بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد:
مقدمة حول الدعوة الى الله على بصيرة:
فإن الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة هى أجل المناصب منزلة ومسئولية وخطراً ومكانة وتأثيراً فى صلاح العباد والبلاد، إذ ببركة استقامتها على الجادة القويمة والصراط المستقيم السليم، تكتمل منظومة الإصلاح العام الذى يشمل كل مجالات الدين والدنيا.
ولا تكون الدعوة إلى الله على بصيرة؛ حتى تكون لله، وبالله وفى الله، وعلى أمر الله، والمراد: أن تكون هذه الدعوة التى يقوم بها الرجال خالصة لله لا يُراد بها دنيا، ولا منصب، ولا شهرة ، فقد اتفق السلف على أنه لا يحب الشهرة تقى، وجميع السلف كان يفر من المناصب ومن التصدى للفتوى، وكلهم كان ينظر فى المقام الاول إلي النجاة بنفسه، ثم إذا منَّ الله عليه أن يكون سبباً لنجاة غيره فنعم.
وأن تكون هذه الدعوة بالاستعانة بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولو دبّ فى قلب الداعية إلى الله العُجْبُ بمنزلته العلمية وتمّيزه عن أقرانه لهلك وبدأ سقوطه؛ لذلك كان يقول الإمام أحمد بن حنبل:” مع المحبرة إلى المقبرة” يعنى مع تعليم نفسى حتى الممات؛ إذ مسائل العلم لا تُحصى، والعمر قليل، ولا بركة إلا بالله العليم الحكيم.
وأن تكون هذه الدعوة على منهج الاتباع والأثر، فنتبع ولا نبتدع فقد كُفينا، وإنّا نتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر، كذا قرر السلف.
فهذه الأسباب التى تجعل الدعوة إلى الله على بصيرة، فإن اختل سبب من هذه الأسباب التى هى بمثابة أصول الدعوة السلفية المستقيمة الصالحة، فسدت الدعوة، وهلك الداعى والمدْعُوْ، والطالب والمطلوب .
أهمية الفهم الصحيح:
ومن أهم الأسباب التى تؤدّى إلى صلاح الدعوة إلى الله وجعلها على بصيرة، يعنى على علم ووضوح وبرهان وحجة ودليل ومعرفة وتحقق وتثبّت، الفهم الصحيح، لذلك قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق علي صحته: ” من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين” يعنى يفهمه حقيقة هذا الدين ومقاصده الشرعية وقواعده الكلية التى قام عليها.
وفى هذا السياق قال الإمام ابن القيم فى “إعلام الموقعين عن ربّ العالمين” (1/76-77):” وقوله_ يعنى قول عمر بن الخطاب فى رسالته فى القضاء إلى أبى موسى الأشعري رضى الله عنه – ” فأفهم إذا أدلى إليك” صحة الفهم، وحسن القصد، من أعظم نعم الله التى أنعم الله بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسدت فهومهم، وفسد قصدهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسال الله أن يهدينا صراطهم فى كل صلاة.
وصحة الفهم: نور يقذفه الله فى قلب العبد، يُميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمدّه حسن القصد وتحرّي الحق، وتقوى الربّ فى السر والعلانية، ويقطع مادّته: اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى اهـ. فلله درّ ابن القيم الإمام الجهبذ؛ قال الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ” (الأنفال 29) وقال ” وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ “( البقرة282) فالفرقان هو الفيصل الذى تفصل به وتميز بين الحق والباطل والهدى والضلال ولا يُحصل ذلك إلا بالتقوى والعمل الصالح، والتى لا يحصل التعليم الصحيح والفهم السليم إلا بها: فلذلك من المحال أن يجتمع عند رجل من الرجال الفسوق والعصيان مع العلم والفهم الصحيح للإيمان، فهذا لا يكون، وعدم فهم هذا الأصل العظيم يحدث خلخلة واضطراباً شديداً فى طرق الدعوة الى الله، يكون ذلك ابتداء من المدّعى للعلم مع فسقه، ويتفرع عليه خطب عظيم ويكون ممن يطلب ما عنده من العلم المزعوم من طلبة العلم فتفسد الدعوة بقصد من لا ينبغى للناس قصده؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ويدخل فى زمرة المقصودين خطأ: المتشبعون بما لم يعطوا، فإذا رجعنا إلى بداية المقالة ووصف الدعوة إلى الله على بصيرة بكونها لله وفى الله وبالله وعلى أمر الله، لخرج قطعا منها هذان الصنفان من الدعاة: الفاسق والمتشبع بما لم يُعط.
إنكار المنكر أصل فى العبودية:
ولما كان أصلا العبودية : الأمر والنهى الشرعي من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان الأمر بالمعروف الذى هو الأمر الشرعي والنهى عن المنكر الذى هو النهى الشرعي، هما أساس العبودية وبهما بعث الأنبياء والمرسلون، والقائم بهما من بعدهم هو الوارث لميراث الأنبياء، والسائر بهديهم ومنهجهم الحق.
وعلى قدر حظك من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على قدر أخذك من ميراث الأنبياء.
بيان الأسباب المؤدية إلى ترك إنكار المنكر:
ولكن، لما كان للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لوازم شديدة ومقتضيات قاصية، وتعب، ونصب، وجهد، ومشقة، مع حب النفس للراحة، والسكون والدعة أدى ذلك كله إلى خلو الساحة الدعوية من الآمرين المنكرين تقريباً وهذا أمر لا ينكره إلا جاحد، لاسيما وقد تقرر ذلك فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصالحين سلفاً وخلفاً. قال الله تعالى ” يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ” (لقمان 17) وقال تعالى ” أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” (البقرة 214) وما كان ذلك قطعا إلا لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وليس ببعيد علينا ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من البلاء العظيم والكرب الجسيم، حتى قال تعالى ” وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا “(الأحزاب 10-11) بل كم من نبي مرسل قتله قومه، كما هو مقرر فى كتب التاريخ والسّير للقرون السالفة، وهذا لا يخفى على المهتم بمسائل الشريعة وعلومها.
إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لم يدعا لنا صاحباً:
وقد روى مسلم فى صحيحه (224/2542) من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن خير التابعين رجل يقال له أُوَيسٌ، وله والدة، فمرُوه فليستغفر لكم” وفى رواية ” لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل” .
قال الشاطبى فى كتابه القيم “الاعتصام” (1/33): “وقد نقل عن سّيد العباد بعد الصحابة أُوَيسٌ القرني أنه قال ” إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً، نأمرهم فيشتمون أعراضنا، ويجدون فى ذلك أعواناً من الفاسقين حتى والله_ لقد رموني بالعطائم، وأيم الله، لا أدع أن أقوم فيهم بحقه “اهـ. فهذا حال سيد التابعين وخيرهم مع الناس بسبب أمره ونهيه فما ظنك بمن دونه وقال العجلوني فى ” كشف الخفاء” (1/434/ رقم 1155): ” (الحق ثقيل) : رواه ابن عبد البر وزاد “الحق ثقيل، فمن قصر عنه عجز، ومن جاوزه ظلم، ومن انتهى إليه فقد اكتفى” قال ابن عبد البر: ويروى هذا المجاشع بن نهشل، وقال : وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحق ثقيل، رحم الله عمر بن الخطاب: تركه الحق ليس له صديق” نقله ابن مفلح فى الآداب، وفى معناه ما فى كتاب روح القدس فى مناصحة النفس بلفظ : وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” ما ترك الحق لعمر من صديق” هكذا لفظه من غير ذكره مخرجه وصحابيه فلينظر” اهـ. قلت: فهل تخفي شدّة عمر رضي الله عنه في الحق علي رعيّته كلهم ؟!
ثم قال العجلوني (2/239/ رقم 2198) من (كشف الخفاء):”( ما ترك الحق لعمر صديقا)” قال النجم: هذا غير معروف فى كتب الحديث فى حق عمر، ولاعنه ولا عن غيره، وإنما روى ابن سعد فى طبقاته عن أبى ذر قال: “مازال بى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى ما ترك الحق لى صديقاً” نعم تقدم فى الحاء المهلة عن ابن عبد البر معناه فى حق عمر رضى الله عنه ” اهـ. قال صلي الله عليه وسلم علي عمر رضي الله عنه ” وأشدّهم في دين الله عمر ” رواه الحاكم في المستدرك (5784) وصححه ووافقه الذهبي.
لماذا ينفض بعض الناس عن الناهين عن المنكر؟
وعليه، فهذا الأصل ثابت عن سادات الصحابة والتابعين بلا ريب فى ذلك، فمن ألقى الله فى قلبه نور الفهم الصحيح ورزقه الفرقان المُفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، يعلم مما تقدم بيانه مفصلاً: أن انفضاض البعض من حول الآمارين بالمعروف والنّاهين عن المنكر والصداعين بالحق ليس لغلظة هؤلاء ولين غيرهم بل لشدة الحق، ونصب النهى عن المنكر الكشاف لما خفى، وركون النفس إلى الظلم والجهل، كما قال تعالى ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ” (الأحزاب 72)ومما يقوى نفور بعض الناس عن الصداع بالحق، وجود من ألف السكوت على المنكر وابتغى السلامة على زعمه وخشي وقوع الناس فيه مع رغبته لتكثير السواد حوله كحال الإخوان المسلمين من قبل كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم يريدون الكرسى، ولا يكون الكرسى إلا من رضى الناس عنهم ولا يكون رضى الناس عنهم حتى يجمعوا هم رضاهم بالسكوت على منكرهم إذ لو أنكروا على هؤلاء وعلى هؤلاء وعلى هؤلاء لانفض عنهم كل هؤلاء فصار حالهم الحرص على رضا الخلق أجمعين ولو على حساب الدين، وهذا أمر لا يخفى على العقلاء من المسلمين، وهو أصل البلاء فى هذا الباب.
فى كل مسالة وسط وطرفان وبيان حقيقة الشدّة واللين:
والمعلوم عقلا أن لكل حبل وسطاً وطرفين ، فمن مال عن الوسط إلى أحد الطرفين فهو متطرف، والطرفان تشدد وتساهل والمعنى: من ترك الوسطية وتطرف متشدداً بلا حجة ولا برهان فهذا متطرف، وكذلك من تطرف متساهلاً بلا دليل ولا بينة فهو متطرف أيضاً.
ونفس الأمر فى الشدة واللين فهناك وسط وشدة ولين ولكل حال منها سببه، فمن تشدد فى موضع اللين أو لان فى موضع الشدة فقد أفسد من حيث أراد الإصلاح، وغير شرع الله ودعى إليه على جهالة لا على بصيرة.
والأصل فى الدعوة إلى الله اللين واليسر قال تعالى ” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ ” ( النحل 125) وقال تعالى ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ” ( أل عمران 159) فهذا هو الأصل الذي يُدعى به الناس إلى يوم القيامة. ثم إنه قد يوجد من يستحق أن يغلظ عليه لعدم انقياده للموعظة الحسنة والحجة والبرهان، وكان حاله الجحود والتلون ورد البينة والدليل فى موضوع الشقاق. فهذا رجل لا يريد الحق وما تجرد له، بل أمره قائم على الهوى، فلذلك فإن الله الذى أمرنا باللين والموعظة الحسنة والأخلاق الكريمة مع المدعوين نطق فى كتابه فى مواطن كثيرة بالشدة فقال تعالى ” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ” ( الأعراف 175-176) وقال ” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ “( الأعراف 179) وهذا وصف منه سبحانه وتعالى على المخالفين للحق، وهو وصف لهم بالبهيمية بعد الكلبية، ويالها من شدة بل وسخرية على هؤلاء وأمثالهم.
وروى أحمد فى المسند (1597) والحديث في ” صحيح الجامع ” (3670) من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر من الأرض” فهذا حديث بين فى تشبيه من يأكل بآيات الله ثمناً قليلا بالبقر، فماذا بعد؟
وروى أحمد فى المسند (21132) والبخاري فى الأدب المفرد (963) و للطبراني فى الكبير (532) قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (3/82) رجاله ثقات، وابن حبان فى صحيحه ( 3153) وغيرهم من حديث أبى بن كعب قال: رأيت رجلاً تعزى عند أبى بعزاء الجاهلية، افتخر بأبيه، فأعضه بأبيه ولم يكنه، ثم قال لهم_ يعنى أبى بن كعب_ أما أنى قد أرى الذى فى أنفسكم، أنى لا أستطيع إلا ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول” من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا” وفى رواية ” فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا” وهى رواية للطحاوي فى شرح مشكل الآثار (4629) “تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار”
قال ابن الأثير فى (النهاية (5/240): أي قولوا له: عض أير أبيك” اهـ.
والأير اسم لفرج الرجل وكذلك الهن، وهذه شدة عظيمة على المخالف العاصي، روى الطحاوي كما مر آنفا – هذا الحديث تحت باب ” بيان مشكل ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقال لمن دعا بدعوى الجاهلية أو تعزى بعزاء الجاهلية ” ثم روى حديثاً آخر (4630) وهو الحديث الذى رواه البخاري فى الأدب المفرد (1314) والحاكم فى المستدرك (171) وصححه وغيرهما عن أبى بكرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” الحياء من الإيمان والإيمان فى الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء فى النار” قال الطحاوي فى شرح مشكل الآثار (6/511/1 التحفة) وهو يدفع الأشكال الوارد من تعارض الحديثين المذكورين:
” البذاء المراد فى هذا الحديث خلاف البذاء المراد فى الحديث الأول، وهو البذاء على من يستحق أن يبذوا عليه ، فمن كان منه ذلك البذاء، فهو من أهل الوعيد الذى فى الحديث المذكور ذلك البذاء فيه، وأما المذكور فى الحديث الأول، فإنما هو عقوبة لمن كانت منه دعوى الجاهلية، لأنه يدعو برجل من أهل النار، وهو كما كانوا يقولون : يا لبكر، يا لتميم، يا لهمدان ، فمن دعا كذلك من هؤلاء الجاهلية من أهل النار كان مستحقاً للعقوبة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبته أن يقابل بما في الحديث الثاني ليكون ذلك استخفافا له بالذي دعا إليه، ولينتهى الناس عن ذلك في المستأنف فلا يعودون إليه” اهـ. وعليه فمعنى الحديث أن من أتى ببدعة منكره كهذه فقولوا له عضّ ذكر أبيك ولا تكنوا بل صرحوا بلفظ الذكر إمعاناً فى تسفيهه وزجره، ولأن القياس الصحيح هو الأصل الرابع من الأصول الشرعية من أدلة الأحكام فيقاس على هذه البدعة المنكرة غيرها من البدع التى على درجتها، أو أكبر منها من باب القياس الجلي، أو قياس الأولى ، أو مفهوم الموافقة، فيشدد على المبتدعة والمخالفين بمثل هذا التشديد المخزي مثل هذا الحديث بل أشد منه، ما رواه البخاري فى صحيحه ( 2731-2732) فى حديث صلح الحديبية الطويل ، وفيه قال عروة بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم” فإني والله لأرى وجوهاً وإنى لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر الصديق: أمصص ببظر اللات، أنحن نفر وندعُه؟”.
قال الحافظ ابن حجر فى فتح الباري (5/368-369)
” والبظر بفتح الموحدة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان فى فرج المرأة واللات أسم أحد الأصنام التى كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم_ يعنى أمُصص بظر أمك فأراد أبو بكر المبالغة فى سبّ عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه من نسبه المسلمين إلى الفرار.
وفى الحديث جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه، ما يستحق به ذلك” اهـ.
قلت : ووجه الدلالة من قول أبى بكر رضي الله عنه ، إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على قوله، فلو كان لا يجوز لنهاه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع، فماذا يقول المنصف بعد هذا البيان الكاشف للأمر؟،ولا يخفي صنيع الإمام مالك علي من سأله عن كيفية الاستواء لله تعالي علي العرش، حيث بدّعه وطرده من المسجد بشدّة. ولا يخفى قول الإمام أحمد عمن أنكر خلافة أحد من الخلفاء الراشدين الأربعة ” هو أضل من حمار أهله” وذكر ابن تيمية فى العقيدة الواسطية” مثله. ولا تخفي شدّة الإمام سليمان الأعمش علي طلبة العلم حتى كان يصف بعض الطلبة بالخنازير، فقد روى عنه أبونعيم في حلية الأولياء: (6345) قال: “لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير” واللؤلؤ: رواية الحديث فإذن، وجد فى النصوص الشرعية اللين والشدة، ولكل منهما أسبابه وشروطه، فإذا نبتت نابتة ممن يطلبون العلم يفسدون في الأرض بعد إصلاحها ويسعون بمكر شديد للتصدى للتكلم فى دين الله قبل أن يكتمل عودهم فى الطلب وقبل أن تتم آلية التكلم عندهم، وقد علم عنهم أيضاً الوقيعة بين المشايخ وقد عرفت من أمرهم ما لم يعرفه غيرى، والكثير منهم على بدع من القول والعمل الخفى فاشتدت عليهم بما أشتدت به فلا يقول قائل إن ابن الكيال رجل سيئ الخلق، وإلا لكان لازم هذه المقولة الطعن فى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لاسيما ولم يصل القول منى إلى هذه الشدة، ولا لثمنها ولا عشرها، وليس ثم إلا الأهواء والمكائد النفسية الخبيثة والحقد والغل .
ولقد روى أبو يعلى فى مسنده (467) عن على رضي الله عنه أنه قال لفروخ مولى عثمان ” إنك تفتى الناس؟ فقال أجل، وأخبرهم أن الآخرة شر، قال على فأخبرنى هل سمعت منه شيئا؟ قال نعم، سمعته يقول ” لا يأتى على الناس سنة مئة وعلى الأرض عين تطرف” فقال على ” أخطأت استك الحفرة وأخطأت فى فتياك إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ، هل الرخاء إلا بعد المئة؟”.
ففرّوخ هنأ أخطأ فهم الحديث فوصفه أمير المؤمنين الخليفة الراشد على رضى الله عنه بهذا الوصف، فالاست اسم لفتحة الدّبر، ومعنى قوله” إنك لا تحسن التبرز ولا تحسن أن تصيب باستك الحفرة التى خصصت لنزول الغائط؟
وهذه صورة فيها شدة وتغليظ للقول وتسفيه لفعل المخطئ في الفتوى عن غير تعمد، فما ظنك بمن تعمد؟ وما ظنك لمن تثعلب؟ وما ظنك بمن ابتدع؟
وكتب تراجم الرجال طافحة بالألفاظ الشديدة جداً على الرجال ولينظر أحدكم مثلاً سير إعلام النبلاء، وتهذيب التهذيب وغيرهما؛ بل أنكر النبي صلي الله عليه وسلم علي من لبس خاتم الذهب فنزعه من يده وألقاه علي الأرض بشدة، والحديث رواه مسلم (52/2090) في صحيحه، وكلها شدّة في الله وبالله وعلي أمر الله.
صلاح الطالب والمطلوب من مقاصد الشريعة فى الدعوة إلى الله:
إن من المقاصد الشرعية في الدعوة إلى الله صلاح الطالب والمطلوب، الداعي والمدعو، فإذا وجد الطالب المنضبط المجتهد في الطلب من المشايخ من يقدر طلبه وسعيه فيقربه منه ويعلمه ويساعده أدى ذلك إلى صلاح الطالب، وكذلك إذا وجد من الطلاب البطال الكسول أو الماكر الخبيث الذي يبتغى الدنيا بطلبه ويلعب بذيله ويفسد الدعوة بالنميمة والوشاية، فمثل هؤلاء لابد لمن يصدهم عن إفسادهم ويزجرهم بما يستطيع أيضا لصلاح الدعوة، والتي لا تنصلح إلاّ بذلك ؛ لأن مثل هؤلاء لا تجدي معهم الموعظة الحسنة، وهذا أمر قد جُرّب بعد تعضيد وتقوية الأدلة له.
تحرير موطن النزاع وحسن الفهم وسيلة للوصول لغاية تحقيق مسائل الشريعة:
وكذلك، فإن تحرير موطن النزاع في أي مسألة من مسائل الشريعة، وحسن فهم المراد منها قبل الخوص في تحقيقها، يُعتبر من أهم العوامل المؤدية إلي حسن الاستنباط وصلاح الفتوي والتكلم في دين الله، وليس الأمر أمر فزّاعات تؤخذ من ظواهر الآيات والأحاديث من غير إلمام بأدلة الأحكام في المسألة المطروحة ومعرفة مقاصد الشريعة فيها وإحكام القبضة علي الأدلة الصارفة لهذه الظواهر سواء كانت أدلة ظاهرة أخري، أو صوارف خفية من خلال سياق النصوص، الأمر الذي يُبصره ويدركه الذين يعلمون تأويله، فإذا كان ذلك كذلك علمت: أن الشدة واللين في الدعوة إلي الله علي بصيرة مسألة نسبيّة تختلف باختلاف الداعي والمدعو، واختلاف الأحوال، فلا تعمم فيها الفتوي بالشدّة ولا تعمم فيها باللين بل هو أمر يرجع إلي فقه الرجل بما يؤدي إلي صلاح الدعوة، علي شريطة أن يكون هذا الرجل قد جمع من العلم ما يجعله محقاً وجديراً بأن يُقال عليه داعية إلي الله علي بصيرة.
فقه تعارض المصالح والمفاسد وعلاقة ذلك بإنكار المنكر أو عدم إنكاره:
ومن المقاصد الشرعية في الدعوة إلي الله علي بصيرة فقه المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ الغاية منهما الإصلاح لا الإفساد وعلي ضوء ذلك يكون الأمر والنهي، مع مراعاة أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، وأن الضرورة تقدر بقدرها، وأن الضرورات يبيح المحظورات، ولكن يكون ذلك كله بالإحاطة الممكنه بفقه هذه القواعد الكلية في المصالح والمفاسد حتي لا يخرج الأمر من إطار المصلحة إلي النفاق والميوعة والسكوت عن الصدع بالحق، فإن الأمر تزل فيه الأقدام جداً وكلما زاد فقه الرجل وفهمه منع نفسه من الزلل والخطأ، مع اعتبار ضابط الزلل والخطأ، حتي لا يفسر البلاء بأنه ثمرة الزلل. ويضبط ذلك كله حسن الفهم.
ونفس الإمر على تعارض المصالح بتقديم الأهم والملح منها على الأقل في الأهمية والإلحاح، وكل هذا يدخل تحت فقه المصالح والمفاسد وفهم طبيعة إنكار المنكر، حتى لا يؤدى إنكار المنكر إلى ما هو أنكر منه، أو ينكر المنكر بمنكر، وهذه الأمور المذكورة محل اجتهاد ونظر يختلف باختلاف الناظرين.
توضيح هذا الفقه بمثال عملي:
فمثلاً لو وجود في الوسط الدعوى بعض الرجال الذين يؤذون طلبه العلم جداً، أو يدلسون عليهم ويغشونهم وسيرقون أعمارهم، أو يستغلون منصبهم الدعوى وشهرتهم لمصالح دنيوية محضة، بما يؤثر على الدعوة إلى الله بالفساد والإفساد ولم يجد المرء من يحذر طلبه العلم منهم مع تفشى الفساد والبلاء بهم، ومعلوم عن هؤلاء المفسدين أن لهم شوكة بطرقهم الملتوية، فهنا إما أن يسكت الرجل كما سكت من حوله ويتقي شرهم ويقدم مصلحة نفسه على المصلحة الدعوية العامة من ضرورة التحذير من هؤلاء، وأما أن يعلم أن الأمر أمر بلاغ وإنكار منكر قد تعين ولو أدى ذلك إلى ما أدّى، وقد أحسن الظن بالله واليقين بنصره لأوليائه مع بركة إنكار المنكر مستدعياً قوله تعالى ” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ” ( الأحزاب 39) ولا يرى البصير الفقيه التقى إلا الحالة الثانية، لأن الأمر قد تخطى منزلة الاختيار بين الأمرين، فمع كون إنكار المنكر هنا فرض كفاية، ففرض الكفاية يسقط من على كواهل الجميع بفعل البعض، فلما سكت الجميع فقد ترتبت المسئولية والإثم عليهم جميعا، ومن ثم تعين على من تمرس بفضل الله الصدع بالحق ولا يخشى في الله لومه لائم ، إنكار هذه المنكرات ولو حدث له ما حدث، إذ كيف يفكر رجل في هذا السياق فيقول : المقدم هنا الحفاظ على دعوتى حتى لا يفسدها علي الأشرار، لأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولا يجوز أن أحافظ على دعوتى بمعصية الله وعدم القيام بما على من واجب التبليغ ، كيف لا؟ وقد حرم الكثير من دعاة السلفية من الدعوة من غير ما يعرضون للتمحيص والبلاء ، ومدار المسالة على حسن التوكل على الله تعالى قال الله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا ” (الحج 38) وقال ” إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ” (الأعراف 196) وقال عز وجل ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ” ( محمد 7) كيف لا؟ وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية الجبل فى كل العلوم وشُي به حتى سُجن سبع مرات آخر مرة مات فى سجنه، كيف لا؟ وهذا الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو محمد بن حزم طرد من بلده وحرقت كتبه، وهو الوزير ابن الوزير، كيف لا؟ وهذا الحافظ الفقيه الأصولي محمد بن على الشوكاني وقد كيد له بكل المكائد وصُدّ عنه ومكربه وحاربه أهل اليمن لما نقض المذهب الزيدى ورد أهل اليمن إلى منهج الدليل وحارب المذهبية والتعصب. كيف لا وحال إمام الدنيا في عصره وما بعده أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن لا يخفي علي أحد ؟! وهذا غيض من فيض، فلا ينظر أحدكم تحت قدميه فيسيئ الظن بالله ويغفل عن سنن الله الكونية فى خلقه ، فقد قال تعالى ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ” ( يوسف 110) ولا يسعني فى هذا المقام إلا أن أحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه بإذن الله كما ينبغى لجلال وجه ولعظيم سلطانه، أن وفقني لإنكار ما ينبغى على إنكاره من المنكر، معذرة الى الله وذباً عن الدعوة إلى الله على بصيرة التى كادت أن تُطمس معالمها، وتبصرة لطلبة العلم الذين لا يدرون إلى من وأين يتجهون ، ولتعلمن نبأه بعد حين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
وكـتـبَ :
د/ أَبو عبد الرحمن
عِــيد بن أبي السـعـود الكــيال
عزبة الهجانة، القاهرة، مصر «حفظها الله»