ر3771 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 19-09-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
الهَمَج الرعاع ودِفَّة الدعوة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدْوانَ إلَّا علَى الظالمين، وأشهد أَلَّا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّمَ، أمّا بعد :
فـقد روَى الحافظ الفقيه الأُصوليُّ أبو بكر أحمد بن علِيِّ بن ثابتٍ الخطيب البغدادي (ت462هـ) في كتابه «الفقيه والمُـتَـفَقِّه» (1/ 49، وما بعدها) تحت «باب: ذِكْر تقسيم أمير المؤمنين عَلِيُّ بن أبي طالبٍ أحوالَ الناس في طلب العِلْم وتَـرْكِه» عن كُمَيْل بن زياد النَّخعي قال: أخَذَ عليُّ بن أبي طالبٍ بِـيَدِي فأَخْرَجَني إلىٰ ناحية الجَـبَّان، فلمَّا أَصْحَرَ حاشية(1) جلسَ ثُمَّ تنفَّسَ ثُمَّ قال:
_____________________________
(1) قال ابن الأثير في «النهاية» (3/ 12) : (( أَصْحَرَ الرَّجُلُ: إذا دَخَلَ في الصحراء )) اهـ0

(( يا كُمَيْل بن زياد ، احـفظ ما أقـول لك: القلوبُ أَوْعِـيَـةٌ ، خـيرُها أَوْعاها ، الناسُ ثلاثةٌ: فـعالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، ومُــتَـعَـلِّمٌ علىٰ سـبـيل نَـجَـاة ، وهَمَجٌ رعاعٌ أَتْـباعُ كُلِّ ناعِـق ، يَمـيلُون مع كُـلِّ رِيح ، لَمْ يسـتضيئوا بِـنور العِـلْم ، ولَمْ يَلْجَأُوا إلىٰ رُكْنٍ وَثِـيقٍ … ))0
قال الخطيبُ البغداديُّ تعليقًا علىٰ هذا الحديث:
(( هذا الحديث مِنْ أحسن الأحاديث مَعْنًى، وأشْرَفِها لَفْظًا، وتقسيم أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ الناسَ في أوَّلهِ تقسيمٌ في غاية الصحة ونهاية السَّدَاد؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو مِنْ أحد هذه الأقسام الثلاثة التي ذَكَرَها مع كمال العقل وإزاحة العِلَل، إمَّا أن يكون عالِمًا، أو مُـتَعَلِّمًا، أو مُـغْـفِلاً للعِلْمِ وطَلَبِه، ليس بعالِمٍ ولا طالبٍ له0
فالعالِمُ الرَّبَّانِيُّ: هو الذي لا زيادةَ علىٰ فضلهِ لِفاضِلٍ، ولا مَـنْـزِلَةَ فوقَ مَـنْـزِلَتهِ لِمُجْـتهِدٍ، وقد دَخَلَ في الوصف له بأنَّهُ رَبَّانِيٌّ، وَصْفُهُ بالصفات التي يقتضيها العِلْمُ لِأَهْلهِ، ويمنع وصفه بما خالَفَها0
ومعنَى الرَّبَّانِيِّ في اللُّغة: الرفيعُ الدرجةِ في العِلْم، العالي المَـنْـزِلَةِ فيه، وعلىٰ ذلك حَمَلُوا قولَ الله تعالىٰ: ﴿لَوۡلَا يَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ﴾ [المائدة: 63]، وقوله تعالىٰ: ﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّ‍ـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]0
أنا حاشية(2) أبو بكر … عن مجاهدٍ قال: «الرَّبَّانِـيُّون: الفقهاء، وهُم فوق الأحبار»0
_____________________________
(2) «أنا» : اخـتصار (أَخْـبَـرَنا) في مصطلح المُـحَدِّثين0

أنا القاضي … عن أبي رزين في قوله: ﴿كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّ‍ـۧنَ﴾ قال: «فُـقهاءٌ عُلماءٌ»0
قرأتُ علَى الحسن … سألتُ ثعلبًا عن هذا الحَرْف (رَبَّانِيّ) فـقال: سألتُ ابنَ الأعرابي فـقال: «إذا كان الرَّجُلُ عالِمًا مُـعَلِّمًا، قيل له: هذا رَبَّانِيٌّ، فإنْ خَرَمَ عن خصلةٍ منها لَمْ يُـقَلْ له رَبَّانِيٌّ»0
وبلَغني عن أبي بكر ابن الأنباري عن النحويين أنَّ «الرَّبَّانِـيِّـين» منسوبون إلَى الرَّبِّ، وأنَّ الألِف واللام زِيدَتا في النَّسَب، كما تقول: لِحْـيَانِيٌّ جُمَّانِيٌّ، إذا كان عظيم اللِّحْـيَـة والجُمَّة0
وأمَّا المتعلِّمُ علىٰ سبيل النجاة: فهو الطالبُ بتعلُّمهِ والقاصدُ به نجاتَهُ مِن التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه، والرَّغبة بنفسه عن إهمالها واطِّراحها، والأنَـفَة عن مُجانَسَة البهائم، وقد نَـفَىٰ بعض المتقدِّمين عن الناس مَن لَمْ يكن مِن أهل العِلْم0
وأمَّا القسم الثالث: فـهُم المُهْمِلُون لِأَنْـفُسِهم، الراضون بالمَـنْـزِلة الدَّنِـيَّـة، والحال الخسيسة، التي هي الحضيض الأَوْهَد، والهبوط الأسفل، التي لا بعدها في الخمول، ولا دُونها في السقوط -نعوذ بالله مِن الخِذْلان، وعدم التوفيق، والحِرْمان- وما أحسن ما شَـبَّهَهُم الإمامُ عَلِيٌّ بالهَمَجِ الرعاع، والهَمَجُ: البعوضُ، وبه يُـشَـبَّـهُ دُناةُ الناس وأراذِلُهم، والرّعاع: المُـتَـبَدِّدُ المُـتَـفَـرِّق، والناعق: الصائح، وهو في هذا الموضع: الرَّاعِي، يقال: نَعَقَ الرَّاعِي بالغَـنَم، يَـنْعِقُ: إذا صاح بها، ومنه قوله تعالىٰ: ﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة: 171] )) اهـ0
قال ابن كثير عند هذه الآية مِن سورة البقرة في تفسيره (1/ 303) :
(( ﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي: فيما هُم فيه مِن الغَيِّ والضلال والجهل، كالدَّوابِّ السارِحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نَعَقَ بها راعيها، أي: دعاها إلىٰ ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنَّما تسمع صَوْتَهُ فـقط0
وقوله: ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ﴾ أي: صُمٌّ عن سماع الحق، بُـكْمٌ لا يَـتَـفَوَّهُون به، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه، ﴿فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه )) اهـ0
قلتُ: وهُم الذين وَصَفَهُم الله فـقال:
﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]0
فالهمج الرعاع بعوضُ الناس، حَطَبُ الفـتن ووَقُودُها في كل زمانٍ ومكان، يعبثون يُـفسِدون يُـخَـرِّبون يلعبون يمرحون بِكُلِّ ما وَقَعَ في أيديهم، لا يُـبالُون أَمِنَ الدِّينِ كان أم مِن الدُّنيا؟! لأنهم سفهاءُ أغبياء، لا فِـقْـهَ عندهم ولا حكمة، بل مَدَارُ الأمر عندهم علَى الهَوَىٰ والشَّهَوات، فكُلُّ ما يَهْوُونَهُ يركبونه؛ لا يردُّهم دِينٌ ولا عقل، كيف لا، وهُم لا عقول لهم ؟!
وبمثل هؤلاء يُسَفَّهُ أهلُ السُّـنة وعلماءُ الأُمَّـة الرَّبَّانِـيُّون الذين قد وافَـقَ قولَهم فِـعْلَهم، لا خُلْفَ عندهم في ذلك، عَلِمُوا وعَمِلُوا وعَلَّمُوا، بهم يُـقام الدِّينُ وتُرفَعُ شعائِرُه، وبهم يُذَبُّ عن السُّـنة ويُدافَعُ عنها، وبهم يُحارَبُ أهلُ البدع والأهواء، ويُـفْـضَحُ أمرهم علىٰ رؤوس الأشهاد، ويُـقْهَرون، ويُذَلُّون، ويُسفَّهون، ويُخْـزَوْن، ويُـبْعَدُون، ويُـقْـصَوْن، ومنهم يُحَذِّرون، ولِـبِدَعِهم يَكْشِفون، ولِمَكْرِهم وغِشِّهِم وحِـيَـلِهم وكذبهم وتدليسهم يُـظْهِرُون، لا يألون في ذلك جهدًا ولا سبيلاً، عاشوا دُنياهم لله وبالله وفي الله وعلىٰ أمر الله ورسوله، علىٰ مِثل ما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابه الكِـرَام الأطهار ﭫ0
وإنَّ المُـتأمِّلَ بعين بصيرته في أحوال الدعوة السَّلَفية الحَـقَّة -حفظها الله وصانَها مِن عَبَثِ العابثين وهَوَى المُـنحَرِفين- لَـيَجِدُ ابتداءً: ندرةً عظيمةً في العلماء الرَّبَّانيين، وهُم قِـلَّـةٌ قليلةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ بعد القرون الثلاثة الأُوَلِ الخيرية، وقد تَجِدُ مَن وَهَبَهُ اللهُ العِلْمَ مع إخْرَامِ خصلةٍ مِنْ خِصالِ الرَّبَّانيين فلا يصدق عليه ذلك0
ثُمَّ يَجِدُ المتأمِّلُ مُـتعلِّمين علىٰ سبيل نجاةٍ، وهُم غالِبُ الدُّعاة إلَى الله علىٰ بصيرةٍ، الذين يبدَؤُون بأنفسهم فـيُعَلِّمُونها لِـتَـنْجُوَ ابتداءً مِن الهَلَكَة، وذلك بـتعلُّم الفرائضِ والواجبات والسُّنن والمُستحبَّات لِـيأْتُوها، والحرامِ والمكروهِ لِـيَجْـتنبوه، وقد يُحَوِّلُون المباحَ الجـائـز إلىٰ مندوبٍ إليه بحُسنِ النِّـيَّة، ثُمَّ تَجِدهم يجتهدون في تَعَدِّي نَـفْعِ ما عَلِمُوهُ إلىٰ غيرهم، لِـيعمَّ الخيرُ الناسَ أجمعين ما استطاعوا إلىٰ ذلك سبيلاً، فـتَجِدهم يُحَـقِّقُون مسائلَ الشريعة مسألةً مسألةً، والمجتهدُ غيرُ المُـقَصِّرِ منهم، الحاملُ لِـهَمِّ الدعوة إلَى الله، ليس بينه وبين درجة العالِم الرَّبَّانِيِّ إلَّا الاتِّساع في الاطِّلاع والتَّعَلُّم والبحث والنَّظَر علىٰ منهج الاستدلال السَّلَفيِّ الصحيح، منهجِ الدليل، إذ العِلْمُ ما جاء به الدليلُ، فكان أمرُهم علَى العِلْمِ والعَمَلِ والدعوة إليهما0
وبين الرَّبانِيِّ والمتعلِّم علىٰ سبيل النجاة تَجِدُ في سُبُلِ الدعوة مُـتَسَكِّعين، مُـتَـنَطِّعين، مُـتَـفَلْسِفين، مُـتَـبَجِّحِين، مُـتَسَفِّهين، سُفهاءَ، جُهَلاءَ، لا ناقةَ لهم ولا جَمَلَ في عِلْمٍ ولا تعليم، أرادوا أن يُزاحِمُوا الرَّبَّانيين والمتعلِّمين علىٰ سبيل نجاةٍ، فيما وَصَلوا إليه بجهدهم ونَصَبِهِم وحَمْلِهم للهُمُوم، فما كان بين أيديهم لهذه المُـزاحَمَة إلَّا الكذب والغش والحِـيَل والمَكْر والتَّـزَيُّنِ بما لَمْ يُـعْـطَـوْا، ولَيِّ الأَلْسُنِ بالجهالات لِـتَحسبوه مِن العلوم وما هو مِن العلوم، والرغبة في التصدُّر والتكلُّم في دِين الله، وحب الظهور والترأُّس وكثرة السَّوادِ حَوْلهم، وكانت الأداةُ الفعَّالةُ لِإفسادِهم وتخريبهم: الإنترنت وصفحات الفيس بوك، فـيخرج السفيهُ الإِمَّعَةُ الجهولُ منهم -وكُلُّهُم كذلك- لِـيُـنَـفِّسَ عن النقص الشديد الذي أُصِيبَ به مِن قِلَّة العِلْم، وانعدام التَّمَيُّز بدرجةٍ مِن الدَّرَجاتِ العِلْمِـيَّة الدعوية، فـيخرج لِـيُسَفِّهَ ممَّن عَجَـزَ هو أن يَصِلَ إلىٰ درجتهم -وأَنَّىٰ له هذا ؟!- فـيصير حالُهُ حالَ مكروبٍ مهمومٍ بأوجاع الجهل والخِذْلان والنقص النفسيِّ الذي يدفعه في بعض الأحيان إلَى ادِّعاء ما ليس له؛ لأنه سفيهٌ مريضٌ ناقصٌ مَوْتُورٌ، لا يرىٰ أمامه ولا يسعىٰ إلَّا فيما يُـقِـيمُ حالَهُ ويُـصلِحُ عِوَجَهُ في أعين الناس، بالزور والبهتان والتَّـشَبُّعِ بما لَمْ يُـعْـطَ، وأَمْـرُهُ بَـيِّنٌ جَلِيٌّ مكشوفٌ عند أهل البصيرة، وحاله: كالهِـرِّ يحكي انـتـفاخًا صَوْلَةَ الأسدِ، وهو دائمًا -كأُنْمُوذَج للهمج الرعاع- في دائرةٍ مغلقة تدفعه دَفْعًا لِإحداث الوسائل والطُّـرُق التي يعلو بها اسمه، ويذيع صيته -زعمًا منه- ولو بالباطل، حتىٰ يتمرَّسَ علىٰ أنواعه، حتىٰ يصبحَ مُدافعًا عن الباطل قائمًا به وله0
والحاصل أنهم طوائف شَـتَّىٰ، وأصناف عِدَّة، كلهم علىٰ قلب رَجُلٍ واحدٍ، وصفاتٍ واحدةٍ، فـيتـقوَّىٰ بعضُهم ببعضٍ، حتىٰ كانت منهم جماعةٌ وفِـرْقَـةٌ تَصُدُّ عن الحق، وتدعو إلَى الباطل والضلال باسْم السُّـنة والدعوة إلَى الله، ولقد عَلِمْتُ أَمْـرَهُم وخَـبَـرْتُـهُ، فمنهم مَن دَنَّسَ لِحْـيَـتَهُ علىٰ صفحات الإنترنت، وفي الطُّـرُقات، بعلاقاتٍ نسائية مُحَـرَّمة، قد سُجِّلَ له طَـرَفٌ منها، وهذا الأُنموذجُ مـثالٌ لرؤوسهم !! فما ظَـنُّكَ بأذْيالِهم ؟!
الهِـرُّ منهم يُحْبَسُ نِصْفَ يومٍ، فـيقول إخوانُهُ مِن الجُـرْذان: شيخَ المِـحْـنةِ يا رمضان !
ألا شاهَتْ وجوهُ الخِـرْفان، وطُمِسَتْ كلماتُ الخَـرْفان !
الهِـرُّ منهم يُـقَـبِّـلُ رأسَ الرَّجُلِ مِنْ أهل السُّـنة، وبين عَـشِـيَّـةٍ وضُحاها يُسَفِّهُهُ بِهَوًى وبُهْتٍ !
ومنهم مَن توَرَّطَ في معامَلاتٍ مالية تُـشِـينُ العامِيَّ -فضلاً عمَّن يَدَّعي أنه مِن طلبة العِلْم- وأنا أعلمهم بأسمائهم، ومنهم… ومنهم…
في منظومةٍ أخلاقـيـةٍ نَـتِـنَـةٍ عَـفِـنَـة، قد فاحتْ رائحـتُهم، وعَمَّتْ فضائحُهم ونَـتَـنُهم، وهُم بهذه الشاكلة يرغبون في تعليم الناسِ دينَهم !
فإذا كان ذلك كذلك فـقد تَـنَـزَّلَ عليهم قولُهُ تعالىٰ:
﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الرعد: 17]0
فـهُم الـزَّبَـدُ بِـعَـيْـنـهِ ، هُم الغُـثاءُ والغــباء0
والأصل أنَّ الهَمَجَ الرعاع لا يُـلْـتَـفَتُ إليهم ولا يُـؤْبَـهُ بهم، غير أنَّ قلة العِلْم، وكثرة المكر والحِـيَل، وذيوع الجهل وانتشاره بين طلبة العِلْم، فضلاً عن عوامِّ الناس، جَعَلَ لِمِثْلِ هؤلاء وُجودًا في الواقع، كما أَثَّـرَ الإخوانُ المسلمون في واقع بلاد المسلمين، مع عِلْمِ البصير أنهم لا شيء، وقد يتعيَّنُ في بعض الأحايِـين شرحُ الواضحات، وتَـبْـيِـين البيِّنات، وتجلية الجليَّات0
أضِفْ إلىٰ ذلك، عنصر الاحتياج المالي الذي ابْـتُلِيَ به الكثير الكثير مِن طلبة العِلْم، وهو عنصرٌ فعَّالٌ في تغيير الحق، وتشويه المعتقَد، وتصيِـير الصدقِ كذبًا، والرأسِ في الذَّبِّ عن السُّـنة مُـبْـتَدِعًا، والعالِمِ جاهلاً؛ كما في الحديث: (( إنَّ لِكُلِّ أُمَّـةٍ فـتـنةً، وفـتـنةُ أُمَّـتي المالُ )) رواه الترمذيُّ في سُـننه (2336) وقال: «حديث حسنٌ صحيح»، والحاكمُ في المستدرك (7896) وصحَّحه، ووافـقه الذهبي، وأحمدُ في المسند (17401)0
ولا يكون ذلك إلَّا مِن سوء الظن بالله، وغياب اليقين بحِكْمَتهِ، والجهل المُـفْرِط بأصول السُّـنة0
ولقد ترَكَ الهمجُ الرعاعُ جُـرْذانُ أهلِ السُّـنة أَهلَ البدع والأهواء، والْـتَـفَـتُوا الْـتِـفاتةً كُـلِّـيًّـةً لِمَنْ خالَفَ هواهُم مِنْ أهل السُّـنة، فـنشَطُوا في تسفيهه والنَّـيْلِ منه، وهذا مؤشرٌ خطيرٌ علىٰ فساد دعوة أهل السُّـنة؛ لفساد الوسَط الدعوي، وكثرة الجهل، وإلَّا فلا تؤثِّر دعوةُ الباطل علَى الحق، فـتَجِدهم يُحَذِّرون مِنْ أهل السُّـنة في القُرىٰ والأمصار، ولا يكون تحذيرهم إلَّا سببًا في تمكين دعوة أهل السُّـنة في القُرىٰ والأمصار0
غير أنه: غلبة الدَّخَلِ، والدَّغَلِ، والحقد، والحسد، وفساد القلوب علىٰ أصحابها، فـيفـتضحون علىٰ
ألْسِنة أنفسِهم، وليسوا علىٰ شيءٍ، ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾ [الرعد: 17]0
لقد تحوَّلتْ طوائفُ مِن طلبة العِلْم إلىٰ عصاباتٍ وبلطجِـيَّـةٍ وشَـبِّـيحَةٍ وقُطَّاعِ الطريق إلَى الله، باسْمِ الله ورسولهِ ومنهجِ السَّلَف ! أمرهم إلىٰ خسارةٍ وتَلَف، وبهتانٍ وعصيانٍ وسَخَف، ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف: 21]، ﴿وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 18]؛ ولذلك تَجِدُ هؤلاء الجُرذان قد تجَسَّدَ الغباءُ كُلّ الغباء في أشخاصهم ﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]0
ومع كل ما وصفتُ به هؤلاء العُمْيَ، فهذا مِن باب إحسان الظن بهم؛ لأنِّي علىٰ ظاهر ما تقدَّمَ لا أُخْرِجُهُم مِن السُّـنة، لكن لَمَّا تأمَّلْتُ في بُغْضِهِم الشديد، ودأبِهم في الصَّدِّ عمَّن اشْـتُهِرَ عنه أنه كالصارم المسلول علَى المبتدعة في سُـنة رسولِ الله ﷺ ، ومعرفـتي أنَّ بعضَهم كان -وما زال خُـفْـيَـةً- مِن المُـقَـرَّبِـين ممَّن بدَّعَهُم العلماء وأخْرَجُوهم مِن دائرة أهل السُّـنة إلىٰ هاوية الابتداع، عَلِمْتُ أنَّ الأمر في أصلهِ وحقيقتهِ صراعٌ بين السُّـنةِ وأهلِها، والبدعةِ وأهلِها، في بعض وجوه هذه الصراعات الزائـفة0
﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾ [الرعد: 17]0
قال ابنُ منظور في «لسان العرب» (21/ 1803) (زبد):
(( زَبَدُ اللَّبَن: رَغْـوَتُه ، والزُّبْدُ -بالضم- خُلاصة اللبن )) اهـ0
قال الحافظ ابنُ كثير في تفسيره (4/ 283) :
(( ولهذا قال: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗ﴾ أي: لا يُـنْـتَـفَعُ به، بل يتفرق ويتمزَّق ويذهب في جانبَيِ الوادي، ويَعْلَقُ بالشَّجَر، وتَـنْـسِـفُـهُ الرِّياحُ، وكذلك خبثُ الذَّهَب والفضة والحديد والنحاس يذهب لا يرجع منه شيءٌ، ولا يبقىٰ إلَّا الماء وذلك الذهب ونحوه يُـنْـتَـفَعُ به )) اهـ0
وقال القرطبي في تفسيره (9/ 215) :
(( وهو أنَّ المَـثَـلَـيْنِ ضَرَبَهُما اللهُ للحقِّ في ثباتهِ، والباطلِ في اضمحلالهِ، فالباطلُ وإنْ عَلا في بعض الأحوال فإنه يضمحلُّ كاضمحلال الزَّبَدِ والخبث )) اهـ0
والذي ينبغي علىٰ كل مَن ادَّعىٰ أنه سَلَفِيٌّ، نصرةُ السُّـنة وأهلِها، ولو كان منهم مَن قَـتَـلَ أباه أو وَلَدَهُ، فإنَّ الضابطَ الذي تُـقامُ به المعاملاتُ، والمُعَوَّلَ عليه الذي يحكم التصرفات: صلاح المنهج واستقامته علىٰ مثل ما كان عليه النبيُّ وأصحابهُ، وعلىٰ ذلك قامت سُوقُ الحُبِّ والبُغْض، والمُوَالاةِ والمُعاداة، فإذا قامتْ علىٰ غيره هَلَكَ القومُ وأهلكوا، كحال الهَمَجِ الرعاعِ البُهْتِ المُـتَمَرِّسِينَ للمُـنكَرِ والكذبات، مَرَدُوا علَى النفاق والسيئات0
فهل يُـزَاحِمُ الزُّبْدَ غُـثاءٌ ، يَـتَـرَنَّحُ تَـرَنُّحَ السَّكْران ونُهُوضَ المصاريع؟!
وهل تُحَوِّلُ الحسراتُ والرَّغواتُ أحلامَ العاجزين مشاريع؟!
وهل لِمَنْ خَـرَّبَ السُّـنَّـةَ بِاسْمِها، له بِمَكْرِهِ وصَدِّهِ عنها إلَّا الفقاقيع؟!
شَـتَّانَ بين الضَّمِّ والفَـتْحِ يا رعاع ! وهل يفهم الهَمَجُ البَعُوضُ المواضيع؟!
فـنعوذ بالله مِن السَّفَهِ والغباء والغِلِّ المُدَمِّرِ لِأصحابه، وأن تَـؤُولَ دِفَّـةُ الدعوة إلَى الهَمَجِ الرعاع، فـهُم يسعون إليها ليلَ نهارَ ، لا مَـكَّـنَهُم الله منها وصَدَّهُم بِـعِـزَّتهِ عنها، وحَفِظَ الله للمسلمين دِينَهم وسُـنَّـتَهم، بِـزُبْدِ الدُّعاةِ الرَّبَّانِـيِّـين، والحمد لله رب العالمين، واللهُ مِن وراء القصد، وهو يهدي السبيل0


وحَـفَـرَها في صدور الخاسرين
سَــيْـفُ:
د/ أبي عبد الرحمن
عِــيد بن أبي الســعـود الـكــيال
وكـان الانـتـهاء مِــن الجَـــــــوْلَـة
مـنـتصف ليلة السبت 1/ذي الحجة/1437هـ
كـأوَّل عملٍ أتـقـرَّبُ به في الأيام العـشـر
إلَى العـزيـز الحـكـيم
سُـــبحانه

تحـمـيل بـصـيغة PDF
مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock