد والطيالسة، وقد ترد بمعنى «إذْ» قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154] إلى قوله: ﴿ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ أي: إذْ طائفة قد أهمتهم أنفسهم» اهـ.

وقال القاضي أبو يعلى في «العدة في أصول الفقه» (1/194 وما بعدها):

«في حروف تتعلق بها أحكام الفقه ويتنازع في موجباتها المتناظران، ومنها: «الواو»، وله ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون في العطف مثل قوله سبحانه: ﴿ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6]، وهي توجب الجمع على قول أصحابنا، ولهذا قالوا فيمن قال لامرأته أنت طالق وطالق، وقع عليها تطليقتان، كما لو قال: أنت طالق طلقتين، وهو قول أصحاب أبي حنيفة.

واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل قولنا، ومنهم من قال: إنها توجب الترتيب، والوجه في أنها لا توجب الترتيب: أنها تستعمل فيما لا يقع فيه الترتيب، وهو قولهم: اشترك فلان وفلان، ولا يجوز أن يقولوا: اشترك فلان ثُمَّ فلان.

ولأنَّ قائلًا لو قال: رأيت زيدًا وعمرًا، لم يُفْهَم منه أنه رأى زيدًا قبل عمرٍو، ولو كان المفهوم منه الترتيب لوجب إذا رآهما معًا أو رأى عمرًا قبل زيد، أن يكون كاذبًا في خبره، ولوجب إذا قال: رأيت زيدًا وعمرًا معًا، أن يكون متناقضًا في كلامه، كما لو قال: رأيت زيدًا ثُمَّ عمرًا كان متناقضًا.

وأيضًا: روي أن النَّبِيّ سمع رجلًا يقول: ما شاء الله وشئت فقال: «أمِثْلان أنتما؟! قل: ما شاء ثُمَّ شئت» [رواه أحمد في المسند (23158)، وأبو داود (4980)، وصححه الشوكاني والمجد في «المنتقى» (ح 2873)].

فلو كانت الواو توجب الترتيب لكان قوله: «وشئت»، وقوله «ثُمَّ شئت» سواء، وقد فرق النَّبِيّ بينهما وأمره بإحداهما ونهاه عن الآخر، فَعُلِمَ أنَّ أحدهما يوجب الجمع والآخر الترتيب.

الحال الثانية من أحوال الواو: أن يكون في القسم فيكون بدلًا من الباء؛ لأنَّ الأصل في القسم أحْلِفُ، أو أُقْسِمُ بالله، ثُمَّ حذفوا فقالوا: بالله لقد كان كذا، ثُمَّ جعلوا «الواو» بدلًا من الباء؛ لأنَّ مخرجهما من الشفتين، فقالوا: والله.

الحال الثالثة من أحوالها: أن تكون الواو في ابتداء الكلمة مثل قولهم: ومهمّةٍ مغبَّرةٍ أرجاؤه.

وهذه الواو بدل من «رُبَّ» فكأنَّه قال: رُبَّ مهمة، ولا يجوز هذا إلَّا في الشعر، ولا يجوز في غيره.

وقد يكون بمعنى «أو» قال تعالى: ﴿ ﮐ ﮑ ﮒ [النساء: 3]» اهـ.

قلت: وروى البخاري في «صحيحه» (185، 199)، ومسلم (18/235) من حديث عبد الله بن زيد ، «أنَّ رسول الله مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمُقَدّم رأسه، ثُمَّ ذهب بهما إلى قفاه، ثُمَّ ردهما إلى المكان الذي بدأ منه».

قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (2/84 ح 188):

«قد اختُلف في كيفية الإدبار والأقبال المذكور في الحديث، فقيل: بدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه وذهب بهما إلى القفا، ثُمَّ ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر، ويؤيد هذا قوله: «بدأ بمقدم رأسه» إلَّا أنه يُشكل على هذه الصفة قوله: «فأقبل بها وأدبر»؛ لأنَّ الواقع فيها بالعكس وهو أنه أدبر بهما وأقبل؛ لأنَّ الذهاب إلى جهة القفا إدبار.

وأجيب بأنَّ الواو لا تقتضي الترتيب، والدليل على ذلك: ما ثبت عند البخاري [199] من رواية عبد الله بن زيد بلفظ: «فأدبر بيديه وأقبل»، ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنًى واحد» اهـ.

قلت: وهو قائم على أنَّ الواو لمطلق الجمع وليست للترتيب كما ذكرنا بالدليل.

(2) الفرع الثاني: «ثُمَّ».

قال أبو يعلى في «العدة» (1/199):

«وأمَّا «ثُمَّ» فهو للفصل مع الترتيب، فإذا قال: رأيت فلانًا ثُمَّ فلانًا اقتضى أن يكون الثاني متأخّرًا عن الأول في الرؤية.

ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ  ﮆ ﮇ [المجادلة: 3] أنَّ ذلك يقتضي أن يكون العود العزم على الوطء» اهـ

قلت: وهو اختيار ابن قدامة في «الكافي» (3/186).

قال: «والعود هو الوطء في ظاهر كلام أحمد والخرقي، قال أحمد: العود: الغشيان؛ لأنَّ العود في القول فعل ضد ما قال، كما أنَّ العود في الهبة استرجاع ما وهب، فالمظاهر منع نفسه غشيانها، فعوده في قوله غشيانها» اهـ.

(3) الفرع الثالث: «الباء»

ولقد تكلم الزركشي في: «البحر المحيط» (2/266 وما بعدها) مفصلًا هل هي للإلصاق أو التبعيض أو للاستعانة أو بمعنى المصاحبة وبمعنى الظرف والتعدية ومعنى الإلصاق: إلصاق الفعل بالمفعل، وهو تعليق الشيء بالشيء واتصاله به، ومعنى الاستعانة نحو: ضربت بالسيف وكتبت بالقلم، وبمعنى المصاحبة: جاء زيد بسلاحه، وبمعنى الظرف: نحو جلست بالسوق، وبمعنى التعدية: نحو مررت بزيد قال القرطبي: ويمكن أن يُقال: إنَّ هذه المواضع كلها راجعة إلى معنى الملابسة فيشترك في معنى كُلي، وهو أولى دفعًا للاشتراك، قال: وأظن أنَّ ابن جنِّي أشار إلى هذا، وقيل: إنها حيث دخلت على الآلة فهي للإلصاق.

ثُمَّ اختلفوا في كيفية الإلصاق فقيل: تقيد التعميم فيه فعلى هذا لا إجمال في قوله تعالى: ﴿ ﭝ ﭞ  [المائدة: 6] بل تفيد تعيم مسح جميع الرأس، وقيل: إِنَّما تقيد إلصاق الفعل ببعض المفعول، وعلى هذا فهي مجملة لأنه لا يُعلم أن مسح أيِّ بعضٍ من الرأس واجب.

وقيل: إن دخلت الباء على آلة المسح نحو مسحت بالحائط وبالمنديل فهي للكل، وإن دخلت على المحل نحو ﴿ ﭝ ﭞ  [المائدة: 6] لا يتناولالكل ووجه أنَّ الآلة غير مقصودة، بل هي واسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثره إليه، والمحل هو المقصود في الفعل المتعدّي فلا يجب استيعاب الآلة بل يكفي فيها ما يحصل به المقصود.

وأنكر ابن جنِّي وصاحب «البسيط» مجيئها للتبعيض وقال: «لم يذكره أحد من النحاة»، فقال الزركشي: «قلت: أثبته جماعة منهم ابن مالك ونقل عن الكوفيين وتبعهم فيه الأصمعي والعتبي، وكذا ابن مخلد في «شرح الجمل»، ثُمَّ أطال القول فيه.

قلت: قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن»: (6/42- 43):

«واختلف العلماء في تقدير مسحة على أحد عشر قولًا: ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقول لعلمائنا [يعني: المالكية]، والصحيح منها وجوب التعميم لما ذكرناه، وأجمع العلماء على أن مَنْ مَسَح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه.

والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض، والمعنى: امسحوا رؤوسكم.

وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله: ﴿ ﭝ ﭞ  [المائدة: 6].

فلو كان معنى التبعيض لأفادته في ذلك الموضع وهذا قاطع» اهـ.

وقال الشوكاني في: «نيل الأوطار» (2/86):

«قالوا قال الله تعالى: ﴿ ﭝ ﭞ  [المائدة: 6]، والرأس حقيقة اسم لجميعه والبعض مجاز، ورُدَّ بأن الباء للتبعيض، وأجيب: بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعًا من كتابه، [إلى أن قال] فيكون الواجب مطلق المسح كُلًّا أو بعضًا وأيًّا ما كان وقع به الامتثال» اهـ.

قلت: ما قيل آنفًا المراد منه فقه الحروف بعيدًا عمًّا ورد في السنَّة في المسألة وهو معروف، ولكن السياق هنا على حروف المعاني وبيان صحّة الفهم فيها ومن ثَمَّ صحة الاستنباط.

(4) الفرع الرابع: «حتى»:

قال السمعاني في «قواطع الأدلة» (1/43):

«وأمَّا «حتى» فهي للغاية أيضًا قال الله تعالى: ﴿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [البقرة: 222]، وقال: ﴿ ﯽ ﯾ ﯿ  ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ[البقرة: 230]، وقد تذكر بمعنى «إلى» تقول: لا أفارقك حتى تقضيني حقي، يعني: إلى أن تقضيني حقّي» اهـ.

قلت: وروى مسلم في «صحيحه» (1433) قال : «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»، قلت: وذوق العسيلة هي الغاية، لذلك قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (3/115):

«قوله ڠ: «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ صاحبه» استواؤهما في إدراك لذة الجماع» اهـ.

وقال النووي في «شرح مسلم» (10/5- 6):

«وفي هذا الحديث أنَّ المطلقة ثلاثًا لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، ويطأها، ثُمَّ يفارقها وتنقضي عدَّتها، فأمَّا مجرد عقده عليها فلا يبيحها للأول، وبه قال جميع العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.

وانفرد سعيد بن المسيّب فقال: إذا عقد الثاني عليها ثُمَّ فارقها حلت للأول، ولا يشترط وطء الثاني لقول الله تعالى: ﴿ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ [البقرة: 230]، وأجاب الجمهور أنَّ هذا الحديث مُخصص لعموم الآية ومبين للمراد بها.

قال العلماء: ولعلَّ سعيدًا لم يبلغه هذا الحديث.

قال القاضي عياض: «لم يقل أحد بقول سعيد في هذا إلَّا طائفة من الجوارح» اهـ.

قلت: فظهر بهذا الحديث والآية معنى حرف «حتى»، وضرورة أهميّته.

(5) الفرع الخامس: «إلى»:

قال ابن النّجار في: «شرح الكوكب المنير» (1/245- 246):

«إلى، لانتهائها؛ أي: انتهاء الغاية عند الجمهور، وتأتي بمعنى «مع» نحو قوله تعالى: ﴿ ﰈ ﰉ ﰊ   ﰋ [الصف: 14]؛ أي: مع الله، وقال الحسن البصري وأبو عبيدة: «إلى» في قوله تعالى؛ بمعنى «في»؛ أي: من أعواني في ذات الله وسبيله.

وابتداؤها؛ أي: ابتداء الغاية داخل في المُغيَّا لا انتهاؤها، وهو ما بعد إلى، فلو قال: «وله من درهم إلى عشرة» لزمه تسعة على الصحيح؛ لدخول الأول وعدم دخول العاشر.

وقيل: لا يدخلان [يعني في العدد سواء الأول والعاشر] فيلزمه ثمانية.

وقيل: إن كانت الغاية من جنس المحدود كالمرافق دخلت: [كقوله تعالى: ﴿ﭚ ﭛ ﭜ [المائدة: 6]، والمرفق من جملة اليد]، وإلَّا فلا تدخل كـ ﴿ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ[البقرة: 187]» اهـ.

يعني: أنَّ الصيام بالنهار، والليل ليس من جنس المحدود فلا يدخل الليل في النهار، وهذا مذهب قوي مُتّجهٌ، فمعرفة الفرق في معنى الحرف يفيد في الاستنباط والفهم وبه تصح الفتوى وتصلح الأحكام التكليفية.

أمَّا معنى الغاية: ويُقال أغْيا الرجل: بلغ الغاية في الشرف؛ غيَّا الشيء: جعل له نهاية والغاية: النهاية والآخرُ، والغاية: الرايا وجمعها: غايات، ويُقال: غايتك أن تفعل كذا: نهاية طاقتك، وغاية الأمر: الفائدة المقصودة منه، ويُقال: فلان بعيد الغاية: صائب الرأي [المعجم الوجيز (ص459)].

قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (2/252- 253):

«قوله تعالى: ﴿ ﮀ  ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف و«إلى» غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشية، واشتريت منك هذه الشجرة إلى هذه الشجرة والمبيع شجر، فإنَّ الشجرة داخلة في المبيع، بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإنَّ الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوّز الأكل حتى يتبين النهار، إذْ الليل غاية الصيام» اهـ. قلت: ومثله غسل المرفق لأنها من جملة المحدود وهو اليد.

(6) الفرع السادس: «اللام»:

قال ابن النجار في «شرح الكوكب المنير» (1/255- 256):

«وتأتي اللام الجارة للملك حقيقة لا يُعْدَل عنه أي عن الملك إلَّا بدليل.

وله معان كثيرة:

أحدها: لام العاقبة، ويعبَّر عنها بلام الصيرورة وبلام المآل نحو قوله تعالى: ﴿ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ [القصص: 8].

الثانية: التمليك نحو: «وهبت لزيد دينارًا»، ومنه: ﴿ ﮡ ﮢ ﮣ [التوبة: 60].

الثالثة: بمعنى «على» نحو: ﴿ ﭶ  ﭷ [الإسراء: 107].

وحكى البيهقي عن حرملة عن الشافعي في قوله : «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ» [رواه البخاري (2155)، ومسلم (1504) في «صحيحيهما»]، أنَّ المراد: اشترطي عليهم الولاء.

الرابعة: للتعليل ومنه: ﴿ ﯫ ﯬ ﯭ [النساء: 105]، وقوله «أنت طالقٌ لرضى زيد» فتطلق في الحال؛ رَضِيَ زيد أو لم يَرْضَ، لأنه تعليل لا تعليق» اهـ.

قلت: أمَّا الرابعة فبيّن فيها أنَّ الطلاق غير معلق على شرط؛ لأنَّ اللام هنا تعليلية فحدث الطلاق مباشرة للمعنى المراد من اللام وهو التعليل، فتغير الحكم من تعليق الطلاق برضى زيد إلى وقوعه في الحال من غير اعتبار الرضى.

وأمَّا الثالثة: فقوله : «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ» بمعنى عليهم، لا لهم، فاختلف الحكم الشرعي؛ لأنَّ لهم عكس عليهم، وظاهر اللفظ لهم، ولذلك حدث الخلاف في المعنى.

قال النووي في: «شرح مسلم» (10/108):

«ولهذا الإشكال أنكر بعض العلماء هذا الحديث بجملته، وهذا منقول عن يحيى بن أكثم، واستدل بسقوط اللفظة في كثير من الروايات.

وقال جماهير العلماء: هذه اللفظة صحيحة، واختلفوا في تأويلها، فقال بعضهم: قوله: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ»؛ أي: عليهم، كما قال تعالى: ﴿ ﯛ ﯜ  [الرعد: 13] بمعنى عليهم، وقال تعالى: ﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ[الإسراء: 7]؛ أي: فعليها، وهذا منقول عن الشافعي والمزني» اهـ.

(7) الفرع السابع: «إذا»:

قال ابن النجَّار في «الكوكب» (1/275- 276):

«(إذْ) بإسكان الذال المعجمة (اسم)؛ لإضافتها في نحو: ﴿ ﯯ ﯰ ﯱ [آل عمران: 8]، ولتنوينها في نحو ﴿ [الزلزلة: 4]، وتأتي لتعليل نحو قوله تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ  ﮉ ﮊ [الزخرف: 39]، وقوله: ﴿ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ [الأحقاف: 11]» اهـ.

قلت: وذكرتها في هذا السياق؛ لدلالتها على العلّية في تخريج المناط الذي هو استخراج العلة التي هي ركن من أركان القياس الأربعة وهي: الأصل، والفرع، والعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والحكم.

والعلة عن الأصوليين هي مناط الحكم؛ لأنها مكان نَوْطِهِ أي تعليقه، وسميت علة؛ لأنها أثَّرتَ في المحل كعلة المريض وتأثيرها في جسده.

فقوله تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ  ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ [الزخرف: 39] إذْ علة دخولكم النَّار ظلمكم لأنفسكم وتقصيركم فعل ما أمرتم به ونهيتم عنه، وكذلك قوله: ﴿ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ[الأحقاف: 11]؛ أي: علة وسبب ضلالكم أنكم لم تهتدوا لكلام ربكم وسنة نبيكم، وقد قال تعالى: ﴿ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ  ﭨ ﭩ ﭪ[النور: 54]، وقوله: ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ[غافر: 71]، بعد قوله: ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ   ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ [غافر: 69]، وقال تعالى: ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ[آل عمران: 138].

(8) الفرع الثامن: «واو» العطف التي تقتضي المُغَايرَةَ:

قد ذكرت الواو في أول صور الحروف وكان منها معان كثيرة، وأرجأت معنًى آخر هنا لفائدة أخرى.

فقد رواه البخاري في «صحيحه» (831)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود ﭬ قال:

«علَّمني رسول الله التشهد، كفّي بين كفَّيه، كما يُعلمني السورة من القرآن: «التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليكم أيَّها النَّبِيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمدًّا عبده ورسوله».

قال الحافظ الفقيه الأصولي تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه: «إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام» (ص315- 316 ح 121):

«ورجَّح من اختار تشهد ابن مسعود -بعد كونه متفقًا عليه في الصحيحين- بأنَّ واو العطف تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلًّا، وإذا اسقطت واو العطف؛ كان ما عدا اللفظ الأول صفة له، فيكون جملة واحدة في الثناء، والأول أبلغ فكان أولى.

وزاد بعض الحنفية في تقرير هذا بأن قال: لو قال: والله، والرحمن، والرحيم، لكانت أيمانًا متعددة تتعدد بها الكفَّارة، ولو قال: والله الرحمن الرحيم، لكانت يمينًا واحدة» اهـ.

قلت: أمَّا تشهد ابن عباس فهو ما رواه مسلم (403) بلفظ: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» الحديث.

قال النووي في «شرح مسلم» (4/88):

«وقوله في حديث ابن عباس: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» كما
في حديث ابن مسعود وغيره، ولكن حذفت الواو اختصارًا، وهو جائز معروف في اللغة» اهـ.

وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» (4/350/ح775):

«والمباركات جمع مباركة: وهي كثيرة الخير، وقيل: النماء، وهذه الزيادة اشتمل عليها حديث ابن عباس، كما اشتمل عليها حديث ابن مسعود على زيادة الواو.

ولولا وقوع الإجماع -كما قدمنا- على جواز كل تشهد من التشهدات الصحيحة، لكان اللازم الأخذ بالزائد فالزائد من ألفاظها» اهـ.

فهذه جملة من حروف وأدوات المعاني، التي تتعلق بها أحكام الفقه ويتنازع في موجباتها المجتهدون، ويقع الاستنباط المؤثر على اختلاف الفتوى وتخريج الفروع على الأصول، والمباني التي تُبنى عليها الأحكام التّكليفية الخمسة، على مقتضى الفقه وأصوله، إذْ الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلّتها التفصيلة عن طريق الاجتهاد، وأصول الفقه هو: العلم بالقواعد التي يُتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلية التفصيلية.

زادنا الله وإيّاكم العلم والحكمة والفقه والفهم والاستنباط، قال الله تعالى لرسوله ﴿ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ [النساء: 113]، وقال العليم الحكيم: ﴿ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ[يوسف: 76]، والحمد لله أولًا وآخرًا فظاهرًا وباطنًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

كتبه

الدكتور عيد أبو السعود الكيال

مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock