ر6198 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 30-08-2018 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
آلية الترجيح في مسائل الشرعية وبيان وسائله الاستدلالية

«مقدمة المقال»

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ﷺ، أما بعد: فإن من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على عباده بعد الإسلام، التفقّه في الدين، وفهم مقاصد الشريعة، والإلمام بالقواعد الكلية الي قامت عليها هذه الديانة، ومعرفة مراد الله ورسوله من أدلة الأحكام، الأمر الذي يصير بصاحبه إلى درجة الترجيح بين أقوال أئمة الدين في كلِّ مسائل الشريعة في أيّ علم من علومها، ومعرفة الراجح من المرجوح منها؛ إذْ الترجيح ملكة يستطيع بها الباحث معرفة الحق من الباطل، والغثّ من السَّمين؟، ومن ثمّ يتمكن من تحقيق مسائل العلوم بعيدًا عن التقليد الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، إذْ هو أداة العاجز الضعيف التي بها يكون صاحبها ريشة في مَهَبِّ الريح، وآلة في يد شيخه يحرّكها كيف يشاء، ومنه فسدت الدعوة إلى الله، فما خرج التعصّب إلا من قلّة العلم ورحم التقليد العقيم عن الخير، فالخير كل الخير في القدرة على التفقّه في الدين، القائم على الرباط الدائم بالدليل الشرعي.

روى البخاري في «صحيحه» (71) ومسلم (1037) من حديث معاوية قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».

قال الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس المصري، المشهور بالقرافي (ت: 684هـ) في كتابه الموسوعة في القواعد الفقهية والأصولية: «الذَّخيرة في فروع المالكية» (1/24):

«والقاعدة: أن المبتدأ محصور في الخبر؛ والشرط اللغوي محصور في مشروطه لأنه السبب، فيكون المراد من الحديث: الخير محصور في المتفقّه، فمن ليس بمتفقّه لا خير فيه». اهـ.

كيف لا؟ وغالب ما يحدث من شقاق ونزاع في طرقات الدعوة بين طُلَّابها هو ثمرة للجهل بآلية الترجيح وعدم الإلمام بوسائل فَهْم أدلة الأحكام، الفهم الصحيح المستقيم على منهجيّة الاستدلال القائمة على قوانين الاستنباط المستخرجة من قواعد العلوم، النابعة من فهم الكتاب والسنة وما تفرّع عنها من أدلة الأحكام، وهذا هو السبب الذي أزّني أزًّا لكتابة هذا المقال. فلَكَمْ هو جميل أن ينشأ بيننا طلاب علم قادرون على تحقيق مسائل الشريعة تحقيقًا مستوعبًا مدروسًا قائمًا على الأخذ بمفاتيح العلوم، طلبة لم تتلوّث قلوبهم وفطرتهم بتعصب ولا تقليد أعمى يُودي بأهله إلى الهاوية، وينشئ بين الناس جهلًا مُركّبًا، فإنشاء جيل جديد قادر -بإذن الله- على المناظرة والمجادلة الحقّة الحسنة على ضوء الأدلة الشرعية المعتبرة وقواعد الاستدلال السليم، يعتبر غاية جليلة يسعى إليها الفقهاء، وأصرّح بها مرات في الكثير من كتبي؛ لأنها غاية ينبغي أن تُرْجَى وتُبْتَغى لصلاح الدعوة إلى الله برُمَّتها، وقد كتبت لها هذا المقال لبيان ملامحها، وهو بمثابة التقعيد الأصولي المكثّف في هذا الباب:

* بيان الطريقة المسلوكة للظفر بعملية الترجيح وتوضيح الوسائل إلى ذلك:

(1) اعلم أن عملية الترجيح بين أقوال أئمة هذا الدين تقوم على تحليل القول ومعرفة المراد منه ثم إنزاله على الأدلة الشرعية: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس الصحيح، وغيرها من الأدلة المعتبرة؛ لمعرفة موافقة القول للدليل فيُقبل، أو عدم موافقته فيُرَدّ، لقوله تعالى: ﴿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ﴾ [النساء: 59]، ونفس عملية تنزيل القول على الدليل تحتاج إلى فهم وفقه ومَلَكَة.

(*) فإن كان الدليل سُنة أو آية من كتاب الله: فينبغي أن يعلم أوَّلًا هل هي محكمة أم منسوخة؟ وهل تحتمل دلالتها ما قاله الإمام في مقولته أم لا؟ إذْ غالب القرآن حمَّال للوجوه، والوجوه مختلفة باختلاف المجتهدين والباحثين، فكما قرّر الأصوليون: أنّ للنص دلالتين: دلالة حقيقية لا تتغيّر، وهي مراد الله ورسوله ﷺ، ودلالة إضافية تختلف باختلاف الناظرين تبعًا لنقاء قريحتهم، وقوة فهمهم، وصحة استنباطهم، ودرجة إلمامهم بمقاصد الشريعة وأدلتها وقواعدها فمثلًا قوله تعالى: ﴿ ﯖ ﯗ﴾ [المدثر: 4] قيل فيها ثمانية أقوال تحتملها الآية: أن المراد بالثياب: العمل، والقلب، والنفس، والجسم، والأهل، والخلق، والدين، والثياب الملبوسات على الظاهر، ولكل قول وجهه وحجّته من خلال نظر الباحث للآية [«الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي: (19/49-52)] فإذا كانت الآية تحتمل فقوله من الخلاف المعتبر الذي له حظّ من النظر، ومع ذلك لابد من الترجيح لما هو أقرب إلى الحق، من خلال القواعد الأصولية في علم أصول الفقه، الذي هو القانون الذي يلتزمه المرجح للوصول إلى أرجح الأقوال بضوابط الترجيح المعتبرة القائمة على الفهم الصحيح لمراد الله ورسوله؛ بل قد يُستدل بنفس الدليل على قولين مختلفين تمامًا، كالقول بالجواز والحرمة:

فقد روى البخاري في «صحيحه» (2622) ومسلم (1622): أن رسول الله ﷺ قال: «ليس لنا مثل السَّوْء العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه».

تكلم الأصوليون على هذه المناظرة التي جرت بين الشافعي وأحمد، حيث استدل الشافعي بهذا الحديث على جواز الرجوع في الهبة، فاستدل بجواز رجوع الكلب في قيئه فيأكله، على جواز الرجوع في الهبة، فردّ عليه الإمام أحمد بصدر الحديث وهو: «ليس لنا مثل السَّوْء» الذي يوحي بالحرمة، فسكت الشافعي، ومثل هذا كثير جدًّا في مسائل الشريعة، لاسيما في كتب الفقه المقارن.

فإن كان الدليل سُنة فحسب، فيزيد على النظر إلى الدلالة، معرفة الصحيح من الضعيف؛ فإنَّ ما بُني على باطل فهو باطل، وكم من فتاوى بالمئات في كتب المذاهب قد قامت على أحاديث لم تثبت؛ بل وبعضها موضوع لا أصل له، فكان الفقه بدرجة الحديث مهمًّا وعليه، فإذا كان التنزيل على السنة، فلابد من الإلمام بهذه السنة عامة، ثم تخصيص الاهتمام بكتب أدلة الأحكام، وعلى رأسها «الأحكام الكبرى» لمُحبّ الدين الطبري، الذي حوى أكثر من (13000) ألف حديث، ومن بعده «سنن أبي داود» لتميّزها بذلك، ثم «المنتقى» للمجد ابن تيمية وشرحه للشوكاني في كتابه «نيل الأوطار»، وما دونه كبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وشرحه في «سبل السلام للصنعاني»، وأفضل معين للفقيه «السنن الكبرى» للإمام البيهقي، فقد جمعت من أدلة الأحكام ما لم تجمعه غيرها من السنن، وهذا مقرّر عند أهل العلم، ذكره الذهبي في «السّير»، وغيره.

ومن لوازم ذلك: معرفة ما صحّ من هذه الأدلة وما ضعف، ولقد كفانا الأوّلون مؤنة البحث في هذا، وجمعوا هذه الأدلة في كتب حققوا أسانيدها وميّزوا فيها بين الصحيح والضعيف، فسهّلوا البحث، والمزيد منه نور على نور.

فمن هذه الكتب: كتاب: «التحقيق» لابن الجوزي، و«تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي، والذهبي، وكذلك كتاب: «نصب الراية» للزيلعي، وكتاب «التلخيص الحبير» لابن حجر العسقلاني، وكتاب «المحلّي» لابن حزم الظاهري، ومن كتب المعاصرين: «إرواء الغليل» للألباني، فهذه الكتب فيها معرفة الصحيح والضعيف مفصّلًا بأسبابه، بعيدًا عن التقليد العاري عن السبب والعلة، ممّا يُدرّب الباحث على تمييز الصحيح من الضعيف بطريقة البحث الحديثية المعتبرة، وكذلك «التمهيد» لابن عبد البر.

(*) فإن كان الدليل الإجماع: فينبغي التحقق من صحّته وعدم وجود المخالف في المسألة، فكم من مسألة ادُّعِيَ فيها الإجماع وقد اختلف فيها أهل العلم، ومن ثمّ فلا يُكتفى بكتاب واحد قد نقل الإجماع؛ بل لابد من التَّثبت والتحقق من مظان كتب الإجماع، ككتاب «الإقناع في مسائل الإجماع» لأبي الحسن بن القطان، وكتاب «مراتب الإجماع» لابن حزم الظاهري، وكتاب «الإجماع» لابن المنذر، ومن الكتب المعاصرة «موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي».

(*) فإن كان الدليل من القياس: فالأمر أصَعب والشأن أشد، إذْ من القياس ما هو صحيح ومنه ما هو فاسد، ومنه ما نُص فيه على العلة أو أجمع عليها فيصح القياس، ومنه ما كانت العلة فيه مستنبطة، والاستنباط يختلف باختلاف النظر والاجتهاد، والأصل براءة الذمة من التكاليف، فلا نلزم الناس بحرام أو واجب مع الشك والاختلاف؛ لأن الفروض لا تثبت بالشك والاحتمال كما قرر الأصوليون، ومسالك العلة أمر واسع والاختلاف في القياس كبير، وعدم إلمام الباحث بمباحث القياس ومسائله يؤدّي إلى الزلل الشديد في عملية الترجيح، ومسائل القياس من أصعب مسائل أصول الفقه، والاهتمام به من أهم ما يكون؛ لأنه الآلة الأساسية والأم في التكلّم في النوازل وما جدّ في دنيا الناس، ولا يستقيم لأحد التكلّم في دين الله بشكل عام إلا بالاهتمام بأبواب القياس.

 

(2) ومما يجب على الباحثين التزامه في عملية الترجيح: حفظ كتاب الله لفظًا ومعنًى، مع الوقوف على تفاسيره المختلفة لاسيما التفسير بالمأثور، ثم تخصيص الاهتمام بآيات الأحكام التي هي بمثابة أدلة الأحكام المعروفة في السنة، كما مر آنفًا، والتي جُمعت في كتب مخصوصة لذلك، مثل «أحكام القرآن» لأبي بكر بن العربي، و«أحكام الجصاص»، و«أحكام الشافعي» الذي جمعه البيهقي، وجمع ذلك كله القرطبيّ في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن».

(3) ومما يلزم الباحثين في مسائل الشريعة: معرفة الناسخ والمنسوخ، ولكي تعرف الناسخ من المنسوخ لابد من الوقوف على كتب هذا العلم في القرآن والسنة، أما القرآن فعندك كتاب النحاس «الناسخ والمنسوخ»، وكتاب أبي بكر بن العربي «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وغيرهما كثير، مع كتب التفاسير كلها يُذكر فيها الناسخ والمنسوخ ضرورة، ومعرفة ذلك من أهم ما يكون للباحث، وفي السُّنة: كتاب الحازمي «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار»، وكتاب ابن شاهين «ناسخ الحديث ومنسوخه»، وكتاب الأثرم صاحب الإمام أحمد، وكتاب الرازي، وكتاب: «إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه» لابن الجوزي، وقد كتبت كتابًا في الباب سميته «ضعيف ناسخ الحديث ومنسوخه بين الفقهاء والمحدثين» ذكرت فيه مراجع أخرى، لابد للباحث الإلمام بها وفهم فقهها المراد، حتى يتمكن من عملية الترجيح تمكّنًا صحيحًا، مع دراسة هذا العلم وأبوابه في كتب أصول الفقه.

(4) ومن لوازم صحّة تنزيل الأقوال على الأدلة الشرعية ومعرفة الراجح من المرجوح: معرفة علم أصول الفقه: العلم الذي هو الآلة لاستخراج الحكم من الدليل، والإلمام بقواعد أصول الفقه، فهذا العلم لمّا عرّفوه قالوا: «معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد» والدلائل: جمع دليل، وهي أدلة الأحكام، والمستفيد هو المجتهد، وقالوا أيضًا في تعريفه: «العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية»، فإذا ألَمَّ الباحث بالعلم بكل ما مضى، ولم يُلمّ بهذا العلم فسد استنباطه واستدلاله وتخبَّط في معرفة الراجح من المرجوح، وقد بيّنت ذلك مرارًا في مقالات سابقة بشيء من التفصيل، وفصّلت القول فيه في جملة من كتبي، منها: «أثر القواعد الأصولية في تصحيح المعتقد وردّ شبه المنحرفين»، وهو كتاب لم يكتب في بابه من قبل.

(*) ومما يؤكد أهمية هذا العلم -علم أصول الفقه-: أنه لا يستقيم لك منهجية الاستدلال طرحًا أو نقدًا إلا به، ففي مقام آلية الترجيح والذي نحن بصدده، لو استدل إمام بقول صحابي، ففصل القول في حجّيته في علم الأصول، فلو قال الصحابي قولًا أو فعل فعلًا يخالف النصوص فبالإجماع ليس بشيء ولا حجة، ولو قال بقول خالفه صحابي آخر فأقرب الأقوال إلى الأدلة هو المعتبر إن لم يكن في المسألة دليل ولا نصّ، فإن انفرد يُنظر، إن كان هذا القول لا يُقال من قبل الرأي ولا مجال فيه للاجتهاد، فإن كان الصحابي مما ينظر في كتب أهل الكتاب فليس له حكم المرفوع، فإن لم يكن كذلك فقال البعض يكون له حكم المرفوع، ولكن يتطرق إليه الاحتمال، والقاعدة الأصولية: إذا تطرق إلى الدليل احتمال سقط به الاستدلال، وهو كما قال الشوكاني: «لم يبعث الله إلينا إلا رسولًا واحدًا محمدًا ﷺ والحجة في قوله»، ولكن يستشهد بأقوال الصحابة ويعضد بهم القول ما لم يجمعوا، وإلا فإجماعهم حجة قطعية، وكل هذا لا يعرف إلا في أصول الفقه، وبالجهل بذلك يفسد ترجيحه.

(*) فإن استدل الإمام في قوله بالمصلحة المرسلة: فهي أصل معتبر عمل به الصحابة ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولكن لابد من ضوابط للمصلحة، من كونها لا تخالف النصوص وإلّا رُدّت بالإجماع، وكونها تدخل تحت أصل كلي من أصول الشريعة أو يشهد لها مقصد من مقاصد الدين، أو قاعدة كلية فيه، إذ المصلحة المرسلة هي التي لم يشهد لها نص معين من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولكنها ملائمة لتصرفات الشارع ومأخوذ معناها من أدلته، وهذا ما قرّره الأصوليون عامة.

(*) فإن كان استدلال الإمام بالعرف والعادة: فهو أصل معتبر تشهد له الأدلة من الكتاب والسنة قال تعالى: ﴿ﯢ ﯣ﴾ [النساء:19]، وقال: ﴿ﯗ ﯘ﴾ [البقرة: 236]، وقال: ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ﴾ [البقرة: 231].

وروى البخاري (5364) في «صحيحه»، ومسلم (1714) من حديث هند بنت عتبة في شأن أبي سفيان ﭭ قال ﷺ: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».

وشرط المعروف الذي هو العُرف والعادة: عدم مصادمته للنصوص الشرعية وأدلة الدين، فإن خالف رُدّ بالإجماع، وهذا لا يُعرف إلا من أصول الفقه، وعدم معرفة كل ذلك يؤثر بالإفساد في عملية الترجيح.

(*) فإذا استدل بالاستحسان: استحسانًا يخالف النصوص يوافق العقول، فمن استحسن فقد شرع كما قال الإمام الشافعي، على ما هو مُفصّل في بابه، وعدم العمل بذلك يُفسد ترجيحك.

(*) فإن استدل بسدِّ الذريعة: وهي منع الوسائل المؤدّية إلى الحرام والفساد، فهو أصل معتبر استدل له ابن القيم في «الإعلام» بتسعة وتسعين دليلًا من الكتاب والسُّنة والإجماع وأقوال السلف، وباب معرفة ذلك أصول الفقه، وعدم الإلمام بذلك يفسد ترجيحك.

(*) فإن استدل بشرع من قبلنا: فالراجح اعتباره أصلًا ما لم يخالف شرعنا وطريق معرفة ذلك أيضًا أصول الفقه.

(*) فإن استدل بالاستصحاب أو البراءة الأصلية، أو الأصل بقاء ما كان على ما كان: فكذلك أصل معتبر عليه الدليل من الكتاب والسُّنة، ومصيره علم أصول الفقه، وقد فصّلت كل ذلك في كتبي الأصولية فارجع إليها لضيق المقام هنا، ككتابي: «مقدمة سلفيّة بين يدي علم أصول الفقه»، وكتابي: «الفلذ شرح النبذ في أصول الفقه».

ولما عرّف الفقهاء الفقه قالوا: «هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه»، وفي الاصطلاح: «هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية عن طريق الاجتهاد».

(*) وبهذا التعريف تعلم الصلة الوطيدة بين الفقه والأصول؛ لأن العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، يُتوصل إليه بقواعد أصول الفقه والاجتهاد، كما مرّ آنفًا من تعريف أصول الفقه بأنه: «العلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية»، فلا يستقيم تحقيق مسألة فقهية إلَّا بأصول الفقه، فالأدلة الكتاب والسُّنة وما تفرّع منهما، والأحكام الشرعية هي المراد معرفتها، من الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، والآلة الموصلة لمعرفة هذه الأحكام والتي هي المرادة من علم الفقه، لا تكون إلا بقواعد أصول الفقه، من معرفة الخاص من العام، والمطلق من المقيد، والمجمل من المبيّن، والمحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ، والمجمل من المبين، وكل ذلك واقع على أدلة الأحكام.

(5) ومن لوازم تنزيل الأقوال على الكتاب والسُّنة ومعرفة الراجح من المرجوح: كثرة الدّربة في الاطلاع على كتب الفقه المقارن ومعرفة أساليب أئمة هذا الدين في التكلّم في مسائل الشريعة، وملاحظة وجوه أقوالهم وطريقتهم في التعامل مع أدلة الأحكام، ففي الفقه المقارن تجد مثلًا الأئمة الأربعة أو أكثر منهم يختلفون على أقوال في المسألة الواحدة، وكلّ منهم قال بقول مخالف لغيره، وكلّهم قد نزعوا أقوالهم من نفس الدليل من القرآن أو السنة، وهذا يكسبك ملكة استنباطية واسعة، وأفقًا رحبًا، وخيالًا فقهيًّا ثريًّا، ينفعك في النظر إلى أدلة الأحكام نظرًا شموليًّا متعدد الوجوه والجوانب، و على رأس كتب الفقه المقارن: «المغني» لابن قدامة، و«المحلّى» لابن حزم، و«المجموع شرح المهذب» للنووي، و«التمهيد» لابن عبد البر، و«الأوسط» لابن المنذر، و«نيل الأوطار» للشوكاني، والعلم يؤخذ مسألة مسألة على مرور الأيام والأسابيع والشهور والسنين، لاسيما التمرّس والخبرة في تحصيل الوجوه الفقهية المستنبطة في عملية الاستدلال في الفقه المقارن لأئمة هذا الدين المباركين، الذين فتح الله عليهم بمفاتيح العلوم.

(6) ومن لوازم آلية الترجيح: معرفة فقه الخلاف والوقوف على المسائل الخلافية؛ للإلمام بأسباب الخلاف، ممّا يولد القدرة على تحرير موطن النزاع، الأمر الذي يُطلع الباحث على فهم ضوابط الخلاف، المعتبر منه وغير المعتبر، يساعده في ذلك كثرة تمرّسه وإلمامه بوجوه الاستنباط الفقهي المتولّد من الوقوف على مناظرات الفقهاء الأصوليين في كتب الفقه المقارن كما مرّ في النقطة السابقة.

فلما تكلّم الأصوليون في هذا الباب ذكروا جملة من عِلَل هذا الخلاف:

منها: وصول الدليل إلى المجتهد أو عدم وصوله، فيترتّب على الوصول: القول به، وعلى عدم الوصول والجهل بالدليل: القول بما يخالف الدليل، فيختلف قوله لعدم الوقوف على الدليل.

ومنها: الاختلاف في تصحيح الحديث وتضعيفه، وما يترتب على التصحيح من القول بدلالة الحديث، وعدمه في حالة التضعيف، والأمر في ذلك قد يتّسع.

ومنها: صحة الحديث عنده مع الاختلاف في دلالته، وهو أمر واسع يختلف باختلاف المجتهدين وملكتهم الاستنباطية واختلاف قرائحهم؛ يعني: حسن استخراجهم للأحكام.

ومنها: صحة الحديث ومعرفة دلالته، ولكنه وَصَلَهُ صارف لهذه الدلالة لم يصل إلى غيره، سواء كان هذا الصارف دليلًا آخر لم يصل إلى المخالف، أو فَهِم ذلك من السياق، أو من إلمامه بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، وهذا ما يمكن أن يُسمّى بالصوارف الخفية التي يعرفها الذين يعلمون تأويله، وبقدر علو شأن المجتهد الباحث في هذا الأمر بقدر تميّزه عن غيره، وإصابته للحق.

ومنها: الإلمام بمعرفة ما خُصّ من الأدلة العامة، وما قُيّد من الأدلة المطلقة، وما نسخ منها، وهذا تختلف فيه قدرات المجتهدين على حسب سعة اطلاعهم وإلمامهم بقواعد أصول الفقه.

(7) ومن الوسائل التي تساعد على معرفة الراجح من المرجوح: علوّ الكعب في معرفة لغة العرب: الأمر الذي يُمكّنه فيما لم يتمكن منه من لم يكن كذلك، ومن هنا قال الشافعي: «تعلّمت الشعر عشرين سَنَة من أجل الفقه»، وكم من مسألة كان الترجيح فيها بقواعد اللغة، كما هو في الكثير من قواعد الأصول، وتجد ذلك في أبواب «حروف المعاني» مثلًا وتأثيرها على معرفة الراجح من المرجوح، فلغة العرب هي التي نزل بها القرآن وبها يُفهم، وانظر في ذلك أيضًا كتب «تخريج الفروع على الأصول» ككتاب الإسنوي، والزنجانيّ، والتلمسانيّ، وانظر كذلك كتاب «الفروق» للقرافي، لتعلم أهمية مسائل النحو واللغة في ترجيح مسائل الشريعة، وكلها كتب لأصول الفقه، جُمع فيها من مسائل اللغة ما له صلة بالفقه وعملية الترجيح، وهو أمرٌ مهم جدًّا.

فمعرفة الباحث لكل هذه الأسباب والعلل يُثري ملكته الاستنباطية والاستدلالية جدًّا، ويميّزه عن أقرانه لا محاله بتحصيل هذه الوسائل.

واعلم أنّ أحسن مُعين لك في هذا الباب: إلمامك بقواعد أصول الفقه؛ فهي العمدة في الترجيح؛ لأنها الآلة التي بها تستنبط الأحكام وتستخرجها من الأدلة.

ولقد ضربت مثلًا مُهمًّا على ذلك وفصّلت القول فيه في مسألة اشتهرت جدًّا وهي: «حكم الأخذ من اللحية»، وهي المقالة التي كتبتها من شهور، وكان الترجيح فيها بقواعد أصول الفقه فحسب، فراجعها فهي مُهمّة، حيث انتشر بين الناس جواز الأخذ من اللحية على ما زاد على القبضة، وهو عند التحقيق أمر لا يجوز.

وكذلك من الأمثلة المدرِّبة على منهج الترجيح القائم على قواعد الأصول، ما تجده في كتابي «إثبات الحجة في بيان أن حديث المسيء في واجبات الصلاة هو المحجّة»، فارجع إليه فقد أقمته كلَّه على جملة من قواعد أصول الفقه صدّرت بها الكتاب وبنيته عليها.

ومنزلة أعلى من ذلك في قوّة الترجيح: تمرّس الباحث في الترجيح عند التعارض بين القواعد الأصولية، وأمثلة ذلك فصّلتها في كتابي: «التعارض والترجيح بين قاعدتي: «إذا اجتمع الحاظر والمبيح قُدم الحاظر»، و«الإعمال أوْلى من الإهمال»، وذكر هذه الكتب يُغني عن الإعادة هنا، وكله مرفوعة على الموقع.

(*) ولقد أكثرت عليكم في كتبي ومقالاتي بإظهار أهمية هذا العلم؛ لأن هذا ما قرّره كبار أئمة السلف؛ ولعظم منزلته وخطورة تأثيره في مناهج الاستدلال والاستنباط والترجيح، إذْ هو العلم العمدة في ذلك، ومع ذلك لا يعرف هذه المكانة من طلبة العلم إلا النذر اليسير جدًّا، مع صعوبة هذا العلم في كتب المتقدمين من الأصوليين مما أدّى إلى العزوف عنه، وهذا جهل مركب، ومعرّة لا يستقيم طلب العلم إلا بمحوها، ولذلك أجهدت نفسي في سلسلة كتبي الفقهية الأصولية لتسهيل هذا العلم الجليل.

(8) وممّا يُدرّب الباحث على معرفة الراجح من المرجوح: كثرة الوقوف على كتب شروحات السنن، والنظر إلى تصرفات الشرَّاح من الأئمة المتقدمين في ألفاظ الحديث، والجمع بين معناها اللغوي وتأثيره وصلته بالمعنى الشرعي، والتعلم من طرق الشرح التي تختلف باختلاف الشرَّاح، والنظر إلى ملكاتهم في تفسير الحديث، والإلمام بدلالاته المختلفة، الأمر الذي يجمع لك مفاتيح العلوم، ويفتح الذهن لأمور جليلة لم تكن في الخاطر أصلًا، وعلى رأس هذه الشروحات: «فتح الباري» لابن حجر العسقلاني، و«شرح مسلم» للنووي، والمازَرِيّ، والقاضي عياض، والقرطبي، و«شرح الترمذي» لأبي بكر بن العربي وابن رجب الحنبليّ والمباركفوري، و«شرح البخاري» لابن رجب أيضًا، و«شرح موطأ مالك» لابن عبد البر وأبي بكر بن العربي، و«شرح النسائي وابن ماجه» للسيوطي والسندي، و«شرح أبي داود» لابن القيم وأبي الطيب والخطابيّ، وغير ذلك مما تصل إليه يد الباحث، البحّاثة عن العلم في مظانّه بقلقه الدائم للحصول على المزيد، فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طلبة العلم المحققون الأثبات العقلاء، فالعلوم كثيرة والإلمام بها عظيم شديد، حتى قال المحققون: «العلم تعطيه كللك يعطيك بعضه، وأنت على أخذ البعض منه على خطر»، فطالب العلم المعتبر الرحّالة بين كتب العلوم، كلما حلَّ ارتحل، وكلما انتهى من كتاب بدأ في آخر حتى الممات.

(9) كذلك مما يُكسب الباحث ملكة الترجيح بين أقوال أهل العلم أئمة الدين في مسائل الشريعة: معرفة أقوال السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم في مسائل الدين العلمية والعملية؛ لأنهم هم أهل العلم الذين وصفهم الله في كتابه في الكثير من الآيات، كقوله تعالى: ﴿ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [سبأ: 6]، وقوله تعالى: ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [محمد: 16].

روى ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (969/ الصحيح) عن مجاهد قال:

«العلماء أصحاب محمد ﷺ».

وروي عن قتادة (967) في قوله ۵: ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [سبأ: 6] قال:

«أصحاب محمد ﷺ».

وروي عن عبد الله بن مسعود ڤ (693) قال:

«لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب رسول الله ﷺ».

وروى ابن عبد البر كذلك عن الأوزاعي (700) قال:

«العلم ما جاء عن أصحاب محمد، وما لم يجئ عن واحد منهم فليس بعلم».

والمراد: وعمّن انتهج نهجهم العلمي من التابعين وتابعيهم وأئمة الدين.

وهذا أمر بيّن في قوله ﷺ في حديث الافتراق المشهور لمّا سُئل عن الفرقة الناجية فقال: «مُثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وهو حديث تلقته الأمة بالقبول وحسنه الترمذي في «سننه» (2641)، وصححه شيخ الإسلام في «المجموع» (3/345)، وحسّنه الألباني في «الصحيحة» (204).

وسياق الحديث العموم في مطلق النجاة، فَهُمُ الفرقة الناجية الحقة المصيبة في كل المجالات؛ لأنه ﷺ أمر الأمة في حال الافتراق وحثَّهم ودفعهم إلى التمسك بهديهم، فكان هذا التمسّك نجاة للأمة بشكل عام، ومن جملتها قطعًا مسائل الشريعة العلمية والعملية، فلقد تكلموا في مسائل الشرعية، وحققوها وأرسوا قواعد التكلم في الدين.

(*) ومن أشمل الدواوين التي جمعت آثارهم: موسوعة «المصنف» لابن أبي شيبة، و«المصنف» لعبد الرزّاق، و«المحلّى» لابن حزم، و«حلية الأولياء» لأبي نُعيم، و«السنن الكبرى» للبيهقي، هذا بالنسبة لمراجع الفقه، أما الاعتقاد، فـ«الإبانة الكبرى»، و«الشريعة»، و«شرح أصول الاعتقاد».

ومن جملة معرفة أقوالهم في مسائل الفقه وغيره، معرفة الاختلاف الذي حدث بينهم في هذه المسائل، ومعرفة أقرب الأقوال عند الاختلاف للأدلة، وبهذا يعرف الراجح منها من المرجوح، لاسيما في المسائل التي ليس فيها شيء عن رسول الله ﷺ، بل اقتصر فيها الأمر على الآثار الموقوفة عليهم، وما آثارهم وفتاويهم ومنهج استنباطهم واستدلالهم إلا صورة من منهاج النبوة في ذلك ومن معينه أخذوا.

(10) ومن الأمور المهمة التي تكسب الباحث ملكة الترجيح بين أقوال أهل العم: الإلمام بمسائل الإجماع، فإن عدم معرفة هذه المسائل يحدث تخبّطًا شديدًا في معرفة الراجح من المرجوح؛ لأن وجود الإجماع الصحيح في المسألة المطروحة للنزاع يدفع النزاع ابتداء ويُبين زيفه، لأنه خلاف غير معتبر، وما تكلّم من تكلم فيه إلا لغياب الإجماع عنه، إذْ مثلًا كيف يدّعي الأحناف الخلاف في عدم صحة النكاح بدون ولي، وإجماع الصحابة على أنه لا نكاح إلا بولي، وهذا سياق الشرطية؛ يعني: فلا إجماع صحيح بدون ولي، فاشتهر ذلك عنهم ونقل، وهو مخالف للإجماع، أم كيف تزعم المؤوّلة الخلاف في إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات، وما أثبته له رسول الله ﷺ وهم محجوجون بالإجماع القديم المتقدم في إثباتها؟ فما كتب إمام من السلف في باب الأسماء والصفات إلا وقد نقل الأجماع على ذلك، كالإمام الآجري في «الشريعة»، واللالكائى في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»، وابن بطة العكبري في «الإبانة الكبرى»، والصابوني في «عقيدة السلف أصحاب الحديث»، وابن تيمية في «العقيدة الواسطية»، و«مجموع الفتاوى»، وابن القيم في جملة من كتبه مثل «الصواعق المرسلة»، فمعرفة الإجماع في مسائل الإجماع يوفّر الجهد ويُزيّف الخلاف ويفضحه لذلك، فإنّ القاعدة الفقهية المشهورة: «لا يُنكر المختلف فيه وإنما يُنكر المجمع عليه» فعدم العلم بالإجماع في مسائله جهل شديد يمنع من إنكار الخلاف الزائف والوقوف على الحق في مسائل الشريعة التي ثبت فيها الإجماع.

(11) ومن جملة الأسباب التي تُمكّن من معرفة الراجح من الأقوال: الإلمام بقواعد الفقه التي تجمع للباحث شتات العلوم مُركّزة ومكثفة ومختصرة، وبها تنحصر مفاتيح العلم لطلّابه.

وهذه القواعد كثيرة وعديدة، جمعها الفقهاء في كتب: «الأشباه والنظائر» ككتاب الزركشي، وابن نُجيم، والسيوطي، والونشريسيّ، وابن رجب الحنبلي، وكتاب «الاعتناء في الفروق والاستثناء» لبدر الدين البكري الشافعي، وكتاب «الفروق» للإمام القرافي وهو كتاب مهم جدًّا، وكذلك كتابه «الذخيرة» غير أن القواعد في «الذخيرة» مُفرّقة في ثنايا الكتاب، وهو أمر صعب على من أراد جمعها منه، ولكن الميزة فيه اقتران القاعدة بفروعها الفقهية، وهو أمر يبيّن معانيها ويُقرب المراد منها وينسجها بالفقه نسْجًا عمليًّا قويًّا مثمرًا.

وهذه القواعد منها القواعد الكلية المشهورة كقاعدة: «الأمور بمقاصدها»، ويتفرّع منها قاعدة: «العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني»، وكقاعدة: «اليقين لا يزول بالشك»، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير»، وقاعدة: «الضرر يُزال»، ويتفرع منها جملة من القواعد المهمة، مثل: «الضرورات تبيح المحظورات»، «ما أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها»، «إذا تعارض مفسدان روعي أعظمهما بارتكاب أخفّهما»، وقاعدة: «يُتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام»، وكقاعدة: «الحاجة تُنزّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة»، وكذلك قاعدة: «العادة مُحَكّمة»، ويتفرع منها جملة قواعد، منها: «المعروف عُرفًا كالمشروط شرطًا»، «لا يُنكر تغيير الأحكام بتغيير الزمان»، «التعيين بالعرف كالتعيين بالنص»، «المعروف بين التجار كالمشروط بينهم»، «الكتاب كالخطاب»، «استعمال الناس حجة يجب العمل بها»، وهذه القواعد الأخيرة مقيّدة بعدم مخالفة العادة والعرف للنصوص.

ومنها القواعد غير الكبرى والكلية: مثل: «إذا اجتمع الحلال والحرام غُلب الحرام»، وهي غير قاعدة: «إذا اجتمع الحاظر والمبيح قُدم الحاظر»، وقاعدة «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة»، «ما ثبت بالشرع مقدّم على ما ثبت بالشرط»، وذلك عند التعارض، وقاعدة: «ما حرم استعماله حرم اتخاذه»، «ما حَرُم أخذه حَرُم إعطاؤه»، «ما حرم فعله حرم طلبه»، «المشغول لا يُشغل»، «من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه»، «الميسور لا يسقط بالمعسور»، وغيرها من القواعد القائمة على الدليل الصحيح، فتتعدّى قوة الدليل إلى القاعدة، فيكون الاستدلال بالقاعدة استدلالًا بالدليل، غير أن استحضار القاعدة يكون أسرع وأخصر؛ لأنه قد يستدل على القاعدة الواحدة بالكتاب والسنة والإجماع، ولما عرّفوا القاعدة الفقهية قالوا: «حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته غالبًا»، وقيدوا التعريف بالغالب؛ لأن قواعد الفقه أغلبية.

أما تعريف القاعدة الأصولية: «حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته»؛ يعني: مطلقًا بدون تقييد، لذلك فالقاعدة الأصولية أقوى من الفقهية.

والذي يشعر طالب العلم بعظم أهمية القواعد، ما قاله الإمام القرافي في مقدمة كتابه «الفروق» (1/70-71)، قال:

«وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، بقدر الإحاطة بها يعلو قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويُعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتُكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرَّز القارح على الجذع، وحاز قصَبَ السَّبق من فيها برع، ومن جعل يُخرّج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عنده الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تنتهي، وانقضى العمر ولم تقض نفسه من طلبه مناها.

ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليّات، واتّحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصّل طِلْبته في أقرب زمان، وانشرح صدره لما أشرق من البيان، فبين المقامين شأوٌ بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد». اهـ.

فهذه إحدى عشرة وسيلة وسببًا وأصلًا تصل بالباحث إلى التمكن من عملية الترجيح أوردتها على سبيل التنظير التقعيدي المؤصِّل لآلية الترجيح، ومن ثمَّ، فعليك بقراءة هذا المقال مرارًا وتكرارًا متدبرًا ما فيه؛ للإلمام بمراده وغايته، والله الموفق والمرشد للحق والصواب.

(*) أما الترجيح بين الأدلة عند التعارض، فأمر كبير واسع لا يصلح له المقام؛ ولذلك قد جمعته لك في نهاية الجزء الثالث من كتابي: «ما قلّ ودلّ في أصول الفقه للمستدل، تقريب أصول الفقه على منهج أهل السنة والجماعة»، وهو كتاب ضخم جمعت لك فيه مسائل أصول الفقه كلها من بين بطون كتب المتقدمين وأمهات الموسوعات الأصولية، قد انتقيته لك انتقاء، ولخصته لك تلخيصًا، وصفّيته لك مما علق بهذا العلم من مسائل الكلام والمنطق والفلسفة تصفية سلفية، يُغنيك بإذن الله عن الخوض في كتب المتكلمين، والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله، فاعقد عليه خنصرك وعضد عليه بنواجذك إذا أتاك، فهو خلاصة سَنة كاملة من البحث والتنقيب والتحقيق والتصفية والتعب والنَّصَب، وبمثل هذا الكتاب أعتزل ما حولي ومن حولي، فهو أنفع لي ولهم.

(*) فهذه جملة من الأصول لو التزمها الباحثون المحققون من طلبة العلم الأثبات العقلاء لارتقوا إلى مرتبة المرجّحين في مسائل الشريعة، وتحرير مواطن النزاع فيها، ومعرفة ضوابط الخلاف المعتبر، ولعلا قدرهم، وشرف شأنهم، وكانوا جديرين للتكلم في دين الله بإذنه تعالى العليم الحكيم.

وليس ما ذكرته لك في هذا المقال من أصول وتوصيات بعزيز نَيْلها على مَنْ مَنَّ الله عليه بالهمة العالية، والقدرة على النَّصَب في طلب العلم وتحقيق مسائله، وهذا حال الأوَّلين من أئمة هذا الدين، فما كان عند الرجل منهم فراغًا لطهي الطعام فكانوا يأكلون السمك نيّئًا؛ لانشغالهم بتحصيل العلم، فجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين ورفعهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ﴾ [المجادلة: 11]، فافهموا فقّهكم الله، فهذا مصير من تمرّد على الدونية في الطلب، وبَغَضَ التقليد الأعمى، ورفض التعصب الممقوت، ورضي لنفسه بالمنزلة السامية العالية، وكان سنده في تحقيق مسائل الشريعة عاليًا إلى رسول الله ﷺ، ولا يبغي عن هذه المرتبة حِوَلًا، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، فينأى بنفسه عن ضياع عمره في القيل والقال وصحبة الغافلين الباطلين المتسكّعين في طرقات الفيس بوك والنّت، وأشغل نفسه بهمّ الدعوة ونَصَب التبليغ عن ربّ العالمين بشروطه ولوازمه ومقتضياته حين تقاعس عن ذلك من يُشار إليهم بالبنان، والحمد لله العزيز الرحمن أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

                                                              وكـتـبَ :

د/ أَبو عبد الرحمن
عِــيد بن أبي السـعـود الكــيال

عزبة الهجانة، القاهرة، مصر «حفظها الله»

للمزيد :  تابع الموقع الرسمي للشـيخ

www.alkaial.com

 

تحـمـيل بـصـيغة PDF
مواضيع مشابهة
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock