الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ﷺ.
أمَّا بعدُ: فهذه مقالةٌ تحتاجُ إلى حُسْن الإنصاتِ والتدبّرِ والفهمِ والتركيز فلقد اتفق أهلُ العلم العقلاءِ من الفقهاءِ والأصوليين على هذه القاعدة الكليةِ المُطّرِدَةِ: «الحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوُّرِهِ»، وسأبدأُ ببيانِ معنى القاعدة، وحدِّها، ومعرفةِ ماهِيَّتِها:
(*) تعريفُ المرادِ بمعنى القاعدةِ وما حدُّها عامَّةً؟ يعني في اللغة والحديث والفقه والأصول؟
قال الجُرْجَاني في «التعريفات» (ص149) وهو قولُ الفقهاءِ والأصوليينَ عامة:
«القاعدة: هي قضية كليةٌ منطبقةٌ على جميعِ جُزئياتِها». اهـ.
يعني: القاعدة في كل العلوم والمرادُ: أنَّها قانون كليٌ يُرْجَعُ إليهِ في معرفةِ الفُروع التي تتفرعُ عليها هذه القاعدةُ الكليةُ، سواءً كانت قاعدةً فقهيةً أو أصوليةً؛ لذلك ما ذكره الجرجانيُّ آنفًا، هو معنى القاعدة الأصوليةِ واللُّغوية وهما أقوى، أمَّا القاعدةُ الفقهيةُ، فإنَّها تُقيَّدُ بقيدٍ وهو قولِهم: «غالبًا»: أي أنَّ كليَّتُها أضْعَفُ، وعليها بَعْضُ الفروع الاستثنائية التي تُنَزَّلُ منزلة الفقهيةِ عن الأصوليةِ واللغوية درجة.
أمَّا القاعدةُ الأصوليةُ فكُليتُها وشمولِيَّتُها عامةً في جميع فِروعها، لا استثناء فيها: كالقاعدةِ الكلية «الأمرُ للوجوب»، و«النهي للتحريم» وهي قاعدة تنطبقُ على كلِّ جزئياتِها، ولا يتخلَّف عنهما فرعٌ واحدٌ.
كما في حديث «الصحيحين»، البخاري (7288) ومسلم (1337) قال ﷺ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ»؛ يعني: الاجتناب الكلِّيَّ، أمَّا الأمر فكُلُّه واجب سوى العجز، قال تعالى: ﴿ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾ [البقرة: 43]، وقوله تعالى: ﴿ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [الأنعام: 151] وهكذا.
ومثالُ القاعدة الفقهية: «الأمورُ بمقاصِدِها» و«اليقينُ لا يزولُ بالشك» و«المشقة تجلبُ التيسير» و«الضَّررُ يُزَال» و«العادةُ مُحَكّمةٌ» وغيرُ ذلك مِنَ القواعِد [«شرح الكوكب المنير» (1/30 وما بعدها)] بزيادات وتصرّف.
(*) تعريفُ الحكم لُغةً وشرعًا:
قال الراغبُ الأصفهانيُّ في «المفرداتِ في غريبِ القرآنِ» (ص126):
«حَكَمَ: أَصْلُهُ: مَنَعَ مَنْعًا لإصلاحٍ؛ ومنه سُمِّيَ اللِّجامُ: حَكَمَةَ الدابة، فقيل: حَكَمْتُهُ، وَحَكَمْتُ الدابةَ: مَنَعْتُها بالحِكَمَةِ، وَأَحْكَمْتُهَا: جَعَلْتُ لها حَكَمَةً، وكذلك السَّفينة، وأحُكَمْتُها، قال الشاعِرُ:
«أبني خنيقةً أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ»
والحُكْمِ بالشيْء: أنْ تَقْضِيَ بأنَّه كذا، أو ليسَ بِكَذَا، سواءٌ ألْزَمْتَ ذلك غيْرك، أو لم يُلَزِمْه، قالَ تعالى: ﴿ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [النساء: 58]، وقال تعالى: ﴿ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [المائدة: 50]». اهـ.
وقال الجرجاني في «التعريفات» (82):
«الحُكْمُ: إسنادُ أمرِ إلى آخر، إيجابًا أو سلبًا، والحُكْمُ أيضًا: وَضْعُ الشيء في مَوْضِعِهِ، وقيل: هو ماله عاقبةٌ محمودةٌ.
والحُكْم الشرعي: حُكْمُ اللهِ المتعلقُ بأفعالِ المكلفين». اهـ؛ يعني: الأحكامُ التكليفيةُ الخمسةُ: الواجب، والندب، والحرام، والكراهة، والمباح.
(*) المرادُ بالتصوُّر في القاعدة:
قال الجُورجاني في «التعريفات» (52، 171)، (9):
«التصورُ حصولُ صورة الشيء في العقل، وهو إدراكُ الماهيَّةِ من غَيْرِ أنْ يحكم عليها بنفيٍ أو إثباتٍ، والماهِيَةُ: ماهيةُ الشيء: ما به الشيءُ هو هو، ويُطلقَ غالبًا على الأمرِ المُتعقلِ مِثْلِ المُتعقلِ من الإنسانِ، والأمرِ المُتعقل منِ حيثُ إنه مقولٌ في جواب: ما هو يُسمَّى ماهيةً، ومن حيثُ ثبوتهِ في الخارج يُسمى حقيقة.
(*) والإدراكُ: هو حصولُ الصورة في النفسِ الناطقةِ، وهو تمثيلُ حقيقةِ الشيءِ وحده من غيرْ حكمٍ عليه بنفيْ أو إثبات، ويسمَّى تصَوُّرًا، ومع الحكمِ بأحَدِهِما يُسمَى تصديقًا». اهـ.
وقال ابنُ النجَّار في «شرح الكوكبِ المُنير» (1/58- 59):
«وَالإِدْرَاكُ: أَيْ: إدْرَاكُ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ بِلا حُكْمِ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ: تَصَوُّرٌ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ سِوَى صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، وَبِهِ أَيْ وَبِالْحُكْمِ: يَعْنِي: أَنَّ تَصَوُّرَ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ تَصْدِيقٌ، أَيْ يُسَمَّى تَصْدِيقًا. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا: أَنَّ التَّصَوُّرَ: إدْرَاكُ الْحَقَائِقِ مُجَرَّدَةً عَنْ الأَحْكَامِ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ: إدْرَاكٌ نِسْبَةٌ حُكْمِيَّةٌ بَيْنَ الْحَقَائِقِ بِالإِيجَابِ أَوْ السَّلْبِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّصَوُّرُ تَصَوُّرًا؛ لأَخْذِهِ مِنْ الصُّورَةِ؛ لأَنَّه حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، وَسُمِّيَ التَّصْدِيقُ تَصْدِيقًا؛ لأَنَّ فِيهِ حُكْمًا يَصْدُقُ فِيهِ أَوْ يَكْذِبُ.
(*) التَّصَوُّرُِ ثَلاثةُ تَصَوُّرَاتٍ:
تَصَوُّرُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومِ بِهِ، مِنْ حَيْثُ هُمَا، ثُمَّ تَصَوُّرُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ؛ فَالْحُكْمُ يَكُونُ تَصَوُّرًا رَابِعًا؛ لأَنَّهُ تَصَوُّرُ تِلْكَ النِّسْبَةِ مُوجَبَةً، أَوْ تَصَوُّرُهَا مَنْفِيَّةً». اهـ.
(*) كلام شيخ الإسلام على القاعدة مع التمثِيل:
قلت: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» هذه القاعدة أكثرَ مِنَ موضع منها: (6/295- 297)، ومِمَّا قال وهو ينفي «الكلامَ النفسانيَّ لله»:
«وأمَّا الكُلَّابية: فالكلامُ عِنْدَهُمْ ليس بمقْدُور، فلا يُمْكِنُهم أن يحتجوا بهذه، فيُقال: هذه قَدْ دلَّت على قِدَمِ الكلامِ، لكنْ مَدْلُوُلُها قِدَم كِلامٍ معينٍ بغيرِ قُدْرَتِهِ ومشِيئَتِهِ؟! أم مدلولها: أنه لَم يزلْ متكلمًا بمشيئتهِ وقدرتهِ؟!: الأول: قولُ الكُلَّابية، والثاني: قولُ السلفِ والأئمةِ وأهلِ الحديث والسنةِ، فيقال: مدلُولها الثاني لا الأول، لأنَّ إثبات كلام يقومُ بذات المتكلم بدون مشيئتِهِ وقدرتهِ غيرُ معقولٍ ولا معلوم، والحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوّره … وأيضًا، فالكلامُ القديمُ النفسانيّ الذي أثبتّمُوُه ما هو؟ بل ولا تصورْتُمُوه، وإثباتُ الشيء فرعٌ عن تصوّرهِ، فمن لم يتصورْ ما يُثبِتُه كيف يُجوزُ أنْ يُثْبتَهُ؟
ولهذا كان أبو سعيد بن كُلَّاب -رأسُ هذه الطائفةِ وإمامُها في هذه المسألة- لا يّذْكُر في بيانِها شيءٌ يُعْقل، بل يقول: هو معنى يُناقضُ السكوتَ والخَرَسَ، والسكوتُ والخرسُ إنَّما يُتَصَوَّرانِ إذا تُصُوَّرَ الكلام، فالساكتُ هو الساكتُ عن الكلام، والأخرسُ هو العاجِزُ عنه، أو الذي حَصَلَتْ له آفةٌ مَحَلِّ النطق تَمْنَعُهُ عَنِ الكلامِ، وحينئذٍ فلا يُعْرَفُ الساكتُ والأخرسُ، حتى يُعْرَفَ الكلامُ، ولا يُعْرَفُ الكلامُ حتى يُعْرَفَ الساكتُ والأخرسُ، فَتَبيَّن أنَّهم لم يَتَصَوَّرُوا ما قالوه، ولم يُثْبِتُوه، ولم يُبَيّنُوه، والرسل ۏ، إذا أخبروا بشيءٍ ولم نتصوَّرْه، وَجَبَ تصديَقُهم، وأمَّا ما ثبتَ بالعقلِ، فلابدَّ أن يَتَصوَّرهُ القائل به، وإلَّا كان قد تَكَلَّمَ بلا عِلْمٍ، وكذلك مَنْ تكلَّم في كلامِ اللهِ بلا علم، كان كلامُه متناقضًا، ولم يَحْصُلْ له قولٌ يُعقَلْ». اهـ.
(*) قلت: إذا تدبَّرتَ هذا الكلامَ لشيخ الإسلام، عَلِمْتَ أنَّ هذه القاعدة الأصوليةَ: قاعدةٌ كليّةٌ شرعيةٌ عقليةٌ، يقومُ عليها مئاتُ الفَروعَ، التي تستفاد في الدين والدنيا، كما أثبت شيخ الإسلام بهذه القاعدة، صفات الله تعالى.
(*) والموضع الثاني: ذكره ابنْ تيمية في «مجموع الفتاوى» (14/57- 59) قال:
«والفرقُ في الصفاتِ المعتبرةِ في الحكمِ المقصودِ، إثباتُهُ أو نفْيُهُ، وقولُه: مِثْلُهُ كَمِثْلِ كذا، تَشْبيهٌ للمِثْلِ العِلْمِي بالمِثْل العلمِي؛ لأنَّه هو الذي يتوسَّطُهُ القياسُ، فإنَّ المعتبرَ يَنظرُ في أحدهما فَيَتَمثَّلَ في عِلْمَه، وينظرُ في الآخر فَيَتَمثَّلُ في علِمه، ثُمَّ يُعْتَبرُ أحدَ المِثْلَيْنِ بالآخَر، فيَجِدَهُمَا سواءً، فَيُعْلَمُ أنَّهُمَا سواءً في أنَفُسِهمَا، لاستوائِهما في العِلْمِ، ولَا يمكَنُ اعتبارُ أحَدِهَما بالآخَرِ في نَفْسِهِ حتى يتمثلَ كُلٌ منهما في العلم؛ فإنَّ الحكمَ على الشيء فرعٌ على تصوُّره … وبعضُ المواضع يَذْكُرُ سبحانَه الأصل المعتبرَ به؛ ليُسْتَفَادَ حكمُ الفرع منه مِنْ غيرِ تصريحٍ بذكْرِ الفرع كقوله: ﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ إلى قوله: ﴿ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [البقرة: 266] فإنَّ هذا يحتاجُ إلى تفكرُّ …. فَضَرْبُ المثل الذي هو القياسُ، لابدَّ أن يشْتَمِلَ على خَبَرٍ عامٍ، وقضيةٍ كليةٍ، وذلك هو المَثَلُ الثابِتُ في العقل، الذي تُقُاسُ به الأعيَانُ المقصودُ حُكْمِها». اهـ.
قلت: فأثَبْتَ حُجِّيَةَ القيَاسِ بهذه القاعدة.
(*) وأمَّا الموضع الثالث من «المجموع» (12/103): قال شيخُ الإسلام تفصيلًا لمعنى القاعدة:
«فهذه المسائِلُ إذا تصوَّرَها النَّاسُ على وَجْهِهَا تصورًا تامًّا، ظَهَرَ لهم الصوابُ، وقلَّتْ الأهواءُ والعصبِيَّاتُ، وعَرَفَوَا مَوْرِدَ النزاع؛ فمن تبيّنَ له الحقُ في شيءٍ من ذلك اتبَّعَهُ، ومن خَفِيَ عليه توقَفَ حتى يُبَيِّنَهُ اللهُ له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله، ومِنْ أحسنِ ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» [770/ 200] عن عائشة: أنَّ النَّبِيّ ﷺ كان إذا قام مِن الليلِ يصلي يقولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». اهـ. ثُمَّ قعَّد قاعدة كلية في محتوى قاعدتنا.
فقال شيخُ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (19/ 103):
«ونَحْنُ نذكُرُ في هذا الباب لسائر الأمة فنقول: لابدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترُد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثُمَّ يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلَّا فيبقى في كذب وجهل في الجزيئات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد جهل عظيم». اهـ.
قلت: وهي أول كلام بدأت به في كتابي الكبير «ما قلَّ ودل» وقد طبع والحمد لله.
(*) وتكلم الأصوليون في مسألة مصادِرِ أصولِ الفقِه وذكرَ أهلُ السنَّةِ أنها: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، ولغةُ العرب؛ لِتَوقُّفَ فَهْمِ الكتابِ والسنَّةِ والاستدلالِ بها عليهم، ومن المصادر: تصوّرُ الأحكام:
فقال الشوكانيُّ في «إرشاد الفحول» (1/69):
«الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُهَا أَوْ نَفْيُهَا، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ للوجوبِ، والنهيُ للتحريم، والصلاةُ واجبةٌ، والربا حَرَامٌ». اهـ.
ثُمَّ تكلم الإمامُ الحنبليُ الفقيهُ الأصوليُ عليُّ بنُ سليمانَ بنِ أحمدَ المَرْداوي (885)، في كتابه «التحبيرُ شرحُ التحرير» (1: 129) في هذا السياق فقال:
«الثالثُ: استمدادُه مِنْ تصوُّرِ الأحكامِ، أعني: تَصَوُّرُ أحكامِ التكليفِ؛ فإنّه فلابدَّ مِنْ تصوُّرِها؛ لَيتمكنَ منَ إثباتِها ونَفيها، وَلِتَوَقُفِ معرفةِ كيفيةِ الاستنباطِ عليه، والحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره، دون إثباتِ الأحكام في آحادِ المسائلِ، فإنَّ ذلك مِن الفقهِ، وهو يتوقَّفُ على الأصولِ». اهـ.
قلت:
(*) قاعدة الباب أصلٌ لبناءِ أصولِ الفقهِ عليها كَفَرْع لِها:
وَوَجْهُهُ ما ذَكَرَهُ المِرداويُّ آنفًا: بمراعَاة تطبيقِ القاعدِة لِفَهْمِ أصولِ الفِقْه بأركانِه، وقواعِدِهِ الكليةِ من الاجتهادِ والاستنباطِ، والفتوى وصحةِ الفهمِ وإدراك معرفةِ الأحكامِ التكليفية، فكل هذا لا يكون إلَّا بحسن التصور وفهم القاعدة والإعمال بها، وهذا يكفي للعاقِلِ بيانُ أهميةِ هذه القاعدة.
وقال ابن النجار في «الكوكب المنير» (1/50):
«وأمَّا توقّفُهُ مِنْ جهةِ تصوُّر ما يدَلُّ بهِ عليه، من تصوُّر أحكامِ التكليفِ؛ فإنَّه إنْ لم يتَصوّرْها، لم يتمكَّنْ مِنْ إثباتِها ولا مِنْ نفيها؛ لأنَّ الحكمَ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره.
واعلمْ أنه لمَّا كان لابُدَّ لكلِ مَنْ طَلَبَ عِلْمًا أن يَتَصَوَّرَهُ بوجْهٍ ما، ويَعْرفَ غَايَتَهُ وَمَادَّتَهُ: ذَكَرَ في أوَّل هذه المُقَدِّمَةِ حَدَّ أصول الفقهِ، مِنْ حيثُ إضافته، ومن حيث كونه علمًا وحدّ المتّصفِ بمعرفته؛ ليتصوَّرَه طالبُه من جهة تَعْرِيفِهِ بِحَدّه؛ ليكونَ على بصيرةٍ في طَلَبِهِ، ثُمَّ ذَكَر غايَتَه لئلا يكون سَعْيُهُ في طَلَبِهِ عَبَثًا، ثُمَّ ذَكَرَ ما يُسْتَمَدُّ منه، لِيَرْجِعَ في جُزْئِيَاتِهِ إلى مَحَلِّهَا». اهـ.
(*) الحاصلُ المستنبطُ مِنْ هذه القاعدة على ضوءِ ما مَرَّ مِنَ النقولات:
فإذا كان ذلك كذلك وتقرر عندك ما مضى وتمَهَّدَ لك بيانُ هذه القاعدة ومعناها وحَدُّها والمرادُ المقصودُ منها فاعلم:
أنَّ مرادَ هذه القاعدةِ الشرعيةِ العقليةِ المستقيمةِ على ضوءِ الكتابِ والسنَّة، والعقل الموافقِ للنصوص هو: قيامُ القاعدة على أصلٍ وفرعٍ، أمَّا الأصلُ فهو: حسنُ التصورِ وهو الإدراكُ والفهمُ الصحيحُ، لكل ما يُرادُ الحكمُ عليه مِنْ واجبٍ أو ندب أو حُرَمةٍ أو كراهةٍ أو إباحةٍ، أو مِنْ نفي أو إثباتٍ، أو سنةٍ أو بدعةٍ.
(*) وأمَّا الفرعُ الذي تَفرَّعَ مِنْ هَذَا الأصلِ فهو الحُكْمُ؛ يعني: لا يكونُ الحكمُ حُكْمًا صَحيحًا مُستقيمًا عَدْلًا حتى يتفَرعَ على الأصل الصحيحِ، وهو أصلُهُ المذكُورُ، فإنْ صَحَّ التصورُ صَحَّ الحُكْمُ، وإنْ بَطَلَ التصورُ بَطَلَ الحُكْمُ؛ ويؤكدُ هذه القاعدةُ، قاعدة كليةٌ أخرى وهي: «ما بُني على باطل فهو باطلٌ».
(*) روى ابنُ عبدِ البر في «جامع بيان العلمِ وفضله» (1610/ المختصر) عن إياسِ بن معاوية القاضي الفذِّ قال:
«إنَّ الشيء إذا بُني على عوجٍ لم يَكَدْ يَعْتَدِلْ».
ورواه الخطيبُ البَغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1150) في رواية:
«إنَّ البناءَ إذا بُني على غير أُسٍّ لم يَكَدْ تَعْتَدِلْ»، والأُسُ: الدعامة والركنُ والأصلُ الذي يُبنى عليه، وهو العلمُ الصحيحُ مع الفهم وحُسْن القصد، فإنَّ العبدَ إذا كان جاهِلًا هَلَكَ وَأَهْلَكَ؛ فإذا تعلَّم وعَلِمَ تسلِمَ له دينُه ودنياه.
ويؤكدُ ذلك: ما رواه ابنُ أبي شيبة في «المصنف» (38447) في كتاب الفتن عن حذيفة بن اليمان قال:
«أمَّا عَرَفَتَ دينَكَ يا أبا مسعود؟! قلتُ: بلى، قال: فإنها لا تضرُّك فتنةٌ ما عَرَفَتْ دَينَك، إِنَّما الفتنةُ إذا اشتبه عليك الحقُّ والبَاطِلُ فَلَمْ تَدْرِ أيَّهُمَا تَتْبَعُ فَتِلْكَ الفِتْنَةُ».
قلت: فهذا الأثرُ الذهبيُّ وهو كلُّ العلمِ بِرُمَّتِهِ وأصولِهِ وفروعهِ، وهو مِنْ جوامع الكَلِم؛ فاحْرِصْ عليه وعَضَّ عليه بنواجذِك عضًّا متينًا؛ إذْ هو خلاصةُ ومِلَاكُ الأَمرِ كُلِّهِ، وصِلَتهُ بهذِه القاعدةِ شقيقةٌ له، فلا يستقيمُ لامرئٍٍ عِلْمٍ ولا فَهْمٍ، إلَّا بِحُسْنَ القَصْدِ وصلاحِ النية.
(*) وَمِنْ أجْوَدِ ما قاله الإمامُ ابنُ القيم في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (1/76): عن الدِعامَتيْنِ والركْنَيْنِ الأصْلَيْن اللَّذَيْن قامَا عليها صحةُ قاعدةِ البابِ: «الحكمُ على الشيء فرعٌ عن تَصوِّره» صحةٌ الفهم، وحسنُ القصدِ، قال:
«صحةُ الفهمِ وحسنُ القصدِ مِنْ أعظَمِ نِعَمِ اللهِ التي أنْعَمَ بها على عَبْدِهِ، بل ما أُعْطِيَ عبدٌ عَطَاءً بعد الإسلامِ أفْضَلَ ولا أجلَّ منهما، بل هُمَا سَاقَا الإسلام وقيامُه عليهمَا، ويهِمَا يأمَنْ العبدُ طَرِيقَ المَغْضُوبِ عليهم الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُم وفهْمُهُمْ، ويَصَيرُ مِنَ المُنْعَمِ عليهم، الذين حَسُنَتْ أفهامُهم وقُصُودُهُم، وهم أهلُ الصرِاط المستقِيم الذين أُمِرْنَا أنْ نَسْأَلَ اللهَ أنْ يَهْدِينَا صِرَاطَهُم في كلِ صلاة.
(*) وصحةُ الفهم: نورٌ يقذفه اللهُ في قلب العبدِ، يُمَيِّزْ به بين الصحيح والفاسدِ، والحقِ والباطلِ، والهدى والضلالِ، والغيِ والرشادِ، وَيَمُدّهُ حُسْنُ القَصْدِ، وتحرِّي الحق، وتقوى الربِ في السّر والعلانيةِ، ويَقْطَعُ مادَّتَه اتباعُ الهوى وإيثارُ الدنيا، وطَلَبُ مَحْمَدَةُ الخَلقِ، وتركُ التقوى.
(*) ولا يتمكنُ المفتي ولا الحاكمُ مِن الفتوى والحكم إلَّا بنوعين مِنَ الفَهْمِ:
أَحَدُهُما: فَهْمُ الواقِع والفقهِ فيهِ واستنباطِ عِلمِ حَقَيقَةِ مَا وَقَعَ بالقرائِنِ والأماراتِ والعلامات حتى يحَيطَ به علمًا.
والثاني: فهمُ الواجب في الواقعِ، وهو فهمُ حُكْمِ اللهِ الذي حَكَمَ به في كتابِهِ أو على لسانِ رسولِهِ في هذا الواقع، ثُمَّ يُطبِّق أَحَدَهُما على الآخَر.
فَمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ واسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في ذَلِكَ، لم يَعْدِمْ أجْرَيْن أو أجْرًا، فالعالِمُ مَنْ يتوصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الواقعِ والتفقهِ فيهِ إلى مَعْرِفَة حُكْمِ اللهِ ورسوله». اهـ.
قلت: فكلُ ما قاله ابنُ القيمِ من هذا الكلامِ المتين الذي هو فهْمُ الدين، وكيفيةُ الاستفادة بالعلمِ والفتوى التي عليها مدار الحياة في الدنيا والدين: هو تطبيقُ قاعِدَتِنا.
(*) آثارٌ سلفيةٌ تطَبيقَيةٌ وهي فروعٌ على القاعدة للتمثيل وَالتبيين:
(1) ما رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1848) عن الحسن البصري قال:
«إنَّ المؤمنين قومٌ أوثَقَهُمُ القرآنُ وحالَ بَينهم وبينَ هَلَكَتِهِم، إنَّ المؤمن أسيرُ في الدنيا، يسعى في فِكَاكِ رقَبَتِهِ، لا يأمنُ شيئًا حتى يَلْقَى اللهُ ﻷ، يَعْلَمُ أنَّه مأخوذٌ عليه في سَمْعِهِ وَبَصَرَهِ وجَوَارَحِهِ».
(*) فهذا أثرٌ قائمٌ على الكتابِ والسنَّةِ والفهمِ الصحيح والتصوُّرِ الحقّ، وهو بيانٌ لنَجَاةِ المؤمنينَ وهلاكِهِمْ، فَمَنْ أوْثَقَ نَفْسَهُ بالقَرآنِ مُؤْتَمَرًا بأوامِره، مُنْتَهَيًا عن نواهِيَهِ، وَقَّافًا عِنْدَ حُدودِه، فَقَدْ أخذِ بسبيل النجاةِ، وحال بين نفسه وبين هلاكِها، فلمَّا كان التصوُّر صحيحًا، كان فرعُهُ وهو الحكمُ صحيحًا بصِحَّة أصْلِه.
(*) وهذا الأثَرُ مُستنبطٌ مِنْ حديثِ مُسْلِمِ (223) وهو مِنْ حديث أبي مالِكٍ الأشْعَرِيّ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها».
قال النووي في «شرح مسلم» (3/ 75):
«فمعناه: كلُ إنسانِ يسعى بِنَفْسِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يبيعُها للهَ بطاعتَهِ فَيُعْتِقُها مِنَ العذابِ، ومنْهُم مِنْ يبيُعها للشيطانِ والهوى باتباعِهِمَا فيوبِقُها؛ أي: يُهْلِكُها». اهـ
(2) ما رواه ما رواه اللالكائيُّ في «شرح أصولِ اعتقادِ أهلَ السنةِ والجماعةِ» (136)، وابنُ بطةَ في «الإِبِانةِ الكبرى» (162، 163) عن الأوزَاعيّ، عن الزهريّ قالَ:
«كان مَنْ مَضَى مِنْ علمائِنا يقولون: «الاعتصامُ بِالسنَّةِ نجاةِ، والعلمُ يقُبْضُ قبضًا سريعًا، فنعشُ العلمِ ثباتُ الدنيا والدين، وذَهَابُ العِلمِ ذَهَابُ ذلكَ كلُهُ».
قلتُ: فقوله: «كان مَنْ مَضَى من عُلَمَائِنا» يَشْمَلُ الصحابةَ والتابعينَ، وأمَّا مَتْنُ الحديثِ ومعناهُ مثْلُ حديث الحَسَن السابقِ، ولكن خصَّصَه بالسُّنَة، وهي البيانُ للقرآنِ، والأثران يُكْمِلُ بَعْضُهُما بَعْضًا، وهو أيضًا تصوُّرٌ في غاية الصِّحَّة، فلو عَمِلَ به النَّاسُ نَجَوْا وأفْلَحُوا وُوُفِّقُوا وسُدِّدُوا وأُرْشِدُوا، ثُمَّ بيَّن خُطوُرَةَ ذَهَابِ العِلْمِ والعُلَمَاءِ، كما في الرواية الثانية للعكبري قال: «فنعشُ العِلْمِ ثباتُ الدينِ، وَذَهَابُ ذلكَ كُلَهُ ذَهَابُ العلماء»؛ يعني: أنَّ النَّاسَ يَهْلَكُوَا بِذَهَابِ العلماءِ ولو لمْ يَفْهَمْ المَرْءُ هذا التصورَ لَهَلَكَ؛ كما ثبت في البخاري (7062) ومسلم (2672) قال ﷺ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ، وَالهَرْجُ: القَتْلُ».
قلت: فلو لَمْ تُطَبَّق هذه القاعدةُ «الحكمُ على الشيءِ فَرْعٌ عن تصوُره» فَسَدَ التصوُر وفسدَ الفهمُ، وبَطَلَ الحكمُ، وهَلَكَ النَّاسُ، وهذا خرابُ الدين والدنيا.
(3) وروى ابنُ بطة في الإبانة الكبرى (159) عن سلَّام بنِ مِسْكينَ قال:
كان قتادة إذا تلى قولَه تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ [فصلت: 3] قال: «إنكم قُلتم ربُّنا الله؛ فاستقيموا على أمرِ اللهِ وطاعتِه وسْنَةِ نبيّكم وامضُوا حيثُ تؤمرون، فالاستقامةُ أن تلبث على الإسلام، والطريقةِ الصالحة، ثُمَّ لا تمرق منها، ولا تخالِفُها، ولا تشذَّ عن السنَّةِ، ولا تخرُجَ عنها، فإنَّ أهلَ المُرُوقِ مِن الإسلامِ مُنْقَطِعُ بهم يومَ القيامة، ثُمَّ إياكُم وتصرّفَ الأخلاق، واجْعَلُوا الوجهَ واحدًا، والدعوةَ واحدةً، فإنه بلغنا أنَّ مَنْ كان ذا وجهين، وذا لسانين، كان له يومَ القيامةِ لسانانِ مِنْ نار».
قلت: وهذا أثرٌ كُتِب بماءِ الذهب، مَلِيءٌ بالعلمِ والفَهْمِ والإدْرَاكِ وحُسْنِ التصوُّرِ، فهو آمرٌ بالاستقامةِ على أمرِ اللهِ ورسوله، والمُضِيِّ قُدُمًا على سبيل الكتابِ والسنَّةِ، وبيَّنَ معنى الاستقامةِ ولا تروغَ رُوَغَان الثعالبَ، وأَمَرَ أن لا تخرجَ ولا تمْرُقَ عن الصراطِ المستقيم، واتَّبِعْ ولا تبتدع، ونهى عَنِ التلونِ في الدينِ والنفاقِ، وأنَّ هذا كُلَّه: بيانٌ لسبيلَ الهَدايةِ والضلالِ والغَي والرشادِ والحقِ والباطِل، فإنْ كان ذلك كذلك وتَمَّتْ لك الاستقامةُ فأنت مِن المُفْلِحِين، وإلَّا فَمِنَ الهالكين، وذلك على التصوُّر وحسنِ الفهمِ؛ لذلك أتْبَعَ العَكبري بأثر (160) بعد عَنِ ابن عبَّاسٍ ﭭ قال: «عليك بالاستقامةِ، اتبْع ولا تبتدع».
(4) وروى الآجريُّ في الشريعة (133) والخطيبُ البغدادي في «شَرَف أصحاب الحديث» (8) واللفظُ له عن الإمام الأوزاعي قال:
«عليك بآثارِ مَنْ سَلَفَ وإن رَفَضَكَ النَّاسُ، وإيَّاك وآراءَ الرجالِ وإنْ زَخْرَفُوا لك بالقول، فإنَّ الأمرَ ينجلي وأنت على صراط مُستقيمٍ».
وما قاله الأوزاعيُ بَيِّنٌ في حُسْنِ التصوُّرِ وَصِحَّةِ الفْهم، فلمَّا أَمَرهُ بآثارِ السَّلَفَ عَلِمَ أنَّه سَيَرْفُضُه النَّاسُ! لأنَّه سيكون في غُرْبَةٍ عند الاتباع وتركِ الابتداع، فلابُدَّ مِنَ الرفض والبلاءِ والمحاربةِ والغلِ والحِقِدِ والحسدِ والسعِي في فسادِ أَمرِك وشَأنِك، وذلك لغربةِ أهل الحق وكثرة أهل الشرّ والبدعِ والباطلِ وغَلَبَتَهِمِ وكثْرتِهِم وعُلوِّ باطِلهِم، ثُمَّ خُتمَّ حديثة وقولَهَ بأشدّ ما يكون: «فإنَّ الأمرَ ينجلَي وأنَتَ على صرَاطَ مستقيم»؛ يعني: يقول: لا يضرَّنَّك أي شيءِ، فما دُمْتَ على آثارِ السلفِ، والمنهجِ المستقيم، والتمسُّكِ بالحقِ وصَبَرْتَ، فإنَّ الأَمرَ سينجلي ويظهرُ الحقُ وأَهلُه، وينكشِفُ الباطلُ وأهلَهُ وتزولُ الغمةُ، وتذهب الفتنة، وأَنْتَ على صراط مستقيم بإذن الله تعالى، وفضله ومَنّه، كما قال تعالى: ﴿ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [هود: 49].
(5) حديث حذيفة الذي مرَّ وقوله: «هل عرفت دينك يا أبا مسعود»؟! فهو فرع أيضًا على هذه القاعدةِ وقد بينته آنفًا.
(6) وهو أهم فرع على القاعدة: قيامُ أصول الفقه عليها كما ذكرت.
(7) كلام شيخ الإسلام ابنِ تيمية -وقد مرَّ- وهو في الردّ على من قال بالكلام النفساني، وبيان ضلالِه وباطلِه، والجهل بصفات الله تعالى، وكان أصلُ كلامِهِ التفريعَ على قاعدة الباب: «الحكمُ على الشيء فرع عن تصوّره»، وكذلك أثبت بها القياس.
(*) وأختم بأثرين جليلين، رواهما أبو نعيم في «حلية الأولياء»:
الأول (15106) عن حمدون القصَّار، أنه سُئل: ما بالُ كلام السلفِ أنفعُ مِنْ كلامنا؟! قال:
«لأنهم تَكَلَّمُوا لعزِّ الإسلامِ، ونجاةِ النفوس، ورضاءِ الرحمنِ، ونَحْنُ نتكلَّم لعزِّ النفسِ، وطلبِ الدنيا وقبول الخَلْق».
والثاني: (14360) عن علي بن الفُضَيْل بن عياض أنه قال:
يا أبتِ ما أحلى كلام أصحاب محمد ﷺ، فقال: «وَتَدْرِي لم حلا؟!» قال: لا يا أبت! قال: «لأنهم أرادوا الله به».
إخواني في الله: تشمَّموا أقوالَ القائلين، وأقلامَ الكاتبين؛ فإنَ على الحقِّ نورًا، يُرى ويُفاح، وينتشر ويُراح، ويُضيء ويستنير، ويُهْدى به ويستعير، ويَدُلّ بعلْمِهِ إلى المصير، واللهُ يقول الحقُ وهو يهدي السبيل، ولله الأمرُ من قبل ومِن بعد، والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا والذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
كتبه
الدكتور: ابن الكيال، وكان الانتهاء منه ليلة الأحد
26/ ذو القعدة/ 1440هـ