ر8055 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 03-10-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
التوجيه الفقهي الأصولي لتعدد الزوجات

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام علىٰ مَن لا نبيَّ بعده ﷺ ، أمَّا بعد :
فلقد خلَقَنا ربُّ العِزَّة -جَلَّ وعَلا- لعبادته، والعبادة: الأمر والنهي؛ قال تعالىٰ: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]0
قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (17/ 42) :
(( قال عليٌّ ﭬ : أي: وما خلقْتُ الجنَّ والإنسَ إلَّا لِآمُـرَهُم بالعبادة0
وعن مجاهدٍ قال: إلَّا لِآمُـرَهُم وأنهاهُم )) اهـ0
والأمر والنهي هو الحُكْمُ التكليفيُّ الذي كَلَّفَ اللهُ به العِـباد0
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوىٰ» (8/ 182) :
(( خِطاب التكليف الذي يُطْلَبُ به مِن المأمور فِـعْلًا أو تَـرْكًا، يفعله بقُدْرَةٍ وإرادة )) اهـ0
والمأمور يُـطْلَبُ منه طَلَبُ جَـزْمٍ وهو الواجب ، ويُـطْلَبُ منه بغير جَـزْمٍ وهو النَّدْب والاستحباب، أي: المَنْدُوب والسُّـنة ، ويُـطْلَبُ منه تَـرْكُ جَـزْمٍ وهو الحرام ، وغير جَـزْمٍ وهو المكروه ، ثُمَّ المُـباح الجائز الذي للمُكَلَّفِ أن يفعله أو يتركه ، ولا إثم عليه في الفعل والتَّرك0
قال ابنُ النجَّار في «شرح الكوكب المنير» (1/ 133) :
(( قال الإمامُ أحمد : الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ خِطابُ الشرع وقَوْلُه )) اهـ0
* ومعنَى التكليف لُـغَـةً :
قال الجُرجانِي في«التعريفات» (ص58) :
(( التكليف: إلزامُ الكُلْفَةِ علَى المُخاطَب )) اهـ0
وقال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر» (4/ 170) :
(( وكلَّفه الشيءَ تكليفًا: إذا أمَـرَهُ بما يَشُقُّ عليه ، وتكلَّفتُ الشيءَ: إذا تَجَشَّمْتُهُ علىٰ مَشَقَّة )) اهـ0
* وأمَّا معناه في الشرع والاصطلاح :
فـقد قال ابنُ بدران في «المدخل إلىٰ مذهب الإمام أحمد بن حنبل» (ص86) :
(( هو لُـغَـةً: إلزامُ ما فيه كُلْفَةٌ أو مَشَقَّة0 وشرعًا: إلزامُ مُـقْـتَـضَىٰ خِطاب الشرع0
وعلىٰ هذا تكون الإباحةُ تكليفًا ؛ لأنها مِن مُـقـتضيات الخطاب المذكور0
ومَن قال: إنَّ الإباحةَ ليست تكليفًا يقول: التكليف هو الخطاب بأمرٍ ونَهْي )) اهـ0
وقال الشنقيطي في «مذكرة أصول الفقه علىٰ رَوْضَةِ الناظر لِابن قُدامة» (ص30-31) :
(( وحَدُّهُ في الاصطلاح: قيل: إلزام ما فيه مَشقَّة ، وقيل: طَلَبُ ما فيه مَشقَّة0
فـعَلَى الأول: لا يدخل في حَدِّهِ إلَّا الواجب والحرام ؛ إذْ لا إلزام بغيرهما ، وعلى الثانِي: يدخل معهما المندوب والمكروه ؛ لأنَّ الأربعةَ مطلوبةٌ0
وأمَّا الجائز: فلا يدخل في تعريفٍ مِن تعاريف التكليف ؛ إذْ لا طَلَبَ به أصلًا ؛ فِـعْلًا ولا تَـرْكًا ، وإنَّما أدخَلوه في أقسام التكاليف مُسامَحةً )) اهـ0
والمشهور عند الأصوليين في تعريف الحُكْم الشرعي، ما قاله ابنُ بَـدْران في «المدخل» (ص87) :
(( ومِن اصطلاح الأصوليين: مُـقـتضَىٰ خِطاب الشرع المتعلِّق بأفعال المُـكَلَّفين اقـتضاءً أو تخـييرًا )) اهـ0
والاقـتضاء هو الطلب ؛ كما مَـرَّ ؛ يكون طلبًا جازِمًا بالفعل أو التَّرك ، وهو الواجب والحرام ، وغير جازِم ، وهو المندوب والمكروه ، أو تخـييرًا ، وهو المباح0
فـقوله تعالىٰ: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [البقرة: 43] ، وقوله تعالىٰ: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] ، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا﴾ [آل عمران: 97] ، فهذه أوامر علَى الوجوب والحـتم والإلزام0
وقوله تعالىٰ: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ﴾ [الإسراء: 32] ، وقوله: ﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ﴾ [الإسراء: 33] ، وقوله: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ﴾ [الإسراء: 36] ، وقوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ [البقرة: 188] ، فهذا كله حرامٌ علىٰ وجه الحـتم والإلزام0
وهناك أوامر ليست علىٰ وجه الإلزام ؛ كقوله تعالىٰ: ﴿وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ﴾ [الحج: 77] ، فمن الخير ما هو مندوبٌ مُسْتَحَبٌ كَـكُـلِّ السُّـنَنِ غير الواجبة في الصلاة والزكاة والصوم والحج والعُمرة0
وكذلك قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ﴾ [النحل: 90] ، فالإحسان مأمورٌ به أمر نَدْبٍ ، كما في حديث جبريل المشهور ، وقد قال تعالىٰ: ﴿مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖ﴾ [التوبة: 91] ، والإحسان مَـنْـزِلةٌ فوق الإيمان0
وكذلك المكروه يُنهىٰ عنه بغير حـتمٍ ولا إلزام ، فـفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (1278) ، ومسلم (938) ، عن أم عطية ڤ قالت: (( نُهِـينا عن اتِّباع الجنائز ولَمْ يُعزَمْ علينا ))0
قال الحافظ ابن حَجَر في «فـتح الباري شرح صحيح البخاري» (3/ 167) :
(( قولها: «ولَمْ يُعزَمْ علينا» أي: ولَمْ يؤكَّدْ علينا في المنع كما أُكِّدَ علينا في غيره مِن المَنهِيَّات، فكأنها قالت: كُرِهَ لنا اتِّباعُ الجنائز مِنْ غير تحريم0
وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أنَّ النهيَ نَهْيَ تَـنْـزِيه ، وبه قال جمهورُ أهل العِلْم ، وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالةٌ علىٰ أنَّ النَّهْيَ مِن الشارِع علىٰ درجات … )) اهـ0
* الدليل علىٰ أنَّ تعدُّد الزوجات علىٰ الإباحة ، لَا علَى الاستحباب :
أمَّا المُـباحُ فمِـثْل قولهِ تعالىٰ: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ [البقرة: 198] ، وقولهِ: ﴿وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْ﴾ [المائدة: 2] ، وقولهِ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾ [الجمعة: 9] ، وقوله: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ﴾ [البقرة: 187] ، وقولهِ: ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ﴾ [النساء: 3]0
فإنَّ مِن صِيَغِ المُـباح نَـفْيُ الجُناح، فالتجارة مع الحج على الإباحة ، والاصطياد للمُحْرِم بعد الحِلِّ علَى الإباحة ، والانتشار في الأرض والبيع بعد صلاة الجمعة علَى الإباحة ، والأكل والشرب في ليالي رمضان علَى الإباحة ، وكذلك نِكَاحُ النساء مَـثْـنىٰ وثُلاثَ ورُباعَ علَى الإباحة والجَواز0
وهذا هو الأصل على معنَى الآية ؛ لأنَّ الأمر هُنا مَصْرُوفٌ عن ظاهرِهِ قَطْعًا ، كما هو مَصْرُوفٌ عن ظاهِرِهِ في الآيات المذكورة آنِـفًا ، مِن الاصطياد والأكل والشرب والبيع ، وغير ذلك مِن الآيات0
* وسبب نُـزُول الآية يؤكِّد ذلك ؛ فـقد روىٰ مسلمٌ في صحيحه (6/ 3018) عن عُروة بن الزُّبَـيْر أنه سأل عائشة عن قوله: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ﴾ [النساء: 3] ، قالت: (( يا ابْنَ أُختي، هي اليتيمة تكون في حِجْرِ وَلِـيِّها ، تُشارِكُهُ في ماله ، فـيُعجبه مالُها وجَمالُها ، فـيُريد وَلِـيُّها أن يـتـزوَّجَها بغير أن يُـقْسِطَ في صَداقِها ، فـيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فـنُـهُوا أن ينكحوهُنَّ ؛ إلَّا أن يُـقْسِطُوا لَـهُنَّ ، ويـبلُغوا بِهِنَّ أعلىٰ سُـنَّـتَـهُنَّ مِن الصَّداق ، وأُمِـرُوا أن يَـنكِحوا ما طابَ لهم مِن النساء سِواهُنَّ، ثُمَّ إنَّ الناسَ اسْـتَـفْـتَوْا رسولَ الله ﷺ بعد هذه الآية فيهنَّ، فأنـزَلَ الله -عَزَّ وجَلَّ- : ﴿وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127] )) 0
قالت عائشةُ ڤ: (( والذي ذَكَرَ اللهُ أنه يُـتْلَىٰ عليكم في الكتاب في الآية الأُولَى التي قال اللهُ فيها: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ [النساء: 3] ))0
قالت عائشةُ ڤ: (( وقول الله في الآية الأُخرىٰ: ﴿وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾: رَغبة أحدِكم في اليتيمة التي تكون في حِجْرِهِ حين تكون قليلةَ المال والجمال ، فـنُـهُوا أن ينكحوا ما رَغِـبُوا في مالِها وجمالِها مِن يتامَى النساء إلَّا بالقِسط ؛ مِنْ أَجْلِ رَغْـبَـتِهِم عنهنَّ ))0
وفي روايةٍ عند مسلم (7/ 3018) : قالت عائشةُ ڤ: (( أُنْـزِلَتْ في الرَّجُلِ تكون له اليتيمة وهو وَلِـيُّها ووارِثُها، ولها مالٌ، وليس لها أحدٌ يُخاصِمُ دُونَها، فلا ينكحها لِمالِها فـيضربها ويسيء صُحْـبَـتَها، فـقال: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾: يقول: ما أَحْلَلْتُ لكم، ودَعْ هذه التي تضربها )) ، فـبَـيَّـنَتْ هذه الرواية أنَّ أصلَ الأمرِ هُـنا علَى الحِلِّ0
والحديثُ رواه البخاريُّ في صحيحه أيضًا (4573 ، 4574)0
قال القرطبي في تفسيره (5/ 10) :
(( قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ﴾ شَرْطٌ ، وجوابه: ﴿فَٱنكِحُواْ﴾ أي: إنْ خِـفْـتُم في مُـهُورِهِنَّ وفي النَّـفَقَةِ عليهنَّ ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم﴾ أيْ: غيرهنَّ ، وروَى الأئمَّةُ -واللفظُ لمسلم-…)) اهـ ، فذَكَرَ حديثَ عائشةَ ڤ0
ثُمَّ قال: (( السادسة: قوله تعالىٰ: ﴿مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ [النساء: 3] معناه: ما حَلَّ لكم ، عن الحسن وابن جُبير وغيرهما )) اهـ0
قال أبو العباس القرطبي في «المُـفْهِم لِمَا أُشْكِلَ مِن تلخيص كتاب مسلم» (7/ 273-274) :
(( وقد اتفق كل مَن يُعانِي العُلومَ علىٰ أنَّ قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ﴾ ليس له مفهوم حاشية(1) ؛ إذْ قد أجمعَ المسلمون علىٰ أنَّ مَن لَمْ يَخَفْ القِسْطَ في اليتامىٰ له أن يَـنْكِحَ أكثرَ مِن واحدة: اثنين ، أو ثلاثًا ، أو أربعًا ، كمَنْ خافَ ، فدَلَّ ذلك علىٰ أنَّ الآية جوابًا لِمَنْ خاف، وأنَّ حُكْمَها أَعَمُّ مِن ذلك )) اهـ0
_____________________________
(1) يريد أنَّ مفهوم المُخالَفة مِنْ هذه الآية غيرُ مُرادٍ بالإجماع0

ونفسُ الإجماع نَـقَلَهُ القاضي أبو بكرٍ ابن العربي في«أحكام القرآن» (1/ 310)0
* النظر في زيجات النبي ﷺ :
وعليه، فأصل التعدُّد علَى الحِلِّ والجَواز ، والذي يؤكد ذلك: أنَّ رسولَ الله ﷺ ظَلَّ مع زوجته الأُولىٰ خديجة ڤ وكانت أكبر منه بخمس عشرة سنة ، وظَلَّ معها مع كِـبَرِ سِـنِّها عنه حتىٰ ماتتْ ڤ ولَمْ يـتـزَوَّجْ عليها ، ولو كان التعدُّد مندوبًا إلىٰ فِعله مُـطْـلَـقًا لَـفَـعَـلَـهُ ﷺ في حياتها0
ثُمَّ إنَّ المُـتَـتَبِّعَ لِأسباب الزَّواج ممَّن تَـزَوَّجَهُنَّ النبي ﷺ لَـيَعْلَمَ ذلك ؛ فـقد تَـزَوَّجَ عائشةَ ڤ بِوَحْيٍ ، والحديثُ في صحيح البخاريِّ (3895) ومسلم (2438) جاء المَلَكُ بصورتها «ثلاثًا» وقال: (( هذه امرأتُك ))0
وتَـزَوَّجَ زَيْـنَب بنتَ جحشٍ ڤ بِوَحْيٍ كما في سورة الأحزاب ، حيث قال تعالىٰ: ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا﴾ [الأحزاب: 37]0
وتـزَوَّجَ أُمَّ حبيبة ڤ تأليفًا لِقلب أبي سُفيان ومعاوية ﭭ ، وبعد أن تـنَصَّرَ زَوْجُها وارْتَدَّ ومات وكانت بالحَبَشَة ، فجَـبَـرَ رسولُ الله ﷺ قلبَها0
وقد وَرَدَ في صحيح مسلم (2501) أنَّ أبا سـفيان طَـلَبَ مِن النبي ﷺ أن يـتـزوَّج ابـنـتـه أمَّ حبـيـبة،
وقال النبي ﷺ : (( نعم )) ، ولـكن هـذه الواقـعـة كانت بعد زواج النبي ﷺ مِن أمِّ حبيبة ڤ ، وانظر في ذلك «شرح مسلم للنووي» (16/ 49-50) ، وتفسير ابن كثير (8/ 57) عند سورة الممتحنة الآية (7) ، والإصابة في تمييز الصحابة (ت11859) أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان0
وتـزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ ڤ لِدَافِعٍ دِيـني وتأليفًا لقلوب قومِها حتىٰ أسلَمَ مِن قومها خَلْقٌ كثير ، وأطْلَقَ المسلمون ما بأيدِيهم مِن الأسرىٰ تكريمًا وتشريفًا ، حتىٰ وُصِفَتْ بأنها أكْـثَـرُ النساء برَكَةً0
والحديث رواه أبو داود في سُـننه (3931) ، وقال المُـنْذِرِيُّ في «تهذيب السُّـنن» عند الحديث:
(( وفيه محمد بن إسـحـٰق بن يسار ، وقد عَـنْـعَـنَـهُ … ))0
قال أبو الطيب في«عون المعبود» (7/ 74) بعد ذِكْرِ كلام المنذري:
(( قلتُ: وقد صَرَّحَ بالتحديث في رواية يُونُسَ بن بكير عنه ، وأخرجه أيضًا أحمدُ في مُسندِه )) اهـ0
ولفظ الحديث عن عائشة ڤ قالت أنَّ جويريةَ بنتَ الحارث قالت لرسول الله ﷺ : يا رسولَ الله، أنا جويرية بنت الحارث، وإنَّما كان مِنْ أمري ما لا يخفىٰ عليك، وإنِّي في سَهْمِ ثابت بن قيس بن شمَّاس، وإنِّي كاتَـبْتُ علىٰ نفسي، فـجـئـتُـك أسألك في كتابتي، فـقال رسولُ الله ﷺ : (( فهل لكِ إلىٰ ما هو خيرٌ منه ؟ ))، قالت: ما هو يا رسولَ الله ؟ قال: (( أُؤَدِّي عنك كِـتَـابَـتَـكِ وأتـزَوَّجَكِ )) قالت: قد فعلت0
قالت: فـتسامَعَ -يعني الناس- أنَّ رسولَ الله ﷺ قد تـزَوَّجَ جُوَيريةَ فأرسَلوا ما في أيديهم مِن السَّـبْي فأعـتقُوهم، وقالوا: أصهار رسول الله ﷺ ، فما رأينا امرأةً كانت أعظمَ بركةً علىٰ قومِـها منها، أُعْـتِـقَ في سَـبْـيِها مائةُ أهل بيتٍ مِن بَـنِـي المُصْطَلِق0
قال أبو الطيب في«عون المعبود» (7/ 75) :
(( «مائةُ أهلِ بيتٍ» بالإضافة، أيْ: مائةُ طائفةٍ، كلُّ واحدةٍ منهنَّ أهلُ بيت، ولَمْ تَـقُلْ مائة هم أهل بيت، لإيهام أنهم مائة نفسٍ كلهم أهل بيت، وليس مُـرادًا، وقد رُوِيَ أنهم كانوا أكثر مِن سبعمائة، قاله الزرقانِي )) اهـ0
وانظر كذلك «سيرة ابن هشام» (3/ 268-270)0
أمَّا أُمُّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث ڤ فـقد ذَكَرَ الحافظُ ابن حجر في ترجمتها في «الإصابة في تمييز الصحابة» (ت12430) :
(( إنَّ العباس وَصَفَها له – [أي: لرسول الله ﷺ] – وقال: قد تأيَّمَتْ مِنْ أبي رَهْم، فـتـزَوَّجَها )) اهـ0
أي: لَمَّا مات زوجُها رَأَفَ بها النبيُّ ﷺ وشَرَّفَها بزواجه لها0
وكُلُّ مَن تـزَوَّجَهُنَّ النبيُّ ﷺ عدا عائشة ثَـيِّـبَات0
وتَـزَوَّجَ حفصةَ ڤ لِمَكانة عمر بن الخطاب ﭬ وطلَّقها ثُمَّ رَدَّها بالوحي ؛ وإرضاءً لعمر لحزنه الشديد علىٰ طلاقها0
ثُمَّ اعلم أنه ليس هناك حديث مرفوع إلىٰ رسول الله ﷺ طَلَبَ مِن الأُمَّـة طَلَبَ جَـزْمٍ أو نَـدْبٍ بـتـعَـدُّدِ الزَّوجات لا في حديث صحيح ولا ضعيف علىٰ ما وَقَـفْتُ عليه مِن أحاديث رسول الله ﷺ ، اللَّهُمَّ إلَّا النَّدْب بتكثير الذُّرِّيَّة لأنه سيُباهي بنا الأُمَمَ يومَ القيامة، وبِحَـثِّهِ لِرجال الأُمَّة بِـتَـزَوُّجِ الوَلُودِ الوَدُودِ مِن النساء ، وهُـنا الجِهَةُ مُـنْـفَكَّـة ؛ لأنَّ الذي يـتـزَوَّجُ امرأةً وَلُودًا كثيرةَ الإنجاب فـقد أصاب الحديثَ مِنْ غير تعدُّد0
وأمَّا ما رواه الطبرانِيُّ في «الكبير» (12398)، والبخاري (5069) عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: (( هل تـزَوَّجْتَ؟ )) قلتُ: لا ، قال: (( تـزَوَّجْ فإنَّ خيرَ هذه الأُمَّة أكْـثَـرُها نساءً ))0
فليس المراد مـنه إلَّا الحَثّ علَى الزواج وأنه أفـضل مِن عَـدَمـهِ ، إذْ لو كان عَـدَمُ الزواج مَـرغُـوبًا فيه لَـفَـعَـلَـهُ النبي ﷺ ؛ ويؤكد ذلك رواية الطبرانِي، قال: (( تَـزَوَّجْ فإنَّ خَـيْـرَنا كان أكـثَـرَنا نساءً )) يعني: رسول الله ﷺ0
قال الشوكانِي في«نَـيْلِ الأوطار» (12/ 26-27) عند هذا الأثر مِن «المُـنْـتَـقَىٰ» (2624) :
(( قيل: مراد ابن عباس بخير هذه الأُمَّـة: النبي ﷺ )) اهـ ، ثُمَّ ذَكَـرَ روايةَ الطبرانِي المذكورة0
والأثر رواه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح ، «باب: كثرة النساء»0
قال الحافظ ابن حجر في«فـتح الباري» (9/ 126-127) :
(( والذي يظهَر أنَّ مراد ابن عباس بالخير: النبي ﷺ ، وبالأُمَّـة: أَخِصَّاء الصحابة ، وكأنه أشار إلىٰ أنَّ تَـرْكَ التَّـزَوُّجِ مرجوحٌ ؛ إذْ لو كان راجحًا ما آثَـرَ النبي ﷺ غيره0
وكان مع كونه أخشَى الناس لله وأعلمهم به يُـكْـثِـرُ التَّـزَوُّج ؛ لِمَصلحةٍ بتبليغ الأحكام التي لا يطَّلع عليها الرجال ، ولإظهار المعجزة في خَـرْقِ العادَة ؛ لكونه كان لا يَجِدُ ما يشبع به مِن القُوت غالبًا ، وإن وَجَدَ كان يُؤْثِـرُ بأكـثره ، ويصوم كثيرًا ، ومع ذلك فكان يطوف علىٰ نسائه في الليلة الواحدة ، ولا يُـطاقُ ذلك إلَّا مع قوة البدن ، وقوةُ البدن تابعةٌ لِمَا يقوم به مِن استعمال المُـقَـوِّيات مِن مأكولٍ ومشروب ، وهي عنده نادرةٌ أو معدومة0
[* لماذا أكثر النبي ﷺ مِن تَـزَوُّجِ النساء] :
والذي تحصَّلَ مِن كلام أهل العِلْم في استكثاره مِن النساء عشرة أَوْجُهٍ :
أحدها: أن يكثر مَن يُشاهِد أحواله الباطنية فـينـتـفي عنه ما يظن به المشركون مِن أنه ساحرٌ أو غير ذلك0
ثانيها: لِتشرفَ به قبائلُ العرب بمُصاهَرته فيهم0
ثالثها: للزيادة مِن تأَلُّفِهِم لذلك0
رابعها: للزيادة في التكليف ؛ حيث كُلِّفَ أن يشغله ما حُـبِّبَ إليه مِنهنَّ عن المبالغة في التبليغ0
خامسها: لِتكثير عشيرته مِن جِهة نسائه فـتـزداد أعوانه علىٰ مَن يُحاربه0
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطَّلع عليها الرجال؛ لأنَّ أكثر ما يقع مِن الزوجة ممَّا شأنه أن يختفي مثله0
سابعها: الاطلاع علىٰ محاسن أخلاقه الباطنة ؛ فـقد تزَوَّجَ أُمَّ حبيبة ، وأبوها إذْ ذاك يُعاديه ، وصَـفِـيَّـةَ بعد قـتل أبـيها وعـمِّـها وزوجِـها ، فلو لَمْ يَـكُنْ أكملَ الخَـلْـقِ في خُـلُـقـهِ لَـنَـفَـرْنَ منه ، بل الذي وَقَـعَ أنه كان أَحَبَّ إليهنَّ مِن جميع أهلهنَّ0
ثامنها: ما تـقدَّمَ مِنْ خَـرْقِ العادَة … تاسعها وعاشرها: ما تـقدَّمَ مِن تحصينهِنَّ والقـيام بحُقوقهنَّ0
وفي الحديث الحَضُّ علىٰ التَّـزَوُّجِ وتَـرْكِ الرَّهبانية )) اهـ0
وروىٰ أحمد في «المُسْنَد» (12233) ، والحاكم في «المُستدرَك» (267) وصححه ، ووافـقه الذهبي ، والنسائي في «المُجْـتَبىٰ» (السُّـنن الصغرىٰ) (3949) مِنْ حديث أنسٍ عن النبي ﷺ قال:
(( حُبِّبَ إليَّ مِن الدُّنيا: النساءُ ، والطِّيبُ ، وجُعِلَتْ قُـرَّةُ عـيني في الصلاة ))0
ذَكَـرَ السيوطِـيُّ الحديث في «الجامع الصغير» (3669) 0
قال المُـناوِيُّ في «فـيض القدير» (3/ 475) :
(( قال الحاكم: صحيحٌ علىٰ شرط مسلم ، وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد ، وقال ابن حجر: حسن )) اهـ0
وقال المُـناوي أيضًا في شرح الحديث ، كما في «الفـيض» (3/ 474) :
(( وأمَّا هو ﷺ فلَمْ يلْـتَـفِتْ إلَّا إلىٰ ما ترَتَّبَ عليه مُـهِمٌّ دِيـنِـيٌّ فحُـبِّبَ إليه «النساءُ» والإكـثارُ منهنَّ ؛ لِـنَـقْلِ ما بَطَنَ مِن الشريعة ممَّا يُـسْـتَحْيَىٰ مِن ذِكْرِهِ مِن الرجال )) اهـ0
وقال السيوطي في «شرح سُـنن النسائي» (3/ 729-731) :
(( قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : … إنَّ الله تعالىٰ أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يُستحيَىٰ مِن ذِكْرِهِ ، وما لا يُستحيىٰ منه ، وكان رسول الله ﷺ أشد الناس حياءً ، فجعل الله تعالىٰ له نِسوة يـنـقُلْنَ مِن الشرع ما يرَيْـنَـهُ مِن أفعاله ويسمعنه مِن أقواله حاشية(2) التي قد يستحيي مِن الإفصاح بها بحضرة الرجال ؛ ليكتمل نقل الشريعة ، وكَــثَّـرَ عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع ، ومِـنهنَّ عُـرِفَتْ مسائلُ الغُسْل والحـيض والعِدَّة ونحوها ، ولَمْ يكُن ذلك لشهوةٍ منه في النكاح ، ولا كان يحب الوَطْءَ لِلَّـذَّةِ البشرية -معاذَ الله- ، وإنَّما حُبِّبَ إليه النساءُ لِنقلهنَّ عنه ما يستحيي هو مِن الإمعان في التلـفُّـظ به ، فأَحَـبَّـهُنَّ ؛ لِما فيه مِن الإعانة علىٰ نقل الشريعة في هذه الأبواب0
_____________________________
(2) قال تعالىٰ لنساء النبي ﷺ : ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ﴾ [الأحزاب: 34]0

وأيضًا فـقد نَـقَـلْنَ ما لَمْ ينقُله غيرهنَّ ممَّا رَأَيْـنَـهُ في مَـنامهِ وحال خلوته مِن الآيات البيِّنات علىٰ نُـبُـوَّتهِ ، ومِن جِدِّهِ واجتهادهِ في العبادة ، ومِن أمورٍ يشهد كلُّ ذي لُبٍّ أنها لا تكون إلَّا لنبيٍّ ، وما كان يشاهدها غيرهنَّ ، فحصل بذلك خيرٌ عظيم )) اهـ0
وعليه، فـقد اتفقتْ كلمةُ الشُّرَّاح علىٰ تعليلٍ واحدٍ لكثرة نسائه ، فاتَّضَحَ بكلام أهل العِلْم أنَّ تعدُّدَ الزَّوجات كان له ﷺ لِعَـلَلٍ ليستْ في غيره في الجُمْلة ؛ فمَن ادَّعَىٰ أنَّ التعدُّدَ الأصلُ فيه الاستحباب والنَّدْب والسُّـنِّـيَّـة فـعَـلَـيْـهِ بالدليل ، ولا دليل0
* التعدُّد تـتَـناوَبَهُ أحكامُ التكاليف :
غير أنَّ التَّعدُّدَ له حُكْمُ أصل النكاح والزواج ابتداءً ، فالنكاح تتناوبه الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والحرام، والمندوب، والمكروه، والمُـباح0
– فـيكون واجبًا لِمَن لا يصبر علَى العزوبة ولو لَمْ يتزوج وقع في الفاحشة0
– ويكون حرامًا لِمَن لا يقدر علَى إتيان النساء وكفايتهنَّ ، وعدم القدرة علَى الإنفاق علَى زوجته وأولاده ، وما يؤدي إلَى الحرام فهو حرام0
– ويكون مندوبًا إليه مُستحَبًّا إذا ظهرَتْ مِن ورائه مصلحةٌ شرعية مع قدرته علَى العزوبة بدون وقوعٍ في الفاحشة، كمن تزوَّجَ يتيمةً لإعالتها، ونحو ذلك0
– ويكون مكروهًا إن كان به -مثلًا- نوعٌ مِن الكسل عن إتيان زوجته وهو قادرٌ صحيحٌ، أو نحو ذلك، فيمكث شهرًا -مثلًا- لا يأتيها0
– ويكون مباحًا إنْ تساوىٰ عنده الزواجُ وعدمُهُ مِن حيث الآثار -مثلًا- 0
* فكذلك يكون التعدُّد -مثلًا- واجبًا لو زادتْ طاقـتُـهُ وقدرته علَى الإتيان ، ولا تكـفـيه واحدةٌ ، ولو لَمْ يتزوج لَـزَنَىٰ ، فـيتوجَّبُ عليه التعدُّدُ لو كان قادرًا علَى الإنفاق0
* ويكون حرامًا لِـنَـقْـصٍ في قدرته الجسدية ، وضعفه عن الإنفاق علىٰ بيتين0
* ويكون مَـنْدُوبًا إليه مع قدرته عليه لو نوَىٰ عفافَ أرملة معها أولاد، ولا عائلَ لها0
* ويكون مكروهًا لِعَدَمِ الحاجة إليه ، ولا وجودَ لأسبابه -مثلًا- ، أو لِكَوْنِ التعدُّد سيؤدِّي إلىٰ ضررٍ عظيمٍ بالزوجة الأُولىٰ مِنْ غَـيْـرَةٍ ومَـرَضٍ نفسيٍّ ؛ لقوله سبحانه: ﴿وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ﴾ [الطلاق: 6] ، ولعموم قوله تعالىٰ: ﴿وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْ﴾ [البقرة: 231] ، مع عِلْمهِ بطبيعة زوجته وأنَّ هذا سيكون منها لو تزوَّجَ عليها ؛ ولقوله ﷺ الذي ثبَتَ عنه: (( لا ضَرَرَ ولا ضِرار )) رواه ابن ماجه (2340) ، وقال البوصيري: «رجاله ثقات إلَّا أنه مُـنقَطِع» ، وأحمد في «المسند» (2867) ، وكذا قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (ح2635)0
والقاعدة الكُلِّية مِن القواعد الكلية الخمس المتفق عليها: «الضرر يُـزال» ، وفي لفظٍ: «لا ضرر ولا ضِرار» ، فمعنَى الحديث مُجْمَعٌ علىٰ صحته0
وهذا الأمر يكون حتىٰ في الطلاق ؛ فإنه يسرِي عليه أحكامُ التكليف الخمسة علىٰ نفس التفصيل السابق ؛ فلو تزوَّجَ رَجُلٌ امرأةً وأنجَبَتْ له الكثيرَ مِن الأولاد حتىٰ كبرتْ عنده ولا عائلَ لها غيره ، ولو وُجِدَ لن يهتمَّ بها لِانشغاله بعائلته ، سواء كان أخاها أو غيره ، فإذا طلَّقَها زوجُها بدون سبب شرعي فهو آثِمٌ عاصٍ لله ؛ لإلحاقه الضرر بزوجته مِنْ غير حاجةٍ ولا ضرورة ؛ إذْ هذا العمل منه ظُـلْمٌ وجَوْرٌ0
فإذا كان ذلك كذلك ، فـلْـيَصْدُق الرَّجُلُ النِّـيَّـةَ في نكاحه وطلاقه وتعدُّدِه إن أراد التعدُّد ؛ ولا يُوهِمُ نفسَهُ أنَّ السبب لِتعدُّدهِ هو إقامةُ سُـنَّـةِ رسولِ الله ﷺ ، بل السبب -في الغالب- رغبةٌ لِامرأةٍ أعجَـبَـتْهُ ؛ ودليل ذلك أنه في النادر جدًا أن تَجِدَ رَجُلًا تزوَّجَ علَى امرأتهِ أرملة أو مُـطَـلَّـقة لها أولادٌ ، وهي وهُمْ في غاية الحاجَة للإنفاق عليهم ، والتعدُّد أصله الحِلُّ والجواز ، لا الندب والاستحباب والسُّـنِّـيَّـة ؛ علىٰ ما مَـرَّ مُـفَـصَّلًا ؛ قال تعالىٰ: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ﴾ [التوبة: 119] ، نَعَمْ ، كَـثُـرَ عددُ النساء ، وإعفافُهنَّ واجبٌ ، فمَن لَدَيْـهِ القدرةُ الجسدية والمادِّية حيث لا ضرر ولا ضِرار ، وأَخْلَصَ النِّـيَّـةَ لله وَحْدَهُ في إعفاف أرملة أو مُـطَـلَّـقَـة أو امرأة كَـبُـرَ سِـنُّها ولَمْ تتزوَّجْ وأصابها مِن ذلك الضيق والضنك النفسي، وأراد أحدُكم أن يُـفَـرِّجَ عليها فهذه ثغرةٌ لا بُـدَّ أن يقوم بها رجال0
* طالب العِلْم ليس له إلَّا واحدة :
أمَّا طلبةُ العِلْم فِمن العَبَثِ الانصرافُ إلَى التعدُّد ، وتَركُ التعلُّم وتحقيق المسائل وشراء الكتب ، مع طغيان الجهل وانتشاره عليهم وبينهم ، فإنَّما هو كما قال بعضُ السَّلَف: (( ضاع العِلْمُ بين أفخاذ النساء )) قاله بِشْرٌ الحافي ؛ كما قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ح638)0
* الردُّ في هذا السياق علىٰ قاعدة: «فِعْلُ النبي ﷺ يُؤخَذُ منه الاستحباب» :
فإن قال قائلٌ: لقد قعَّدَ الأصوليون قاعدة: «فِعْلُ النبي ﷺ يُؤخَذُ منه الاستحباب إلَّا إذا كان بيانًا لِمُجْمَلٍ واجبٍ فهو واجبٌ» ، قلتُ: صدقتَ، هذا هو الراجح عند الأصوليين ولا ينبغي غيره، غير أنَّ ما ذَكَـرْتُهُ آنِـفًا مِن الأسباب والعِلَل التي مِنْ أجْلِها أكـثَـرَ النبيُّ ﷺ مِن زواج النساء يُـقَـيِّدُ مُطْلَقَ هذه القاعدة ويُخصِّصُ عُمُومَها؛ لأنه قد ظَهَرَ مِنْ هذه الأسباب خصوصيةٌ لرسول الله ﷺ فيما ذُكِـرَ مِن عِلَلِ كثرة زواجه، فامتنَعَ الاقـتداءُ به هنا لذلك0
ويؤكِّدُ ذلك ما قاله ابنُ كثيرٍ في تفسيره (2/ 133) عند قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ﴾ [النساء: 3] ، قال: (( قوله: ﴿مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ﴾ أيْ: انكِحُوا ما شِـئْـتُم مِن النساء سِواهُنَّ إن شاء أحدُكم ثِـنْـتَـيْنِ ، وإن شاء ثلاثًا ، وإن شاء أربعًا ، قاله ابنُ عباسٍ وجمهورُ العلماء ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ امْـتِـنانٍ وإباحة … )) اهـ ، أيْ: ليس بمقام استحبابٍ ونَدْب0
ثُمَّ اعلَمْ أنَّ مِن عادة العرب حين بُعِثَ فيهم رسولُ الله ﷺ كثرةَ النساء والجمع بينهنَّ ؛ حتىٰ إنَّ غَيْلانَ الثَّـقَفِيَّ ﭬ أسلَمَ وتحته عشرُ نِسْوَة ، ومِن ثَمَّ كان الصحابةُ أيضًا يُكْـثِرون مِن التـزوُّج ، فلا يستدلُّ مُستدِلٌّ بفعلهم ﭫ في ذلك ؛ لأنه لَمْ يثبُتْ عن أحدٍ منهم أَثَـرٌ في حَثِّ الناس علىٰ تعدُّد الزوجات ، كما لَمْ يثبُتْ عنه ﷺ في ذلك شيءٌ، فليس ثَمَّ إلَّا الأفعال، وقد عَلِمْتَ توجِـيهَها الفقهيَّ الأصوليَّ0
قال الإمامُ أبو محمدٍ ابنُ حزمٍ $ في كتابه «مراتب الإجماع» (ص115) :
(( اتَّـفَقُوا أنَّ نِكاحَ الحُـرِّ، البالغ، العاقل، العفيف، الصحيح، غيرِ المَحْجُور، المسلمِ، أربعُ حرائر مسلماتٍ، غيرِ زَوَانٍ، صحائح، فأَقَـلُّ، حَـلالٌ )) اهـ0
ونفسُ الإجماع نَـقَـلَهُ أبو الحسن ابنُ القطَّان في «الإقناع في مسائل الإجماع» (2/ 10/ رقم2164)0
* نصيحتي لأبنائي مِن طلبة العِلْم في هذا الأمر: «اتقوا الله في تبليغ الرسالة» :
اعلَمْ – وَفَّـقَكَ الله لإصابة الحق وسَدَّدَ خُـطاك- أنَّ حملَ همومِ الدعوةِ وأشجانِها ، والتَّـفَـكُّـرَ في تبليغ رسالات الله ، والذَّبَّ عن السُّـنة ، وبيانَ حالِ أهل الأهواء والمُـبْـتَدِعَـة ، والتحذيرَ منهم ، ورَدَّ شُبَهِهم ، وتحقيقَ القول في مسائل السُّـنة ، وصَدَّ السَّـيْلِ الجَـرَّارِ مِن العَـلْمانِـيِّـين واللِّـيـبْرالِـيِّـين والمُـلْحِدِين وأشباهِهم ، وتبيينَ حال طلبة العِلْم المُـنـتسِـبِـين إلَى السُّـنة وهُم يُـفْسِدُون السُّـنة ! وبيانَ أنَّ خطرَهم أشدُّ مِنْ خطر المبتدعة ؛ لأنهم يفسدون السُّـنة بِاسْمِ السُّـنة ، كما يُـفـسِدُ المبتدعةُ الدِّينَ والإسلامَ بِاسْمِ الإسلام ، وكما أنَّ خطر المبتدعة مِنْ هذا الوجه أشدُّ مِن خطر اليهود ، فكذلك خطر طلبة العِلْم المُـنْـتَسِبِين إلَى السُّـنة ، وهُم يفسدون السُـنة ويصدُّون عن أهلِها ، أشدُّ مِن خطر المبتدعة0
وبيان خطر الرَّوافِضِ المجرمين الذي دَبَّ في كُلِّ البلاد ، وأصبح لهم اليدُ الطُّولىٰ المتغلغلة إلَى المناصِب السِّياديَّة الدِّينية في خَفاءٍ لا يُدرِكُهُ إلَّا البصير ، في كثيرٍ مِن دول المسلمين ، كل هذه الهموم والأحزان لَحَـقِـيقٌ بها أن تُجَـفِّفَ المَـنِيَّ في أصلاب الرجال ، وأن تُـزَهِّدَهُم في نسائهم ، فضلًا عن التفكير في غيرهنَّ ، ولك -وَفَّـقَكَ الله- القُدوةُ في الإمام عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيز $ الخليفةِ الصالح الذي زَهَّدَهُ هَمُّ الأُمَّـة والخِلافة في أهلهِ وما مَلَكَتْ يمينُه ، وما كان له هَمٌّ إلَّا إقامة دِينِ الله ؛ روَى المَرُّوزيُّ في «السُّـنة» (92) عن عمر بن عبد العزيز أنه قال:
(( لو كان بِكُلِّ بدعةٍ يُمِـيتُها الله علىٰ يدي، وكُلِّ سُـنَّـةٍ يُـنْـعِشُها الله علىٰ يدي، بِضْعَةٌ مِن لَحْمِي حتىٰ يأتِيَ آخِرُ ذلك علىٰ نفسي؛ لَـكان في الله يسيرًا ))0
وحقيقٌ بِمَن كان هذا هَمَّهُ أن يرزقه الله هذا الولد :
فـقد رَوَى المَرُّوزيُّ في «السُّـنة» (95) عن خارِجَة بن عُبيد الله بن عمر العمريِّ قال: كان عبدُ المَلِكِ بن عمر بن عبد العزيز عندنا ، فَـكُـنَّا نُـؤَدِّبه ، فلمَّا اسْـتُخْلِفَ أبوهُ قَدِمَ عليه وهو ابنُ تسعَ عشرةَ سنة ، وأبوه يُـرَوِّضُ الناسَ علَى الكتاب والسُّـنة ، وقد قطع بذلك ، فهو يُدارِيهم كيف يصنع ، فـقال له عبدُ المَلِكِ حين قَدِمَ عليه: «يا أميرَ المؤمنين ، ألَا تُمْضِي كتابَ الله وسُـنةَ نبيِّه ؟ ثُمَّ واللهِ، ما أُبالي أن تغلي بي وبك القُدور» ، فـقال له:
(( يا بُـنَـيَّ، إنِّي أُرَوِّضُ الناسَ رِياضَةَ الصَّعْب، أُخرِجُ البابَ مِن السُّـنة، فأَضَعُ البابَ مِن الطَّمَع، فإن نَـفَـرُوا للسُّـنة سَكَـنُوا للطمع، ولو عمَّرتُ خمسين سنة، لَظَـنَـنْتُ أنِّي لا أبلغ فيهم كُلَّ الذي أُرِيد، فإن أَعِشْ أبلغ حاجتي، وإن متُّ فالله أعلمُ بِـنِـيَّـتِـي ))0
هذا ، وبالله التوفيق والسداد والرشاد ، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلَّا به ، وصلَّى الله علىٰ نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبه وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا0


وكَـتَبَ:
د/ عِـيد بن أبي السـعـود الكـيال
وكان الانتهاء من هذه المقالة بعد ظهر الأحد
2/ ذي الحجة/ 1437هـ ، الموافق 4/ 9/ 2016م

تحـمـيل بـصـيغة PDF
فتاوى ذات صلة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock