ر4913 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 28-04-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
أمانة التبليغ

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده ﷺ ، أمّا بعد:
فلقد قـال ربُّ العِـزَّة الحـكـيم العـلـيم فـي مُـحْـكَمِ آياته من سورة آل عمران:
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ[آل عمران:187]0

قال الحافظُ ابنُ كـثيرٍ في تفسيره (2/ 116) عند الآية:
(( هـٰذا تَوْبِـيخٌ مِن الله وتهديدٌ لأهل الكتاب، الَّذِينَ أخذ عليهم العهد علىٰ أَلْسِـنَةِ الأنبياء أن يؤمنوا بمحمدٍ ﷺ، وأن يُـنَـوِّهُوا بذِكْرِهِ في الناس ليكونوا علىٰ أُهْـبَـةٍ مِن أَمْـرِه، فإذا أَرْسَلَهُ اللهُ تابَعُوهُ، فكَـتَموا ذٰلك وتَعَوَّضُوا عمَّا وُعِدُوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدُّونِ الطَّـفِـيف، والحَـظِّ الدُّنْـيَـوِيِّ السخيف، فبئست الصَّفْقَةُ صَفْقَـتُهم، وبئست الْبَـيْعَةُ بَـيْعَـتُهُم0 وفِـي هـٰذا تـحـذيـرٌ للعُـلماء أن يَـسْــلُـكُـوا مَـسْـلَـكَـهُم، فـيُصِـيـبَهم ما أصابهم، ويُـسْــلَكَ بِـهم مَـسْـلَـكَـهُم، فَـعَلَى العُـلماءِ أن يَـبْـذُلُوا مـا بِأَيـْدِيهم مِـن العِـلْمِ النافـعِ ، الدَّالِّ عَـلَى العَـمَلِ الصـالح ، ولا يَـكْـتُمُوا مِـنه شَـيئًا )) اهـ
وقال القُرطـبيُّ في “الجامع لأحكام القرآن” (4/ 234) عند هـٰذه الآية:
(( هـٰذا متصلٌ بذِكْرِ اليهود ، ثم مع ذٰلك هو خَـبَـرٌ عامٌّ لَهُم ولغيرِهم0 قال الحسنُ وقـتادة: هي في كُلِّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمَ شَيءٍ مِن الكتاب، فمَنْ عَلِمَ شيئًا فلْيُعَلِّمْهُ ، وإيَّاكُم وكِـتْمان العِلم فإنه هَلَكَة0 وقال محمدُ بْنُ كَعْبٍ الْـقُـرَظِـيُّ: لا يَحِلّ لِعَالِمٍ أن يسكُتَ علىٰ عِلْمهِ، ولا للجاهل أن يسكت علىٰ جهله؛ قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ الآية0
وقال أبو هُـرَيْـرَة: «لولا ما أخَذَ اللهُ علىٰ أهل الكتاب ما حَـدَّثْـتُـكُم بِـشَيْءٍ»، ثم تلا هـٰذه الآية: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ الآية )) اهـ
وقال السعديُّ في تفسيره (ص160) :
(( الميثاقُ هو العهدُ الثقيلُ المُؤَكَّد، وهـٰذا الميثاقُ أخَذَهُ الله تعالىٰ علىٰ كُلِّ مَن أعطاه [الله] الكتبَ وعلَّمه العِلْمَ، أن يُـبَـيِّنَ للناس ما يحتاجون إليه ممَّا علَّمَهُ الله، ولا يكتمهم ذٰلك، ويـبخل عليهم به، خُصُوصًا إذا سألوه، أو وَقَعَ ما يُوجِبُ ذٰلك، فإنَّ كُلَّ مَن عنده عِلم يجب عليه في تلك الحال أن يُـبَـيِّـنَهُ، ويُوَضِّحَ الْحَـقَّ مِن الباطل0 فأمَّا المُوَفَّـقُونَ، فقاموا بِهذا أتَمَّ القِـيام، وعلَّموا الناسَ ممَّا علَّمهم الله، ابتغاءَ مَرضاةِ رَبِّهِم، وشَفَقَةً علَى الْخَلْقِ، وخوفًا مِن إِثْمِ الكِـتْمان )) اهـ

قلتُ: بل الأمر أشدُّ وأعظمُ؛ فقد قال الْمَلِكُ سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ[البقرة:159]0
قال ابنُ كثير في تفسيره (1/ 297):
(( هـٰذا وَعِـيدٌ شديدٌ لِمَن كَـتَمَ ما جاءت به الرسلُ مِن الدلالات الْـبَـيِّـنة علَى المَقاصِدِ الصحيحةِ والْهُدَى النافعِ للقلوب ، من بعد ما بيَّنه اللهُ تعالىٰ لعباده في كُـتبهِ ، التي أنـزلها علىٰ رُسُلِه0
قال أبو العالية : نـزلتْ في أهل الكتاب، كَـتَمُوا صفةَ محمدٍ ﷺ ثم أخبر أنهم يلعنهم كُلُّ شيءٍ على صنيعهم ذٰلك، فكما أن العالم يستغفر له كُلُّ شيءٍ ، حَـتَّى الحوت في الماء والطَّـيْـرُ في الهواء، فهؤلاءِ بخِلافِ العُلماء الذينَ يَكْـتُمُون، فـيَلْعَنُهم الله ويلعنُهم اللاعِـنُون0
وقال عطاءُ بْنُ أَبِي رَبَاح: كُلُّ دَابَّةٍ والْجِنُّ والإنسُ0
وقال قتادةُ والرَّبِـيعُ بْنُ أنسٍ: يعني تلعنهم ملائكةُ الله، والمؤمنون0
وجاء في هـٰذه الآية: أنَّ كاتِمَ العِلْمِ يَلْعَـنُه اللهُ والملائكةُ والناسُ أجمعون، واللاعِنُون أيضًا، وهُم كُلُّ فَصِيحٍ وأَعْجَمِيٍّ، إمَّا بِلسانِ المَـقالِ، أو الحال0
وقد وَرَدَ في الحديث المسند مِن طُرُقٍ يَشُدُّ بعضُها بعضًا عن أبي هريرةَ ﭬ وغيرهِ ؛ أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «مَن سُئِلَ عن عِلْمٍ فَـكَـتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِلِجامٍ مِن نار»0 )) اهـ

قلتُ: وهو حديثٌ رواه أحمدُ في المسند (8514، 10370، 7561، 7930، 8035، 8623)، وابنُ ماجه في سُـنَـنهِ (261)، وأبو داودَ في سُـنَـنهِ (3658)، والترمذيُّ في سُـنَـنهِ (2649) وقال: «حديثٌ حسن»، وقال الذهبيُّ في الكبائر: «إسناده صحيح»، ورَمَـزَ السيوطيُّ إلىٰ صحته في الجامع الصغير (ح:8732)، كما في فيض القدير للمناوي (6/ 195)، وقال في شرح الحديث: ((«أَلْجَمَهُ اللهُ بلِجَامٍ مِن نارٍ» أيْ: أُدْخِلَ في فِـيهِ لِجَامًا مِن نارٍ مُكافأَةً له علىٰ فِـعْلهِ؛ حيث أَلْجَمَ نَـفْـسَـهُ بالسكوتِ في محل الكلام، فالحديث خرَجَ علىٰ مُشاكَلَةِ العُقوبة للذَّنْب؛ وذٰلك لأنَّ الله أَخَذَ الميثاقَ علَى الذينَ أُوتُوا الكتابَ لَـيُـبَـيِّـنُـنَهُ للناسِ ولا يكتمونه ، وفيه حَثٌّ علىٰ تعليم العِلم، لأنَّ تَعَلُّمَ العِلْمِ إنَّما هو لِنَشْرِهِ ودعوةِ الخَلْقِ إلَى الحَقِّ ، والكاتِمُ يُـزاوِل إبطالَ هـٰذه الحكمة، وهو بعيدٌ عن الحكيم المُـتْـقِن ؛ ولهـٰذا كان جزاؤه أن يُلْجَمَ تشبيهًا بالحيوان الذي سُخِّر ومَنَعَ من قصد ما يريده ، فإنَّ العِلم شأنه دعاء الناس إلَى الحق وإرشادهم إلَى الصراط المستقيم )) اهـ

وقال الْمَوْلَىٰ جَلَّ وَعَلا: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا[الأحزاب:39]0
قال الحافظُ ابنُ كـثيرٍ في تفسيره (6/ 221) :
(( يَمْدَحُ تبارَكَ وتَعالىٰ «الَّذِينَ يُـبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّه» أيْ: إلىٰ خَلْقِهِ وَيُؤَدُّونَها بِأماناتِها «وَيَخْشَوْنَهُ» أيْ: يَخافُونهُ ولا يَخافُون أحدًا سِوَاهُ فلا تَمْنَعُهم سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلاغِ رِسالات اللَّه تعالىٰ «وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا» أيْ: وكَفَىٰ بِاللَّهِ ناصِرًا ومُـعِـينًا، وَسَـيِّدُ النَّاسِ في هَذَا الْمَقَام -بَلَىٰ، وَفِي كُلِّ مَقَامٍ- مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّه ﷺ فإنه قام بِأداءِ الرِّسَالَةِ وإبْلاغِها إلىٰ أهلِ الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب، إلىٰ جميعِ أنواعِ بَنِي آدَم… ثُمَّ وَرِثَ مَقام الْبَلاغ عنه أُمَّـتُهُ مِن بَعْدهِ فَـكان أَعْلَىٰ مَن قام بِها بَعْدَهُ أصحابه ﭫ بَلَّغُوا عنه كما أَمَرَهُمْ به، في جَمِيع أقوالهِ وأفعالهِ وأحوالهِ، في لَيْلهِ وَنَهَارهِ، وَحَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلانِيَتهِ، فَـرَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم، ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفٍ إِلَىٰ زَمانِنَا هَـٰذَا فَـبِنُورِهِم يَـقْـتَدِي الْمُهْـتَدُونَ وعلىٰ مَـنْهَجِهمْ يَسْلُكُ الْمُوَفَّـقُونَ فَـنَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْمَـنَّانَ أَنْ يَجْعَلنَا مِنْ خَلَفِهِم0
رَوَى الإمامُ أحمدُ في مسندهِ عن أَبِي سَـعِـيد الْخُدْرِيِّ ﭬ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: «لا يحـقـرَنَّ أَحَدُكُم نَـفْـسَـهُ أَن يَـرَىٰ أَمْـرًا للَّهِ فِـيهِ مقالٌ ثُمَّ لا يَقُول، فَـيَـقُولُ اللَّه: ما يَمْنَعُكَ أَن تَقُول فيه؟ فَـيَـقُول: رَبِّ، خَشِيتُ النَّاسَ0 فَـيَـقُول: فأنا أَحَقُّ أَن يُخْشَىٰ»0 )) اهـ
أقول: هـٰذا الحديثُ رواه أحمدُ في مسنده (11194) وابنُ ماجه في سُننه (4008) في كتاب الفتن، وحُقَّ له أن يَرْوِيَهُ في كتاب الفتن، قال البوصيري في الزوائد عند الحديث (4/ 362): «هـٰذا إسنادٌ صحيحٌ، ورِجالُهُ ثِقاتٌ»، ورَواهُ الْبَيْهقِيُّ في السُّـنَنِ الكُبرىٰ (10/ 90-91)0

أقول: بل الأَمْـرُ يَصِلُ إلَىٰ دَرَجَةِ الخِـيانَةِ للأمـانة لو قَصَّرَ العالِمُ في التكَلُّم بما يَعْلَمُ ممَّا يَـنْصَلِحُ به حالُ المسلمينَ؛ لوجوب البيان والتحذير؛ قال تعالىٰ: ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـ‍ٔولُونَ[الصافات:24]، فـبعموم لفظ هـٰذه الآية لا بخصوص السبب، يَعْلَمُ الْحَـصِـيفُ مسئوليةَ التبليغِ وعِظَمَ النُّـقُوصِ عنها0
وقال تعالىٰ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ[الأنفال:27]0
قال القرطبي في تفسيره (7/ 283):
(( والخيانةُ: الْغَدْرُ وإخفاءُ الشيء؛
ومنه: ﴿يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ[غافر:19]،
وكان ڠ يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن الجُوعِ فإنه بِئْسَ الضَّجِـيعُ، ومِن الخِـيانة فإنَّها بِئْسَتِ الْبِطانَةُ»حاشية(1)0
______________________
(1) رواه ابنُ ماجه في سننه (3354) قال البوصيري في الزوائد (4/ 50): «هـٰذا إسنادٌ ضعيفٌ، كَعْبٌ: هو الْمَدَنِيُّ، مجهولٌ تَـفَـرَّد بالرواية عنه ليثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وهو ضعيفٌ »0

والأماناتُ: الأعمالُ التي ائْـتَمَنَ اللهُ عليها العِبادَ0
وسُمِّيَتْ أمانةً لأنها يُؤْمَنُ معها مِن مَـنْعِ الْحَـقِّ ؛ مأخوذة من الأمن0
﴿وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾: أيْ: مـا فـي الخـيانة مِن القُـبْح والعار )) اهـ

وقال تعالىٰ: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ[الحجر:94]0
قال القرطبيُّ في جامعه (10/ 46) :
(( قوله تعالىٰ: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾: أيْ: بالذي تُؤمر به، أيْ: بَلِّغْ رِسالةَ اللهِ جميعَ الْخَلْقِ لِـتَـقُومَ الْحُـجَّـةُ عَلَيْهم فـقَدْ أَمَرَكَ اللهُ بِذٰلك0
والصَّدْعُ: الشَّـقُّ، وتَصَدَّعَ القومُ: أيْ: تفرَّقوا، ومنه: ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصَّدَّعُونَ[الروم:43] أيْ: يتفرقون؛ فقوله: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾ قال الْفَـرَّاءُ: أراد فَاصْدَعْ بالأمر، أيْ: أَظْهِرْ دِيـنَكَ0 وقال ابنُ الأعرابي: معنَىٰ ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾ أيْ: اقصد0
وقيل: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾ أيْ: فَـرِّقْ جَمْعَهُم وكَلِمَتَهُم بأن تدعوهم إلى التوحيد، فإنَّهم يتفرَّقون بأن يُجيب البعضُ، فيرجع الصَّدْعُ علىٰ هـٰذا إلى صَدْع جماعة الكفار )) اهـ

قلتُ: ومِن ثَمَّ فإنَّ الصَّدْعَ بالْحَـقِّ يُـفَـرِّقُ جماعةَ الباطل، والصَّدْعُ بالسُّـنة يفرِّق جماعةَ البدعة ويزلزلها0
وقال ابنُ كـثيرٍ في تفسيره (4/ 348) :
(( يقول تعالىٰ آمرًا رسولَهُ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصَّدع به، وهو مُوَاجَهَةُ المشركينَ به، كما قال ابنُ عباسٍ: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾ أيْ: أَمْضِه0
وفي روايةٍ : افعل ما تُؤمر )) اهـ
وقال السعدي في تفسيره (ص435):
(( ثُم أمَرَ اللهُ رسولَهُ أن لا يبالي بهم ولا بغيرهم، وأن يصدع بما أمر الله ويعلن بذٰلك لكل أحد ولا يُعَوِّقَـنَّهُ عن أَمْرِهِ عائِقٌ، ولا تَصُدَّهُ أقوالُ الْمُـتَهَوِّكِـينَ، ﴿وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ أيْ: لا تُبالِ بِهم، واترك مُشاتَمَتَهُم ومسابَّـتَهُم مُـقْبِلاً علىٰ شأنك0
ثُم قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِينَ﴾ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ به، وهـٰذا وَعْدٌ مِن الله لرسوله أن لا يَضُرَّهُ المُستهزِئُون، وأن يَكْـفِـيَهُ اللهُ إيَّاهُم بما شاء مِن أنواع العقوبة )) اهـ
وكذٰلك مَن بَلَّغَ عن الرسول ﷺ0

فهـٰذه آياتٌ بيِّناتٌ تتصدَّعُ لها قلوبُ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، رَغَبًا ورَهَبًا، وتتفطَّـرُ لها صُدُورُ الدُّعاةِ إلَى الله علىٰ بصيرةٍ، فَرَقًا وَنَصَبًا، فـيَـنْـتَصِبُونَ عند سماعِها والإنصاتِ لها، لله رَبِّ العالمينَ ، مُبلِّغينَ بالنِّذارةِ والْبِشارة، بالتحذير والتبيين، يتتبعون الْخَلَلَ لِـيُصْلِحُونَهُ ، ويَلْتَمِسُونَ الـثُّـلَمَ ثُلْمَةً ثُلْمَةً في جدار الدعوة ؛ فـيُعالجون الشُّقُوقَ فيه لِـيُـقِـيمُونَهُ؛ فلا يَـنْـقَضَّ؛ فيَدْرَأُونَ الضَّعْفَ عنه، فيستقيمُ ويَثْبُتُ ثباتَ الراسِخِينَ وإنَّما تُؤْتَى الدعوةُ مِن ثُغورٍ شَـتَّىٰ، وَجَبَ علينا بـيانُها لحماية الدِّينِ، والتحذيرُ منها0

فمنها: ثَغْرَةُ التكفيرِ والخروجِ علَى الحُكَّامِ والتَّحَـزُّب، فـيقوم الخوارجُ التكفيريُّون والإخوانُ والحِـزْبِـيُّون دعاة علىٰ أبواب جَهنمَ مِن جِلْدَتِنا ويَتكَلَّمُون بأَلْسِـنَـتِـنا، فيقولون: «قال الله، قال رسوله، قال الصحابة…» ؛ وَهُم يَهْدِمُون شعائِرَ الدِّيانة شَعِيرةً شَعِيرةً ، ويَنقُضُون عُرَى الإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً بِاسْمِ الشَّـرِيعةِ والشَّـرْعِـيَّـةِ والسَّـلَـفِـيَّـةِ والسُّــنِّـيَّـة، وَهُم مِن أبعد الناس عمَّا يدعون بِاسْمهِ وإليه0
ومِن عباءَةِ هـٰؤلاءِ تخرجُ كُلُّ الشُّرُورِ مِن الإرهابِ والتفجيرِ والدَّمِ والهَدْمِ، فـيُطْعَنُ في كُلِّ الدِّيانة مِن كُلِّ حَدبٍ وصَوْبٍ، وتُسَنُّ الأَلْسِـنَةُ، وتُشْحَذُ الأَقْلامُ؛ وتَـقَعُ علَى الأُمَّـةِ الطَّوَامُّ، كُلُّ ذٰلك بسبب هـٰذه الطائفة 0

ومنها : ثغرةُ العَـلمانِـيَّـةِ واللِّـيـبْـرَالِـيَّـةِ وهَدْمِ الدِّيانة بِطاغُوتِ العُقُول التي تَـرُدُّ الكتابَ والسُّـنَّةَ والإجْمَاعَ، وتدعُو الناسَ إلَى الإلحادِ والرِّدَّة تحت مُسَمَّى «الوَسَطِـيَّة والاعتدال»، فـيطعنون في الأحاديثِ ورِجالِهَا وفي الإسنادِ، فـيقومُ العَلمانِـيُّون اللِّـيـبْـرَالِـيُّون قَوْمَةَ رَجُلٍ واحدٍ علىٰ قَـنَوَاتِهِم الفضائية لا لِشَيْءٍ إلَّا لِهَدْمِ الدِّيانة، مُـسْـتَعِـينينَ في ذٰلك -حتىٰ تكتملَ الخَدِيعةُ- بِرِجالٍ ظاهِرُهُم أنَّهم مِن أهلِ العلم! وهُم شياطينُ مَـرَدَة ، فـيصبغون الكُـفْـرَ بالإيمانِ، والبدعةَ بالسُّـنَّةِ زُورًا وبُهْتانًا وكَذِبًا، وهُم مع ذٰلك يَسْـتَمِدُّون إِلْحادَهُم وضلالَهم ممَّا يفعله التكفيريون الإرهابيون ويطعنون في الدِّيانة مِن بَـوَّابَـتِهِم الكُبرىٰ، مُـسْـتَعِـينينَ في ذٰلك بعِلم الكلامِ والفلسفةِ والمَـنْطِـقِ التي بها يُهْدَمُ الدِّينُ هَدْمًا0

ومنها: ثغرةُ التَّصَوُّفِ والغُـلُـوِّ فيه حتىٰ تُعْبَدَ مِن دون الله آلهةٌ شَـتَّىٰ، وهو مُـناخٌ مُـناسِبٌ وبِـيئَةٌ مُمَهّدَةٌ لِـتَلَقِّي المذهبِ الشِّـيعِيِّ الرَّافِضِيِّ بالْقَـبُول، الذي يُـنكِـرُ القُرآنَ والسُّـنةَ وشعائِرَ الإسلام، كما يقول الصُوفِيُّ الضَّالُّ الْهُالِكُ: حَدَّثَـنِي قلبي عن رَبِّي، فـيَلْـتَـقُونَ مع العَلمانيين في رَدِّ الكتابِ والسُّـنَّةِ والإجماعِ، والْكُلُّ يصبغُ ضَلالَهُ بِصِبْغَةٍ شَرْعِيَّةٍ دِيـنِـيَّـةٍ ، لِـتَجِدَ الصَّدَىٰ في نُـفُوسِ عَوامِّ المسلمينَ0

ومنها: ثغرةُ المُـوَاطَـنَـةِ ورَفْعِ شِعارِ التَّجْمِـيعِ الْمُطْلَقِ لِلْفِرَقِ الْمُختلفة تحت رايةٍ شـيطانيةٍ تدخلُ تحتها كُلُّ طَوائفِ المجتمع: الكافر والمسلم، والسُّـنِّيُّ والرَّافِضِيُّ والمُبتدِعُ وأهلُ الأهواء بِـتَعدُّدِ طَوائفِهم: الْقَدَرِيَّة، والْجَـهْمِـيَّة، والْمُـعْـتَـزِلَة، والأَشاعِرَة، وغيرهم، حيث لا وَلاءَ وَلا بَراءَ، وقَدْ قام الحُبُّ والْبُغْضُ والْمُوَالاةُ والْمُعادَاةُ علىٰ غير ما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابه ﭫ، المنهجِ الْحَقِّ والطريقِ المستقيمِ والسبيلِ القويم 0

ومنها: ثغرةُ التَّمْـيِـيعِ والوهنِ والضَّعْفِ في تطبيق شريعة الفرقة الناجية، قد عُرِفَ بِها الكثيرُ مِمَّن يَـنْـتَسِـبُون إلىٰ أهل السُّـنَّةِ والجماعة، فـتجدهم يُظْهِرُونَ بعضَ مَسائلِ المنهجِ الْحَقِّ، وغالبُ مَسائلهِ يسكُـتُون عنها0 منهم مَن كانت عِلَّةُ سُكُوتهِ «الرغبةُ في دعوة الآخرين»، حتىٰ كاد أن يذهبَ معهم فـيُخالِطَهُم ويُجالِسَهم ويُماشِـيَهُم حتىٰ عُرِفَ بِذٰلك مِن كثرة مباشرته له0 ومنهم من دَفَعَهُ الْخَجَلُ الشَّـيْطانِيُّ للمُـيُوعَةِ والْخُـنُوثَةِ في تطبيقِ المنهجِ، ومثل هـٰؤلاءِ مِن السهل جِدًّا أَن ينحَرِفُوا عن الجادَّةِ ويَضِلُّوا0 ومنهم من يفكِّر بعقليةِ التُّجار، لا يريد أن يَخْسَرَ أحدًا، لا إلىٰ هـٰؤلاءِ ولا إلىٰ هـٰؤلاءِ، مُذَبْذَبُونَ مُدَلِّسُونَ غَشَّاشُونَ، تجارةٌ خاسرةٌ !

وفِي خِضَمِّ هـٰذه الْمَهْلَكَةِ يغيبُ منهجُ التحذيرِ والتبيين، ويعلو منهجُ الْمَصالِحِ والْمَفاسِدِ القائِمَةِ علَى الدُّنيا لا على الدين، فـتَـتَـفَـرَّقُ عُـرَى الإسلامِ أَشْلاءً مُمَـزَّقَـةً، وتتبعـثَـرُ شعائِرُهُ هَدَرًا، ثُم تَجِدُ هناك طائفةً جَهُولَةً مُـتعالِمَةً، لا تَحْـفَظُ كتابَ اللهِ -واللهِ- ولم تُحَـقِّقْ مِن مسائلِ الشَّرِيعةِ والدِّيانة مسألتينِ، قد نَصَّبَتْ مِن نَـفْـسِها الْحَكَمَ علَى الأشخاصِ والمَشايخِ مِن غير الرجوع إلىٰ مشايخِ أهلِ السُّـنةِ، صِـبْـيانٌ يعبثون لا كبيرَ لهم، بل كُلُّهم كِـبارٌ جَهابذةٌ !! فيجعلون هـٰذا شيخًا جليلاً، وهـٰذا طُوَيْلِبَ عِلْمٍ، وهـٰذا الشيخ لا يُؤْخَذُ منه عِلْمٌ، وهم لا يحفظون في مُصْطَلَحِ الحديثِ قاعدةً، ولا يُحْسِنُونَ التَّـفْرِيقَ -أصلاً- بين السُّـنِّيِّ والمُـبْـتَدِع، تَجِدُهم يَـتَغَوَّطُون مِن أفواههم في صفحاتِ النِّت0

وعلىٰ ضَوْءِ هـٰذه الْمَعْجَنَةِ نَشَأَتْ طوائفُ مِن طُلابِ العِلم خَالَطَ قلوبَهم هـٰذا التَّشْوِيهُ الْمَنْهَجِيُّ وأثَّـرَ فيهم قَوْلاً وفِعْلاً ومُـعْـتَـقَدًا، قد بُـثُّوا في صفوف أهل السُّـنة، منهم حَسَنُ النِّية الذي لا يعلم، ومنهم الماكِرُ الخبيث، ومنهم الإمَّعَة، ومنهم الْمَصْلَحِيُّ الْمُـرَائِي، ومنهم المبتدعُ الْمُـتَخَـفِّي الذي دُسَّ لِـتـفـريـقِ صَفِّ أهلِ السُّـنة، واخْـتلَطَ الحابِلُ بالنَّابِل، والسُّـنِّيُّ بالمبتدع، والحقُّ بالباطل، وفَسَدَت الأجواءُ وحَدَثَ الـتَّـلْبِـيسُ، وتَكَوَّنَتْ منظومةُ فسادٍ مُكْتَمِلَةٌ، تضرب بجذورها تحت جدار الدعوة السلفية، تأتيه مِن القواعد، تـنخر فيه كالسوس والجرذان والفئران التي نَخَرَتْ سَدَّ سَــبَـإٍ فأَضـعَـفَـتْـهُ حتىٰ إذا أتَى السَّـيْلُ فأَهْلَكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ تبعًا0

فأَزْعَجَني الأمْـرُ وأَرَّقَـنِي جِدًّا، لا سِـيَّما أنَّ الكثيرَ مِن منظومة الفساد تلك قد تَحايَلُوا ومَكَرُوا حتَّى اخْـتلَسُوا ثِـقَـةَ مشايخهم فيهم، وسَرَقُوا وُدَّهُم لِمَا يُجِـيدُونَهُ مِن إحسانِ ظاهرِهم بالقَوْلِ والفِعْلِ! وهُم أصلٌ مِن أُصُولِ الْفِـتَنِ والشُّرُور التي تقعُ في طُـرُقاتِ الدعوةِ السلفية، وتُـفـسِـدُ بين مشايخِ أهلِ السُّـنة الَّذينَ هُم أهلُ السُّـنَّةِ حَـقًّا0
ثُم تَجِدُ هـٰذه المنظومةَ الإفساديةَ يجمعُهم وَلاءٌ وبَراءٌ ونُصْرَةٌ ومُعاوَنَةٌ وشَدُّ أَزْرٍ ورَوَابِطُ مَـصْلَحِـيَّةٌ تَصِلُ بين أفرادِها الْمُـتفَرِّقِـينَ في المُدُنِ والْقُرىٰ، يُـقَوِّي بعضُهم بعضًا، تَجِدُهم جميعًا وقلوبُهم شَتَّىٰ، قد وُجِدَ بينهم الْبُغْضُ والْحِـقْدُ والْمُـنافَسَةُ وسِجَالٌ يظهر فيهم بين الحين والآخَر، غالِبُ أَمْرِهِم قد قام علىٰ أهدافٍ شخصيةٍ وشِـلَلِـيَّةٍ بَغِـيضَةٍ، قد توجد في أي مجالٍ مِن مجالاتِ الدُّنيا والتنافسِ فيها، ولا تنبغي بِأَيِّ وَجْهٍ مِن الوجوهِ أن توجد في صُفُوفِ الدَّعوةِ إلَى الله تحت شِعَارِ «مِـثْلُ ما كان عليه النبيُّ وأصحابه»، ولـٰكن وُجِدَتْ فـتَوَجَّبَ التَّصَدِّي لِهـٰؤلاءِ الشياطين0

فلمَّا شُوِّهَتْ الدعوةُ إلَى الله مِن وُجُوهٍ عِدَّة، وبالتتبُّعِ والاستقراءِ لِمَا يَحْدُثُ في الواقعِ يُعْرَفُ هـٰذا، تَعَيَّنَ علىٰ مَن خَـبَـرَ أَمْـرَ هـٰؤلاءِ أن يُـبِـيِّنَ ويُحَذِّرَ، لا سِـيَّما لو عُلِمَ مِن أمْرِهِم ما لا يَظُـنُّون هُم أنَّ أحدًا يعرفه سواهم، وما أُبِـيحَ للضَّرُورَةِ يُـقَدَّرُ بِقَدْرِها؛ لِصَلاحِ الدعوة إلى الله، فَلَوْ تَوَجَّبَ ذِكْرُهُم بأسمائهم لِـتَطْهِـيرِ الدعوةِ مِن الخَبَثِ والفساد، ولإِكْمالِ التحذيرِ والتبيين، لَـكَانَ ذٰلك -بإذْنِ اللهِ تعالىٰ- للخروجِ مِن مُسْـتَـنْقَعِ الفسادِ وبَراثِنِ الْمُـخَـرِّبِـينَ؛ أداءً للأمانة، ودَرْءًا للخيانةِ للهِ وللرسولِ وللمؤمنينَ، وخَـوْفًا مِن الوُقُوفِ بين يَدَيِ اللهِ لِلْمُسَاءَلَة، ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـ‍ٔولُونَ[الصافات:24]0
ولو اسْتَلْزَمَ ذٰلك مِـنِّي الكِـتابةَ المُفَصَّلَةَ في مُصَنَّفٍ يَجُوبُ الأمْصَارَ والقُرىٰ، لا آلُو جُهْدًا؛ حتىٰ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَـيِّـنَةٍ ويَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَـيِّـنَةٍ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين0


وكَـتَبَ:
د/أبو عبد الرحمٰن عِـيد بن أبي السعود الكيال
وذٰلك فـي عُمق لــيلـة الســبت
16 مـن شهر رجـب عــام 1437هـ
23 من أبريل (نيسان) عام 2016م

من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock