ر2806 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 25-05-2017 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
صفة من يتكلم في النوازل

الحمد لله الذي علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، وفَـقَّـهَ في الدِّين مَن أراد به خيرًا وفَـهَّم، وجعل التقوىٰ شرطًا للسَّماع والتعلُّم، فـقال المُعَلِّمُ المُـنَـزِّلُ للكتاب المُحْكَم: ﴿وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمۡ خَيۡرٗا لَّأَسۡمَعَهُمۡ﴾ [الأنفال: 23]، ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: 29]، وصلَّى اللهُ علىٰ نبـيِّه محمدٍ وسلَّم، أمَّا بعد:
فـقد قال ابن منظور في «لسان العرب» (50/ 4401)، مادة (نـزل) :
(( والنازلة: الشديدة تـنـزل بالقوم، وجمعها: النوازل، والنازلة: الشِّدَّة مِن شدائد الدَّهْر تـنـزل بالناس، نسأل الله العافية )) اهـ0
وقال ابن فارس في «مقاييس اللغة» (5/ 417) :
(( النون والزاء واللام: كلمة صحيحة تدلُّ علىٰ هبوط شيءٍ ووقوعه، ونـزل عن دابَّـته نـزولًا، ونـزل المطر نـزولًا، والنازلة: الشديدةُ مِن شدائد الدَّهْر تَـنْـزِلُ )) اهـ0
ولم تخرج كلمة اللُّغويين عمَّا قاله الشيخان آنِـفًا0
وعلىٰ ضوئه؛ فالنازلة: حادثة من حوادث الدَّهْر تـنـزل بالأُمَّـة، تحتاج إلىٰ فـتوىٰ، يكون الناسُ فيها في أَمَسِّ الحاجَةِ لِمَن يُـبَـصِّـرُهُم بما يُصلحهم فيها؛ بدفع الشر والمفسدة، وجلب النفع والمصلحة، فإنَّ العالِمَ يرىٰ الفـتـنةَ وهي مُـقْـبِلَة، ويراها الجاهلُ وهي مُـدْبِـرَةٌ وقد أهلكَـتْهُ وقطعَـتْهُ0
روَى البخاريُّ في «التاريخ الكبير» (4/ 321) عن الحسن البصري أنه قال:
(( إنَّ هذه الفـتـنة إذا أقبلتْ عَـرَفَـها كُلُّ عالِم، وإذا أدبرتْ عَـرَفَـها كُلُّ جاهل ))0
وعليه؛ فالنازلة: فـتـنة تحدث للأُمَّـة، لا يُضَرُّ فيها إلَّا الجُهَّال، ولا يتكلَّم فيها إلَّا مَن فَـقَّـهَـهُ اللهُ في دِينه، يراها فـيُحَذِّرُ الناسَ منها0
فـقد روَى ابن أبي شيبة في مُصَنَّفهِ (38447) في كتاب الفتن، عن أبي مسعودٍ عن حذيفة بن اليمان ﭬ قال: (( أمَا تعرف دِينَكَ يا أبا مسعود؟! ))، قلتُ: بلىٰ، قال: (( فإنَّها لا تضرَّك فـتـنةٌ ما عرفْتَ دِينَك، إنَّما الفـتـنة إذا اشْـتَـبَـهَ عليك الحقُّ والباطلُ فلَمْ تَدْرِ أيّهما تتبع، فـتلك الفـتـنة ))0
فإذَنْ؛ الذي يتكلم في النوازل والفتن والحوادث: مَن مَلَكَ آلةَ التكلُّم في دِين الله، وأجاد استنباطَ الأحكام الشرعية مِن الأدلَّة التفصيلية؛ بإلمامه بقواعد الفقه والأصول التي هي الآلة المُمَكِّـنة والمُوَصِّلة إلىٰ هذا المقصود0
قال الشوكاني في «إرشاد الفحول إلىٰ تحقيق الحق من علم الأصول» (1/ 59)، مُـعَـرِّفًا عِلْمَ أصول الفقه:
(( العِلْم بالقواعد التي يُـتوَصَّلُ بِها إلَى استنباط الأحكام الشرعية مِن أدِلَّـتها التفصيلية )) اهـ0
وقولهم: «الأحكام الشرعية»: جنسٌ يشمل العبادات والمعاملات والمعتقدات0
وقال عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري الحنبلي الفقيه الأصولي (ت616هـ)، فيما نقله عنه ابن النجار في «شرح الكوكب المنير» (1/ 48) : (( أبلغ ما يُتوصَّل به إلىٰ إحكام الأحكام: إتقان أصول الفقه )) اهـ0
وقال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (1/ 53-54) :
(( فإنَّ علم أصول الفقه لمَّا كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يُلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في عالب الأحكام، وكانت مسائله المُـقَـدَّرة وقواعده المُـحَـرَّرة تُؤخَذُ مُسَلَّمةً عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين وتصانيف المُـصَـنِّـفين، فإنَّ أحدَهُم إذا استشهد لِمَا قاله بكلمة مِن كلام أهل الأصول؛ أذعن له المنازِعون، وإن كانوا من الفحول )) اهـ0
ولمَّا عرَّف الجُرجاني الفِـقْـهَ في كتابه «التعريفات»، قال:
(( هو في اللغة: عبارةٌ عن فَهْم غرَض المتكلم من كلامه، وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسَب من أدلتها التفصيلية، وقيل: هو الإصابة والوقوف علَى المعنَى الخَـفِيِّ الذي يتعلَّق بالحُكْم، وهو عِلْمٌ مُـسْـتَـنْـبَـطٌ بالرَّأْي والاجتهاد، ويحتاج إلَى النظر والتأمُّـل )) اهـ0
قلتُ: ومِن هذا التعريف يُعلَم الربط الشديد والصلة الوطيدة بين الفقه وعِلْمِ أصول الفقه، الَّذَيْنِ بهما يُـتكلَّم في دِين الله، وهذا ما قرره أئمةُ هذا الدِّين0
ولقد افـتتح الإمام أبو المُـظَـفَّـر منصور بن محمد بن السمعاني (ت489هـ) كتابَهُ «قواطع الأدلة في الأصول» (1/ 17)، فـقال: (( فإنِّي رأيتُ الفقه أصلُ العلوم وأشرفها، قال الله تعالىٰ: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ﴾ [التوبة: 122] : أمر الله تعالىٰ بالتفقه في الدِّين، وجعله فرضًا علىٰ فِـرَقِ الناس قاطبةً، ليقومَ طائفةٌ من كل فرقةٍ به، وينتصبوا في قومهم منصب الأنبياء في أُمَمِهم مُـنذِرين مُحَذِّرين، دُعاةً إلَى الله تعالىٰ، قائمين بدِينه، باثِّينَ سبيلَه، مُوَضِّحين للخَلْق نَهْجَهُ، فصار الفقهاءُ خُلَفاءَ الرسل إنذارًا وتحذيرًا، وارِثِي علومِهم؛ قيامًا به وحملًا، سالكين طريقَهم؛ بَـثًّا ونشرًا، وهذه مرتبة لا توجد لِفِرْقَة من الفِـرَق، وناهيك بها من مرتبة0
ولأنَّ علمَ الفقه علمٌ على منهج الازدياد لأنه العلم بأحكام الحوادث ولا حَصْرَ ولا حَدَّ للحوادث، ولا حصر ولا حدَّ للعلم بأحكامها ومواجبها، … فهو علمٌ مستمرٌّ علىٰ ممرِّ الدُّهُور، وعلىٰ تقلُّب الأحوال والأطوار بالخَلْق، لا انقضاءَ ولا انقطاعَ له0
* وقد جعل اللهُ تعالَى اجتهادَ الفقهاء في الحوادث في مدرج الوحي في زمان الرسل -صلواتُ الله عليهم- فـقد كان الوحي هو المطلوب في زمان الرسل ۏ كشأن أحكام الحوادث وحمل الخَلْق عليها، فحين انقطع الوحي وانقضَىٰ زمانه؛ وَضَعَ اللهُ -تبارك وتعالَى- الاجتهادَ مِن الفقهاء في موضع الوحي؛ ليصدر منه بيان أحكام الله تعالىٰ، ويحمل الخَلْق عليها قبولًا وعملًا، ولا مزيدَ علىٰ هذه المَـنْـقَـبة، ولا متجاوز عن هذه المرتبة0
وما يُـشَـبَّهُ الفقيهُ إلَّا بغوَّاصٍ في بحر دُرٍّ، كلما غاص في بحر فِـطْـنَـتِه استخْرَجَ دُرَرًا، وطالب الزيادة في منهج الزيادة مُعانٌ منصور )) اهـ0
قلتُ: والذي يتدبر هذا الكلام السديد المُوَفَّق؛ وَفَّـقَـهُ اللهُ إلَى الحق0
ولمَّا تكلَّم الإمام الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه» (2/ 155-160) عن شروط المفتي والمتكلِّم في دِين الله؛ قال:
(( … واعلم أنَّ العلوم كلها أباريز الفقه، وليس دون الفقه عِلْمٌ إلَّا وصاحبه يحتاج إلىٰ دون ما يحتاجه الفقيه؛ لأنَّ الفقيه يحتاج أن يتعلَّق بطَـرْفٍ من معرفة كُلِّ شيء مِن أمور الدنيا والآخِرة، وإلىٰ معرفة الجد والهزل، والخِلاف والضِّد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم )) اهـ0
وقال العلَّامة السعدي في تفسيره (ص355) عن قوله تعالىٰ: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ﴾ [التوبة: 122] :
(( أيْ: ليتعلَّموا العلم الشرعي … ويُعَلِّموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصًا الفقه في الدين، وأنه أهَمُّ الأمور، وأنَّ مَن تعلَّم علمًا؛ فعليه نَشْرُهُ وبَـثُّه في العِـباد، ونصيحتهم فيه، فإنَّ انتشار العلم عن العالِم، مِن بركته وأجره، الذي يُنمَّىٰ له، وأمَّا اقتصار العالِم علىٰ نفسه، وعدم دعوته إلىٰ سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأيُّ منفعةٍ حصلتْ للمسلمين منه؟ وأيُّ نتيجةٍ نتجتْ مِن علمه؟ وغايته: أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لِمَنْ آتاهُ الله علمًا ومنحه فَهْمًا0
وفي هذه الآية أيضًا: دليلٌ وإرشادٌ وتنبيهٌ لطيفٌ لفائدةٍ مُهِمَّة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدُّوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلىٰ غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرَّقت الطرق، وتعدَّدت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور )) اهـ0
قلتُ: وأصل التكلُّم في النوازل قائمٌ علَى النظر إلَى الأشباه والنظائر ومعرفة الأمثال، وذلك من خلال إحكام مسائل القياس0
فليس هناك نازلة نزلتْ بالأُمَّـة، أو سـتـنـزل بها إلىٰ أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها؛ إلَّا وحُكْمها في كتاب الله وسُـنَّةِ رسول الله ﷺ يُعْلَمُ مِن خلال معرفة النظير والمثيل للحُكْم المنصوص عليه في الأصل، فـيُـلْـحَـق به الفرع، وهو النازلة؛ لاشتراكهما في العِلَّة، ومَحَلّ البحث في معرفة نظير الحكم ومثله، وهذا أمرٌ يُجِـيدُهُ الفقيه الأصولي بما عنده من مَلَكَةِ الاستنباط، وقواعد الفقه والأصول وإلمامه بالمقاصد الشرعية والقواعد الكُـلِّـية التي تُمَكِّـنه مِن التكلُّم في النوازل0
وهذا الذي أَوْصَىٰ به الإمام الفقيه العالِم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ﭬ حيث قال في كتابه إلىٰ أبي موسَى الأشعري ﭬ لمَّا كان قاضيًا علَى البصرة، في الأثر الذي رواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1141/ الصحيح) أنه قال:
(( فاعْرِفْ الأشباهَ والأمثالَ، وقِـسْ الأمورَ ))0
هذا الأثر ذَكَـرَهُ ابن القيم في «إعلام الموقعين» (1/ 75-76)، وقال:
(( هذا كتابٌ جليلٌ تلقَّاهُ العلماءُ بالقبول، وبَـنَـوْا عليه أصولَ الحُكْم والشهادة، والحاكم والمفتي أحْوَجُ شيءٍ إليه وإلىٰ تأمُّله والتفقه فيه )) اهـ0
فـظَـلَّ يشرح هذا الأثر في أكثر مِن مجلَّدٍ كبيرٍ ونصف، فـقال (1/ 108) :
(( وقوله: «ثُمَّ الفَهْم الفَهْم فيما أدْلي إليك ممَّا وَرَدَ عليك ممَّا ليس في قرآنٍ ولا سُـنَّة، ثُمَّ قايِس الأمورَ عن ذلك، واعرف الأمثال، ثُمَّ اعتمِدْ فيما ترىٰ إلىٰ أَحَـبِّها إلَى الله، وأَشْـبَـهها بالحق» [قال ابن القيم:] هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة، وقالوا: هذا كتاب عمر إلىٰ أبي موسىٰ، ولم ينكره أحدٌ من الصحابة؛ بل كانوا متفقين علَى القول بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه … وقد اشتمل القرآن علىٰ بضعةٍ وأربعين مثلًا تتضمَّن تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم، وقال تعالىٰ: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، فالقياس في ضرب الأمثال من خاصَّة العقل، وقد رَكَـزَ اللهُ في فِـطَـرِ الناس وعقولهم: التسوية بين المتماثلَيْنِ، وإنكار التفريق بينهما، والفَـرْق بين المختلفَيْنِ، وإنكار الجمع بينهما، ومدار الاستدلال جميعه علَى التسوية بين المتماثلَيْنِ، والفَـرْق بين المختلفَيْن )) اهـ0
قلتُ: وما النازلة إلَّا أمرًا يُـرَادُ فيه الحُكْمُ، فكما أنَّ السائل يذهب ليسأل الفقيه عن حكم شرعي خاص به في عبادة أو معاملة أو معتقَد؛ فكذلك النازلة، ولكنَّ السائلَ فيها عامَّةُ الأُمَّـة؛ لأنها نـزلتْ بالجميع، والذي يتكلَّم في النازلة بالأُمَّـة هو نفسه الذي يُـفْـتِي للسائل في أمور دِينه الخاصة، ولا فَـرْقَ بين الأمرين إلَّا العُموم والخُصوص، والشِّدَّة والتخفيف0
وكلما ازداد حظُّ المفتي والفقيه مِن القواعد الأصولية وحُسْن الفقه والفَهْم؛ كلما حَسُنَ اسـتِـنْـباطُهُ وصَلَحَتْ فَـتْواهُ، وكلما قَـلَّ هذا الحَـظُّ؛ كلما تَخَـبَّطَ في تَكَلُّمهِ في الدِّين0
فإذَنْ؛ مدار الأمر علىٰ آلة التكلم في دِين الله، وهي العلم بقواعد الأصول0
قال السعدي في كتابه «رسالةٌ لطيفةٌ جامعةٌ في أصول الفقه المُهِمَّة» (ص3) :
(( أصول الفقه هي: العِلْم بأدلة الفقه الكُلِّية، وذلك أنَّ الفقه إمَّا مسائلُ يُطْلَبُ الحكمُ عليها بأحد الأحكام الخمسة [يعني: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، وهي الأحكام التكليفية]، وإمَّا دلائلُ يُستدَلُّ بها علىٰ هذه المسائل، فالفقه هو: معرفة المسائل والدلائل، وهذه الدلائل نوعان: كُـلِّـيَّـة: تشمل كل حكم من جنس واحد مِن أوَّل الفقه إلىٰ آخره، كقولنا: «الأمر للوجوب»، و«النهي للتحريم» ونحوهما، وهذه هي أصول الفقه0
وأدلةٌ تفصيلية: [وهي الأدلة الجُزئية، التي هي الآية والحديث والإجماع] تـفـتـقر إلىٰ أن تُـبْـنَىٰ علَى الأدلة الكُـلِّـية، فإذا تَمَّتْ حُكِمَ علَى الأحكام بها0
فالأحكام مضطرة إلىٰ أدلتها التفصيلية، والأدلة التفصيلية مضطرة إلَى الأدلة الفقهية، وبهذا نعرف الضرورة والحاجَة إلىٰ معرفة أصول الفقه، وأنها معينة عليه، وهي أساس النظر والاجتهاد في الأحكام )) اهـ0
قلتُ: جعل الشيخ $ تعلُّمَ أصول الفقه ومعرفته والإلمام به ضرورةً مُـلِـحَّـةً وحاجَةً ماسَّةً لِـتَـفَـهُّمِ هذا الدِّين والتكلُّم فيه0
قال الإمـام شـيخ الإسـلام في «مجموع الفـتاوىٰ» (20/ 497) :
(( ولهذا كان المقصود مِن أصول الفقه: أن يُـفْـقَـهَ مُـرَادُ الله ورسوله بالكتاب والسُّـنة )) اهـ0
قلتُ: والتكلُّم في النوازل لِمَن فَهِمَ فِـقْـهَ الواقع مع إنـزاله علَى الدليل بآلة الاستنباط0
قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (2/ 1025، وما بعدها)، وهو يتكلَّم علىٰ شروط التكلم في دِين الله:
(( الشرط الرابع: أن يكون عالِمًا بعلم أصول الفقه؛ لاشتماله علىٰ ما تمسُّ الحاجَةُ إليه، وعليه أن يُطَوِّلَ الباعَ فيه، ويطَّلع علىٰ مختصراته ومُطَوَّلاته بما تبلغ إليه طاقته، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسألة مِن مسائله نظرًا يُوَصِّله إلىٰ ما هو الحق فيها، فإذا فعل ذلك تمكَّنَ مِن رَدِّ الفروع إلىٰ أصولها بأيسر عمل، وإذا قَصَّرَ في هذا الفن صَعُبَ عليه الرَّدُّ وخَـبَّطَ فيه وخَـلَّطَ، قال الفخر الرَّازي في «المحصول» -وما أحسن ما قال!- : «إنَّ أهمَّ العلوم للمجتهد: عِلْمُ أصول الفقه» )) اهـ0
وعليه؛ فالفقيه الأصولي المُلِمُّ بأدلة الأحكام لفظًا ومعنًى، وتصحيحًا وتضعيفًا، سواءً كان الدليل من القرآن من آيات الأحكام، أو من السُّـنة، مع معرفة المُجْمَل مِن المُـفَـسَّـر، والمُـطْـلَق مِن المُـقَـيَّد، والعام من الخاص، والناسخ من المنسوخ، والمُـحْكَم من المتشابه، مع الإلمام بأدلة الشرع الأخرَى المتفرِّعة من الكتاب والسنة، كالاستصحاب، والمصلحة المُرْسَلَة والعُـرْف الَّذَيْنِ لا يُخالِفانِ الكتابَ والسُّـنة، وإحاطـته بالمسائل المُـجْـمَع عليها، مع معرفة مسائل الخِلاف في الشريعة، مع الاهتمام المستمر، والمراجعة والتكرار الدائم لهذه الأمور، حتىٰ تكون شُغله الشاغل، فهذا الذي يحق له أن يتكلَّمَ في النوازل وفي دِين الله، وقد بيَّنتُ ذلك في سلسلة كُـتُبي: «سلسلة الأبحاث الفقهية الأصولية السلفية»0
* ومن أشدِّ النوازل التي نـزلتْ بالأُمَّـة في هذه السِّـنين الأخيرة: ثورات الربيع العِـبْرِيِّ الماسُونِيِّ الصهيوأمريكي، والتي تفرَّع منها جملةٌ من النوازل الأخرىٰ، وقد تكلَّمَ فيها أهلُ العِلْم في كل مكان مُـبَـيِّـنينَ ومؤصِّلِينَ ومُوَضِّحينَ للأُمَّـة دِيـنَـهُم0
ولقد فـتح اللهُ عليَّ فيها بفضله ومَـنِّـهِ، والذي لا تتمُّ الصالحاتُ إلَّا به؛ فكتبتُ في «سلسلة تصحيح المعتقَد» جُمْلَةً مِن الكتب بلغَتْ إلىٰ يوم الناس هذا خمسًا وعشرين كتابًا، ما تركتُ شُبهةً ألقاها أهلُ الأهواء إلَّا وأفردتُ لها مُصَـنَّـفًا أَرُدُّها به وأَدْحَضُها، وكتبتُ كتابي: «الصِّبغة التقعيدية لدعائم منهاج النبوة المصطفوية» فـقَعَّدتُ فيه سبعين قاعدةً شملتْ أصولَ المُـعْـتَـقَد والسُّـنة، وكتبتُ كتابي: «دعوة علىٰ منهاج النبوة» قعَّدتُ فيه أربعين قاعدةً في منهج أهل السُّـنة والجماعة، وكتابي: «سُـرَّاق العقيدة» وقعَّدتُ فيه عشرين قاعدةً في أمور العقيدة، ونَـشَـرَ اللهُ هذه الكتب، وكذلك كتبي الأخرىٰ، وطُـبِعَتْ أكثر من مرة، ونفع اللهُ بها الآلافَ مِن طلبة العِلْم والدُّعاةِ إلَى الله؛ بل واسـتفاد منها الكثير من مشايخ أهل السُّـنة بـنَصِّ كلامهم0
وما زِلْتُ أقوم بواجبي الدَّعويِّ، وأكتبُ في أمورٍ تحتاجها المكتبةُ الإسلامية، ما كُـتِـبَتْ مِن قبل، مِن آخِرها كتابي: «أثر القواعد الأصولية في تصحيح المعتقَد ورَدِّ شُـبَـهِ المُـنْحَرِفين»، ولا أَلْقَىٰ ممَّن حولي إلَّا الحقدَ والحسدَ والغِلَّ، واستكثارَ هذا الإنتاج التصنيفيِّ عَلَيَّ، وكأنَّـنِي أَغْرِفُ مِن بئرٍ قد مُـلِئَ بالتصانيف! ولا يعلم الحاقد أنَّ كُلَّ كتابٍ أكتبه؛ ما هو إلَّا نِـتاجُ تعبٍ ونَصَبٍ ومراجعةٍ، ومُخاصَمَةٍ للنوم والأهل والأولاد، مع التضرع إلَى الله، والدعاء بالتوفيق والرَّشاد والسَّدَاد، والخوف مِن معصية الله، والتوبة والاستغفار المستمر لِـتُـغْـسَـلَ الذنوب التي هي السببُ المُـدَمِّـرُ والمُـهْـلِكُ لكل خير، مِن علمٍ أو فهمٍ أو فـقـهٍ أو فـتحٍ مِن الله العليم الحكيم -سبحانه وتعالىٰ- فهو قوله تعالىٰ الذي افـتتحتُ به هذه المقالة: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلَّا بالله0
قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (3/ 307) عند هذه الآية:
(( وَعْدٌ مِن الله تعالىٰ، بأنَّ مَن اتَّـقاهُ علَّمهُ، أيْ: يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُـلْـقَىٰ إليه، وقد يجعل اللهُ في قلبه ابتداءً فُـرْقانًا، أيْ: فَـيْصَلًا يُـفْـصَـلُ به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالىٰ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾ [الأنفال: 29]، والله أعلم )) اهـ0
وواللهِ الذي لا إله غيره، ما وَصَلَتْ كتبي إلىٰ أيِّ رَجُلٍ مِن مشايخ أهل السُّـنة إلَّا وأثنىٰ عليها ثناءً جَمًّا، واسـتفادَ منها، واستعان بها في جملةٍ مِن خُـطَـبه ودُرُوسِهِ، سواء في مصر أو خارجها، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، قال تعالىٰ: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ٧٣ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ﴾ [آل عمران: 73-74]0

والله مِن وراء القَصْدِ ، وهو يهدي السبيل0
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلَّى اللهُ علَىٰ نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا0


وكَـتَـبَ :
د/ عِـيد بن أبي السـعـود الكـيال
ليلة الأربعاء 27/ شعبان/ 1438 هـ
المـوافـق 24/ 5/ 2017 م
الهجانة، م.نصر، القاهرة، مصر«حفظها الله»

تحـمـيل بـصـيغة PDF
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock