ر2341 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات الشيخ مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 04-09-2019 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
اليَقِينُ والبُرْهَانُ على حُجِّيَّةِ قِيَاسِ الفُلُوسِ على النَّقْدَيْن والأثْمَانِ

الحمد لله وَحْدَهُ والصلاة والسلام على من لا نبيِّ بعده أمَّا بعد:

فقد نقل الإمام ابن المنذر في كتابه «الإجماع» (ص54) فقال:

«487- وأجمعوا على أنَّ السِّتَّة الأصناف متفاضلًا يدًا بيد ونسيئة، لا يجوز لأحدهما، وهو حرام» اهـ.

قلت: ونقله أيضًا أبو الحسن بن القطان في «الإقناع في مسائل الإجماع» (2/ 220) باب: ذكر بيع الأصناف الستة، وهذا إجماع الكافّة من العلماء بغير خلاف.

وقال الإمام ابن هبيرة الوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد الحنبلي (ت560هـ) في كتابه «الإفصاح عن معاني الصحاح» (2/79)، فقال كلامًا مُناسِبًا في المسألة:

«واتفقوا على أنَّ الربا المحرّم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها، وأنه مُتعدّ منها إلى كل ما يلحق بشيء منها» اهـ.

قلت: وهذا إجماع معتبر ستظهر فائدته.

وكذلك قال ابن قدامة في «المغني» (5/432/ مسالة (704) باب الربا والصرف:

«واتفق المعلِّلون على أنَّ علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثُمَّ اختلفوا في علة كل واحد منهما» اهـ.

ودليل هذه الإجماعات: ما رواه البخاري في «صحيحه» (2176، 2177) ومسلم (75/1584)، (77/1584)، (84/1588)، (83/1588) من حديث عبادة وأبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ اسْتَزَادَ، فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ».

ثُمَّ هذه المقالة إِنَّما اقتصرت فيها على بيان علَّة الذهب والفضة، وهما النقدان والقياس عليهما لأهمّيتهما.

(*) كلام أهل العلم في بيان أنَّ علَّة الذهب والفضة الثَّمَنِيَّة:

قال ابن هبيرة في «الإفصَاح» (2/79- 80):

«واختلفوا في العلة، …. وقال مالك والشافعي: العلة في الذهب والفضة الثَّمَنِيَّة» اهـ.

وقال الشافعي في «الأم» (3/25/حديث 1172/ باب الربا):

«والذهب والوَرِق مُبَاينان لكل شيء لأنهما أثمان كل شيء، ولا يُقاس عليهما شيء» اهـ.

وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (12/15/ باب ما جاء في الصرف):

«وذلك أنَّ العلة في الذهب والوَرِق -يعني: الفضة- أنَّهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات» اهـ.

قلت: وقال كذلك النووي في «شرح مسلم» (11/5):

«فقال الشافعي ومالك: العلة في الذهب والفضة كونها جنس الأثمان» اهـ.

ونقل صديق حسن خان في «الروضة الندية» (2/108) عن الشافعي:

«بوصف النقدية» اهـ.

قلت: أمَّا قول الشافعي: «ولا يُقاس عليهما شيء» خالفه فيهما الإمام مالك وقال: بل يُقاس عليهما كما سيأتي قريبًا.

(*) وقال أبو العباس القرطبي في: «المفهم لما أُشْكِلَ من تلخيص كتاب مسلم» (4/375/ حديث 1676):

«وذهب مالك والشافعي وأتباعهما إلى تعليل ذلك الحكم بكونها أثمانًا، وهل هو مُعلل بمطلق الثَّمَنِيَّة فيلحق بذلك كلَّما كان ثمنًا كالفلوس والجلود المطبوعة إذا تُحُومِل بها -[يعني: مثل النقود الورقية والمعدنية اليوم]- أو بثَمَنِيَّة رءوس الأثمان، وقيمًا للمتلفات غالبًا، فتخرج الفلوس وغيرها منهما؟

قولان لأصحابنا؛ والذي حمل المعللون على القول بالتعليل: التمسك بالقاعدة الكلية: أنَّ الشرع جاء باعتبار المصالح، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل، وقد سَبَرْنا -يعني بالاختبار والتقسيم- أوصافه فلم نجد أوْلى من هذا، فتعين أن يكون هو العلة» اهـ.

قلت: ويؤكد كون العلة مطلق الثَّمَنِيَّة؛ وجواز القياس عليها؛ ما قاله في «المدونة الكبرى» للإمام مالك رواية سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم، (3/5):

«قلت: أرأيت إن اشتريت بدراهم فافترقنا قبل ان نتقابض قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد، قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرةً بالذهب ولا بالوَرِق، ولو أنَّ النَّاس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سِكَّة وعَيْنٌ لكرهتها أن تباع بالذهب والوَرِق نَظِرةً -[يعني: نسيئة وآجل]-.

قلت: أرأيت إن اشتريت خاتم فضة أو خاتم ذهب أو تِبِرَ ذهب بفلوس فافترقنا قبل أن نتقابض أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا في قول مالك، لأنَّ مالكًا قال: لا يجوز فَلْسٍ بِفَلْسَيْن، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نَظِرة.

قال ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: الفلوس بالفلوس فضل فهو لا يصلح في عاجل بآجل، وإلَّا عاجل بعاجل، ولا يصلح بعض بذلك ببعض إلَّا هاء وهاء، قال: الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما كرِها الفلوس بالفلوس وبينهما فضلٌ أو نَظِرة وقالا: إنها صارت سِكَّة -يعني: عُمْلَة- مثل سِكَّة الدنانير والدراهم.

قال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم إلَّا يدًا بيد.

وقال يحيى بن أيوب: قال يحيى بن سعيد: إذا صَرَفْت درهمًا فلوسًا فلا تفارقه حتى تأخذه» اهـ.

قلت: هذا أحسن ما قيل في هذا الباب وأقواه وأفقهه، لأنَّ هذا نص صريح في قول مالك والمالكية في التنصيص على أنَّ الفلوس يجرى فيها ربا الفضل، قوله: «سكَّة» أراد بها الدراهم والدنانير المصنوعة والمضروبة، مثلها الفلوس، مثَّلها مالك حتى لو كانت السكِّة من الجلود لكانت تجرى فيها الربوية وهي ربا الفضل والنسيئة، وكذَلك أيضًا كل هذه العملات المختلفة أنها ربوية يدخل فيها الربا صريح، وهو يدخل في أحاديث الصحيحين المذكورة آنفًا في الأصناف الستِّة، وهذا يؤكد عند مالك أن علّة الذهب والفضّة ليست قاصرة، وأنَّ قياس الفلوس على الذهب والفضّة قياس جليٌّ؛ لأنَّ الفلوس من الشبيه والنظير للدراهم والدنانير، اللذين كانا على عهد رسول الله ، وإن لم يكن كذلك فلن تستقر أُمور النَّاس المالية، ومن ثَمَّ يجوز الربا بزيادة بين نقود النَّاس اليوم، وهذا من أخطر ما يكون من الفساد، إذْ الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، والنقود أو الفلوس هي قيم المتلفات وثَمَنِيَّة رءوس الأموال وأثمان السلع في البيوع، ومن ثُمَّ تقاس على الذهب والفضة: الفلوس والأوراق المالية بجنسها من كل بلد في العالم على اختلاف أنواعها كاليورو والدولار.

وقال الإمام الحنفي الكاساني (ت587هـ) في كتابه المهم في فقه الحنفية «بدائع الصنائع» (4/400- 408):

«ويجوز بيع المعدودات متفاضلًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد أن يكون يدًا بيد كبيع الفَلْس بالفلسين بأعيانهما، وعند محمد [صاحب أبي حنيفة]: لا يجوز؛ ووجه قوله: أنَّ الفلوس أثمان؛ فلا يجوز بيعها بجنسها متفاضلًا كالدراهم والدنانير، ودلالة الوصف عبارة نُقدرُ به مالية الاعيان، ومالية الأعيان كما تقدر بالدراهم والدنانير، تقدر بالفلوس فكانت أثمانًا، ولهذا كانت أثمان عند مقابلتها بخلاف جنسها، فكان بيع الفلس بالفلسين بغير أعيانها وذا لا يجوز، ولأنها إذا كانت أثمانًا فالواحد يقابل الواحد فيبقى الآخرُ فضل مال لا يقابله عوَض في عقد المعاوضة، وهذا تفسر الربا» اهـ.

قلت: وهذا محمد إمام الحنفية وافق قول مالك فيما قاله في المدونة كما مرَّ.

وقال ابن قدامة في: «المغني» (5/425- 427/ مسألة (704):

«ثُمَّ اختلفوا في علة كل واحد منهما، فروى عن أحمد في ذلك ثلاث روايات …. والرواية الثانية: أنَّ العلَّة في الأثمان الثَّمَنِيَّة، فهي في الذهب والفضة جوهرية الثَّمَنِيَّة غالبًا فيختص بالذهب والفضة، والثَّمَنِيَّة وصف شرف؛ إذْ بها قوام الأموال؛ فيقتضي التعليل بها، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجُز إسلامهما في الموزونات؛ لأنَّ أحد وصف علَّة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء» اهـ.

وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (29/468 وما بعدها):

«فإنَّ الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان وتُجْعل معيار أموال النَّاس؛ ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، فإذا كانت مستوية المقدار حصل بها المقصود من الثَّمَنِيَّة، وكذلك الدراهم والدنانير، واختلفوا في الذهب والفضة هل هو التماثل وهو الكيل والوزن؟ أو هو الثَّمَنِيَّة؟ …. أو النهي غير معلل والحكم مقصور على مورد النصّ؟ … والثاني -يعني: الثَّمَنِيَّة- قول الشافعي وأحمد في رواية، والرابع قول داود -الظاهري- وأصحابه، ويُرْوى عن قتادة، ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته وضعف الأقوال المتقدمة، وفيها قول شاذ: أنَّ العِلَّة المالية، وهو مخالف للنصوص؛ لإجماع السلف.

والمقصود هنا: الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم، والأظهر: أنَّ العلة في ذلك هي الثَّمَنِيَّة لا الوزن كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات، كالرصاص والحديد والحرير والقطن والكتان.

وممَّا يدلُّ على ذلك: اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز ذلك.

والتعليل بالثَّمَنِيَّة تعليل بوصف مناسب، فإنَّ المقصود من الأثمان أن يكون معيارًا للأموال؛ يُتوسَّل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تُناقض مقصود الثَّمَنِيَّة، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب، فإنَّما ذلك يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمّة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.

كما انَّ النَّبِيّ ﷺ: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»([1])، وهو المؤخَّرُ بالمؤخَّر، ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع دين ثابت في الذمة يسقط، فإنَّ الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين؛ ولهذا كان هذا جائزًا في أظهر قولي العلماء كمذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، بخلاف ما إذا باع دينًا يجب في الذمّة ويشغلها بدين في الذمة، كالسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال، فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم، وفي ذمة المسلف رأس المال، ولم ينتفع منهما بشيء، فقيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد.

كما أنَّ السلع هي المقصودة بالأثمان فلا يُباع ثمن بثمن إلى أجل، كما لا يباع الكالئ بالكالئ؛ لما في ذلك من الفساد والظلم المُنَافِي لمقصود الثَّمَنِيَّة ومقصود العقد، بخلاف كون المال موزونًا ومكيلًا، فإنَّ هذا صفة لما به يقدر ويعلم قدره، ولأنَّ في ذلك معنًى مناسب تحريم التفاضل فيه.

والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان، فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها ولا ينظر إلى اختلافٍ الصفات مع خفة وزن كل درهم، فيبدّل أقل منها عددًا وهو مثلها وزنًا، فيريد المُرْبِي ألَّا يعطيه ذلك إلَّا بزيادة في الوزن، فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها، وهذا حرمه النَّبِيّ بلا ريب» اهـ.

(*) قلت: ولقد تكلم الأصوليون على أنواع الأقيسة المعتبرة وأنَّ منها: الدوران، وهو الطرد والعكس، ومعناه: أنَّ قياس الطرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع؛ لثبوت علّة الأصل فيه، وقياس العكس يقتضي نقي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه، كما فصَّله ابن القيم في «الإعلام» (1/131- 132)، وضرب له الأمثلة من القرآن، وأثبته واعتبره وكذلك تكلم الأصوليون في باب مسالك العلّة، يعني الأدلة الشرعية التي تُثبت بها العلة، أو الطرق التي تدل على كون الوصف علّة، وهي تنحصر في النص والإجماع والاستنباط، ومن الاستنباط إثبات العلّة بالسَّبْر والتقسيم وكلاهما واحد، وهو حصر الأوصاف في الأصل وإلغاء بعض ليتعين الباقي للعلّية كما يُقال: علة الخمر إمَّا: الإسكار، أو كونه ماء العنب أو المجموع بينهما، وغير الماء وغير الإسكار لا يكون علة بالطريق الذي يفيد إبطال علّة الوصف، فتعين الإسكار علّة [التعريفات للجرجاني (103)]، فكذلك تعينت علة مطلق الثَّمَنِيَّة في النقدين، والفلوس والعملات الورقية كالنقدين بالجمع بين المتماثلين في الحكم للعلة الجامعة بينهما.

وكذلك قياس الطرد في الجمع بين الفلوس والنقدين، يقتضي إثبات الحكم في الفرع.

وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (29/459):

«وأمَّا بيع الفضة بالفلوس النافقة: هل يشترط فيها الحلول والتقابض كصرف الدراهم بالدنانير؟

فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: لابدَّ من الحلول والتقابض؛ فإنَّ هذا معتبر من جنس الصرف، فإنَّ الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا» اهـ.

قلت: وهذه الرواية لأحمد مثل رواية مالك في المدونة كما مرَّ مفصلًا.

ثُمَّ أعاد ابن تيمية نفس المسألة بعدها (29/468) فقال:

«وهما قولان في مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل» اهـ.

فاتفق معهم أبو حنيفة في قول، ومحمد صاحب أبي حنيفة، يعني: فهو قول مالك وأحمد وأبي حنيفة يجرون الربا في الفلوس، ومعهم محمد في قوله.

وقد تكلَّم الإمام ابن القيم في كتابه المبارك: «إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين» (2/414) بتفصيل الثَّمَنِيَّة ورجح القول فيها فقال $:

«وأمَّا الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة، وقالت طائفة: العلة فيها الثَّمَنِيَّة وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا الصحيح، بل الصواب؛ فإنّهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد وغيرهما ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا، فإنَّ ما يجرى فيه الربا إذا اختلف جنسه([2]) جاز التفاضل فيه دون النّسَاء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثّر دلَّ على بطلانها، وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة -[يعني: وصف مؤثر]- فهو طرد محض -[يعني: كالسواد والبياض والطول والقصر فهو وصف غير مؤثر وغير مناسب]- بخلاف التعليل بالثَّمَنِيَّة، فإنَّ الدرهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعْرَف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذْ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة النَّاس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلَّا بسعر تعْرف به القيمة؛ وذلك لا يكون إلَّا بثمن تقوم به الأشياء، وتستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذْ يصير سلعة ترتفع وتنخفض، فتفسد معاملات النَّاس ويقع الخِلْفِ ويشتدّ الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم؛ حين اتخذت الفلوس سلعة تُعَدَّ للربح، فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمنًا للنَّاس واحدًا لا يزداد ولا ينقص، بل تقوم به الأشياء؛ ولا تقوم هي بغيرها لصَلَحَ أمر النَّاس، فلو أبيح ربا الفصل في الدراهم والدنانير، فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تُقصد لأعيانها فسد أمر النَّاس، وهذا معنى معقول يختصَ بالنقود لا يتعدّى إلى سائر الموزونات» اهـ.

قلت: وهذا في غاية النفاسة والصحة والفهم، وعليه يُعْلَم فساد من يتلاعبون بأسعار العملات الدولية والتجارة فيها لعينها؛ لما يعود عليهم بالمنافع الحرام، ومن ثُمَّ لا يجوز البيع والشراء -أعني: تغيير العملات- إلَّا للحاجة والضرورة الملحة للعملة الورقية من النقود المختلفة، التي لابدَّ للنَّاس منها في سفرهم إلى البلدان ومعاملاتهم وتجاراتهم، وهذا الذي صرَّح به ابن القيم، وهو كلام يشبه كلام ابن تيمية الأمام الذي مرَّ آنفًا -رحمة الله عليهما-؛ حيث بيَّنوا المقصود بالثَّمَنِيَّة وعلّتَها ومناطها؛ في ضوء المقاصد الشرعية التي تجلب المصالح وتدفع المفاسد.

(*) تنبيه: وعليه، ثبت بما تقدم أنَّ النقدين الذهب والفضة أو الدنانير والدراهم أصل قيس عليه، والفرعُ عليه النقود والعملات الورقيّة، فلا تعبّر علة الثَّمَنِيَّة علة قاصرة؛ بل متعدية إلى غيرها، وأنَّ النقود أثمان وتقوم بعمل الذهب والفضة، ولذلك قام القانون الدولي العام في كل بلدان العالم بتحريم التزوير لهذه العلة المطردة المستمرة على مرَّ الزمان والمكان، ولا يُقال إنَّها ورقة لا غطاء لها، بل غطاؤها موثق من أولياء الأمور وحكام البلدان جميعًا، ولا تستقيم دنيا النَّاس إلَّا بهذا.

(*) والأصل في هذا السياق القاعدة المتفق عليها: الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، والنقود فرع عن الذهب والفضة بالقياس الجلي، إذْ العلة الثَّمَنِيَّة، وهي الوصف المناسب المؤثر الظاهر المنضبط الجامع بين الفرع والأصل، الذي شُرع الحكم وثبت لأجل هذه العلة، والحكم بذلك هو ثمرة القياس، فاكتملت منظومته.

(*) ولقد قامت هذه الشرعية ومدار الاستدلال فيها على الجمع والتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وهو القياس، والنقود والفلوس من الأشباه والنظائر لأصلها وهو الذهب والفضة، فتكون النقود بدلًا منهما قائمة بذاتها، بدلًا عن النقدين، وبذلك تستقيم للنَّاس مقاصد الشرعية وقواعدها الكلية القائمة على الكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين والفهم السليم، ولا يجد العامي في نفسه إلَّا حرمة الربا في ذلك.

(*) فإذا كان ذلك كذلك، فقول الشافعي الذي مرَّ في بداية البحث في «الأم» (3/25): حيث قال:

«والذهب والفضة مُبَايِنان لكل شيء؛ لأنهما أثمان كل شيء، ولا يُقاس عليهما شيء» اهـ.

فقوله: «لا يقاس عليهما شيء» فيه نظر؛ لأنَّ علة الذهب والفضة علة متعدية غير قاصرة؛ بل قيس عليها الفلوس والنقود والعملات الورقية، كما فصّلته آنفًا من قول ابن تيمية وابن القيم، لاسيما قول الإمام مالك في المدونة وهو المعول عليه في هذه المسألة.

(*) ولقد نقل الإمام ابن عقيل الحنبليّ في «الواضح في أصول الفقه» (2/57 وما بعدها) عن بعض الأصوليين قوله:

«وقد قال بعضهم: إنْ صارت الفلوس أثمانًا عُدّي حكمها إليها، فَحُرم التفاضل فيها، فعلى قول هذا القائل قد وُجِدَت خصيصةُ الأصل فيها» اهـ.

قلت: وقد ظهر من هذا البحث وجود خصيصة الأصل في الذهب والفضة وقيس عليهما الفلوس؛ ولذلك قال ابن عقيل في بداية هذا الفصل: «فصل: فيما يفتقر إليه القياس: قال المحققون من العلماء: ولابدَّ للقياس من أصل، وفرع، وعلة، وحكم، فالأصل: بما تعدّى حكمه إلى غيره» اهـ.

قلت: وجد الأصل وهو الذهب والفضة، والفرع وهو الفلوس، والعلة وهي الثَّمَنِيَّة، والحكم وهو التسوية بينهما في حرمة الربا، وهذه أركان القياس الأربعة كما في قياس النبيذ على الخمر، فالخمر الأصل، والنبيذ الفرع، والعلة الإسكار والحكم وهو التسوية والإلحاق بين الخمر والنبيذ في الحرمة؛ لأنَّ القياس هو: حمل فرع على أصل في حكم جامع بينها، والحمل: الإلحاق والتسوية، فليس ثَمَّة خللٌ في عملية القياس هنا والحمد لله ربّ العالمين، بل قام على أركانه الأربعة.

(*) ثُمَّ عود على بدء بكلام الإمام الوزير ابن هبيرة في كتابه: «الإفصاح عن معاني الصحاح» (2/79) حيث قال:

«واتفقوا على أنَّ الربا المحرَّم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها، وأنه مُتعَدِّ منها إلى كلّ ما يلحق بشيء منها» اهـ.

قلت: والفلوس قطعًا فرع يلحق بأصله وهو الثَّمَنِيَّة، وهذا الكلام يُعضدّ ما قاله ابن عقيل آنفًا، مع قول أبي العباس القرطبي في: «المفهم» (4/375) قال:

«وهل هو مُعلّل بمطلق الثَّمَنِيَّة فيلحق بذلك كلَّما كان ثمنًا كالفلوس والجلود المطبوعة إذا تُعُوِمل بها؟!» اهـ، وقد مَرَّ.

(*) القول فيما يتعلّق بالعلة القاصرة:

والمراد بالعلة القاصرة: ما لا يوجد إلَّا في مَحَلّ النصّ، ولا تتعدى إلى الفرع، ومن ثُمَّ قالوا: «لا فائدة فيها من ناحية عدم تعدي حكمها من الأصل إلى الفرع».

قال الإمام الزركشي في «البحر المحيط في أصول الفقه» (5/157):

«واعلم أنَّ العلة القاصرة إن كانت منصوصة أو مجمعًا عليها صح التعليل بها بالاتفاق، كما قاله القاضي وابن بَرْهان والهندي وغيرهم، وإن كانت مستنبطة فيه محل خلاف أصحها: أنها عِلَّة، وإن لم يتعدَّ حكم الأصل، وقال القاضي عبد الوهاب: هو قول جميع أصحابنا وأصحاب الشافعيّ، وحكاه الآمدي عن أحمد.

ونقل إمام الحرمين عن بعضهم أنَّ فائدتها: أنّا إذا عللنا تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية، أن يلحق بها التحريم في الفلوس إذا جرت نقودًا.

والمحققون على صحتها؛ لصحة ورود الشرع بها، ولمساواتها للعلّة المتعدية في استجماع شرائط الصحة والقصور؛ إذْ ما من متعدية إلَّا وهي قاصرة من وجه، فلم يبق إلَّا مطابقة النصّ لها، وذلك ممَّا يؤيدها، لا ممَّا يُبطلها كمطابقة العلَّة المعدّية، وكمطابقة سائر الأدلة المتعاضِدَة في المسألة الواحدة» اهـ.

قلت: وقد أوردت كلام الجويني للردّ على ما قاله الشافعي في بداية البحث «الأم» (3/25):

«والذهب والوَرِق مُباينان لكل شيء لأنهما كل شيء، ولا يُقاس عليهما شيء» اهـ.

وعلة النقدية هي الثَّمَنِيَّة فيلحق بها التحريم في الفلوس؛ إذا جرت نقودًا، وقد ثبت من نصوص الأئمة في هذا البحث تحريم ربا الفضل في الفلوس والنقدين وعللَّناهما بالثَّمَنِيَّة والنقدية.

وقد طرأ عليّ كلام لعلَّهُ يُفيد في هذا السياق، وهو ما قاله ابن حزم في «المحلّى» (1/138) وهو يتكلم على مسألة الاستحالة من إحالة الحرام إلى حلال، والحلال إلى حرام وهي معتبرة بالإجماع -ولي مقالة فيها على الموقع- فقال:

«والأحكام للأسماء، والأسماء تابعة للصفات التي هي حدّ ما هي فيه» اهـ.

قلت: ومثله ما قاله شيخ الإسلام في «المجموع» (19-235-237) مفصلًا.

وما قاله ابن حزم هو قاعدة كلية مطردة مستمرة في تبعية الأحكام للأسماء، وأنَّ الأسماء تابعة للصفات، فإن الخمر علتها الإسكار، وحكمها التحريم لاسم الخمر المسكر بصفاته المسكرة من الشدة وتغييب العقل، فإذا تخللت زال عنها الاسم، ومن ثَمَّ علةُ السكر، فصار اسمها خلَّا والاسم تابع للصفة فتغيّر حكمها، فإذا قلنا: إنَّ أصل النقدين الذهب والفضة أثمان المبيعات وقيم المتلفات، وجنس الأثمان، وأنَّ الثَّمَنِيَّة قوام الأموال في الذهب والفضة، وهذا هو الأصل في المسألة منذ عهد رسول الله ، ثُمَّ آل الأمر في عصرنا والعصور السالفة بعد صدر الإسلام إلى الفلوس فصارت الفلوس والنقود والعملات الورقية هي البديل الأصل اليوم؛ فهي أثمان المبيعات اليوم قطعًا وعرفًا وعقلًا، وهي قيم المتلفات قطعًا وعرفًا وشرعًا وهذا ما اجتمع على العالم أجمع كافرهم ومسلمهم، فكانت الفلوس والنقود اليوم هي حكم الذهب والفضة من قبل بصفتهما والأحكام للأسماء، والأسماء تابعة للصفات، فحلّت الفلوس مكان الذهب والفضة عرفًا ملحًّا على النَّاس، والعرف مصدر من مصادر التشريع قطعًا بالكتاب والسنَّة والإجماع، وليس هنالك في العالم أجمع صفة للثَّمَنِيَّة في الأسواق إلَّا للفلوس، وأن صاحب الذهب والفضة والأحجار الكريمة من اللؤلؤ والمرجان والماس والجواهر لا تُقيَّم أحجاره وذهبه إلَّا بالمال الذي يُقبَضُ في يده إلَّا بالوسيلة الموصلة إليه وهي الفلوس ومن ثَمَّ قلتُ مِنْ قبل: قياس الفلوس والنقود على الذهب والفضة قياس جلِّي، ومن ثَمَّ، فلا يستقيم لأحد أن يُغيِّب علَّة النقود والفلوس فيبيح الربا المحرم شرعًا بالكتاب والسنَّة والإجماع والعرف الصحيح، وكذلك المصلحة المرسلة التي أجمع عليها الصحابة ، ثُمَّ يهدم هذا القائل هذا الأصل بجواز التفاضل بين الفلوس بالربا والزيادة؟! ويكْسر الرهبة والهيبة العظيمة التي يشعر بها كل مسلم بحرمة الربا عند العوام والبسطاء والجهال، فضلًا عن العاقل والمثقف والمتعلم؟! ولقد تواترت الأخبار والأعمال والأقوال على ثَمَنِيَّة الفلوس والعملات النقدية التي زُرِعت في قلوب النَّاس أجمعين؟!، ثُمَّ جمهور أهل العلم من أئمة المذاهب على هذا، فكيف نصدم النَّاس في إرثهم العقلي العملي العُرفي الشرعي البدهي؟!

ثُمَّ أرجو الله أن يُبارك في هذه المقالة بلاغًا لله وفي الله وبالله وعلى سنة رسول الله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

كتبه الدكتور/عيد بن أبي السعود الكيَّال

مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock