بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده، محمد صلي الله عليه وسلم، أما بعد:
فمن المسائل الأصولية التي تناولها علماء أصول الفقه بالبحث والتفصيل مسألة:
من الذي يعتبر قوله في الإجماع والخلاف فلا ينعقد الإجماع إلا به، فإذا خالف قوله في المسألة المطروحة والمراد تحصيل الإجماع عليها، أثر خلافُه في عدم انعقاد الإجماع، وإذا وافقهم أنعقد؟
فتحديد كنه المشار إليه وحقيقته يجعل طالب العلم علي دراية ومعرفة بصفة من يقبل قوله في العلم ومن لا يقبل، ومن يرجع إليه في الفتوي ومن لا يرجع إليه. وذلك بتبصير طلبة العلم والدعاة والمشايخ بضوابط هذه المسألة التي تعتبر من أمهات مسائل أصول الفقه، لما يترتب عليها من لوازم ومقتضيات، لاسيما وقد اختلط الحابل بالنابل والفقيه بالرويبضة، والعالم حقا بمن ليس له في العلم إلا الصيت والشهرة، وبينه وبين شروط التكلم في العلم خرطُ القتاد، وما نتج هذا الاضطرابُ العلميُّ الدَّعويُّ ونشأ هذا العبث إلا من جراء غياب المنهجية التعليمية، واكتفاء جل طلبة العلم بخطف درس من هنا ودرس من هناك، وحضور بعض الحلقات عند زيد، وأخرى عند بكر، بعيداً عن التأصيل العلمي الذي يلزم الطالب بحضور تام عند شيخ معين في علم معين، يأخذ عنه خلاصة العلم من أول باب فيه إلي منتهاه، كقاعدة تعليمية مستمرة مطردة لا تتخلف، فيلتزم عند المحدث حتي يشبع من الحديث ويأخذ كفايته ويحقق مسائله مسألة مسألة ، وكذلك في الفقه، فيأتي علي جميع أبوابه عند أهله المتخصصين فيه، ومثله أصول الفقه، العلم العمدة وعمود الخيمة في التكلم في دين الله والفتوى، وكذلك في المعتقد والتوحيد والتفسير والسيرة والتاريخ واللغة والنحو، وبقية العلوم الشرعية.
وهذا لا يكون إلا من خلال الكليات الشرعية التي يُدَرَّس فيها أساتذة متخصصون متمرسون في شتّي أنواع العلوم فينتج التميز تعلماً وتعليماً، ولا أري ذلك اليوم في مصر إلا في جامعة الأزهر طهرها الله وحفظها من كل سوء، وهذا هو المعني الصحيح لاسم “الجامعة” و”المعهد” الشرعي، بعيدا عن الزعم والادّعاء والتشبّع بما لم يعط وخيانة الأمانة، والتدريس بالصيت والشهرة والثناء العاري عن الحقيقة العلمية، والقدرة الاستنباطية الاستدلالية والتفسيرية، والوقوف بطالب العلم علي المقاصد الشرعية، ومفاتيح العلوم، وقواعد التدريس، والأصول والأسس التي قامت عليها هذه العلوم الشرعية، الأمر الذي يجمع لطالب العلم شتات مسائل الشريعة في صورة التقعيد العلمي، الذي يظفر الطالب بلُبّ الديانة، وبمراد الله ورسوله، وهذه هي أصول الدين، فإنما سمي الأصل أصلاً، لأنه يقوم عليه غيره وتتفرع علي ضوئه الفروع.
فإذا افتقر الرجل إلي الإلمام بكل ما مضي، تجده لا يزيد في درسه علي قراءة المتون من غير زيادة حرف أو تفصيل، يجهد نفسه فيما لا يحسنه، فلا استفاد هو في نفسه ولا أفاد غيره، فأوقات تهدر، وأعمار تُسرق، ولا يزال الخداع مستمراً، والمعاهد القائمة علي الغش والخداع والتشبع بما لم يعط مفتوحة، ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوي” (20/497):
“ولهذا كان المقصود من أصول الفقه : أن يُفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة” اهـ.
ومن جملة هذا المراد: اعتبار التخصص في العلوم الشرعية لا سيما في هذا الزمن والعمدة في الباب: ما رواه أحمد في مسنده ( 12839 ) والحاكم في المستدرك ( 4784 ) وصححه ووافقه الذهبي، وابن ماجه في سننه (154) واللفظ له من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدوهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” فهذا نص في المسألة، أن الله قد خص بعض الصحابة علي بعض في العلوم، وهذه الخصوصية تثقل بزيادة الاهتمام وكثرة البحث والتحقيق في العلم والعلمين والثلاثة، إذ بكل علم مئات الكتب، فمن تخصص في بعضها حتماً يتميز عن غيره الذي يفرق عمره علي كل العلوم، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلي استدلال؛ لوضوحه عقلاً، وهو أمر مشاهد ملموس في حياتنا العلمية وعليه الأمثلة.
ولا يستدرك مستدرك فيقول : الأئمة المتقدمون كان الإمام منهم جامعة متنقلة، أقول صدقت، غير أنه قد ولي زمن الأئمة، والأصل اليوم فيمن يتكلم في دين الله:
النقص وعدم الإحاطة بكل العلوم، وقلة القدرة العلمية، ومن ثم كان الاتفاق علي إنشاء الجامعات العلمية الشرعية لتكتمل المنظومة التعليمية بالجميع.
قال إمام الحنابلة القاضي أبو يعلي محمد بن الحسين الفرَّاء (ت 458ه)
في كتابه الذي يعتبر المرجع الأم في أصول الفقه الحنبلي، وهو كتاب ” العدة في أصول الفقه” (4/1136/وما بعدها)، قال:
“فصل : فيمن كان منتسباً إلي العلم، كأصحاب الحديث والكلام في أصول الديانة، إلا أنه لا علم له بأحكام الفقه وفروعه وطرق المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأي، فإنه لا يُعتد بخلافه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الحارث : ” ولا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة ممن إذا ورد عليه أمر نظر الأمور وشبهها بالكتاب والسنة” وذهب قوم من المتكلمين إلي أنه لا يصح الإجماع إلا بأن يجتمع عليه جميع أهل العلم.
ودليلنا: أن من لا مدخل له في طرق الاجتهاد وردّ الفروع إلي الأصول، فإنه يجري في أحكام الشرع مجري العامّيّ، فلمّا لم يُعتد بالعامة فيما لا علم لهم به؛ لأنهم تبع للعلماء منقادون لهم؛ وجب أن لا يعتبر أيضاً في الإجماع من ليس من أهل النظر والاجتهاد، ويبين صحة هذا : أن من لا مدخل له في تقويم الثوب وما يجري مجراه، فإنه لا يرجع إلي قوله فيه، ولا يعتد بقوله إذا احتيج إلي تقويم الثوب ونحوه، كذلك من لا مدخل له في النظر بطرق الاجتهاد في أحكام الحوادث.
ولأن القول يتبع العلم بالقول، والعمل يتبع العلم بالمعمول به، فلم يجز أن يعتد في الإجماع علي الشيء بمن لا علم له به.
ولأن المجتهد في الإجماع هو : من كان معه آلة الإجماع التي يتوصل بها إلي معرفة الحكم، بأن يعرف القياس، وأحكام المسائل، وعللها، حتي يقيس نظائرها عليها، ويرد الفروع إلي الأصول التي تشبهها، ومن لا يعرف أحكام الفروع لا يتمكن من هذا الذي ذكرنا، فلم يكن من أهل الاجتهاد، وإذا كان عارفاً بأشياء أخر، كمن عرف الحساب واللغة وغير ذلك من أنواع العلوم.
وأحتج المخالف بقوله تعالي : ” وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ” (النساء : 115) وهؤلاء من جملة المؤمنين، وقول النبي صلي الله عليه وسلم “لا تجتمع أمتي علي الخطأ” ولم يخص.
والجواب: أن المراد بذلك من هو من أهل الاجتهاد، ألا تري أنه لم يرد العامة؟! >>اهـ.
قلت : فجعل هذا الإمام : من لا علم له بأحكام الفقه وطرق المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأي بمثابة العامي الذي لم يعتد بخلافه، فأجراه مجرى العامي مع أهل العلم. ونص علي أن من لم يكن من أهل النظر بما عنده من آلة الاستنباط الأصولية، فهو كذلك، وذلك لأن علم أصول الفقه هو ” العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلي استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية” هكذا عرفه الأصوليون، فعلم الأصول هو الآلة التي تمكن من النظر والاجتهاد والاستنباط، مع شروط الاجتهاد الأخرى المعروفة.
وقال الإمام الجليل العلامة الفقيه الأصولي المحقق علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي ( ت 885 هـ) إمام الحنابلة، وصاحب كتاب : ” الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف” الكتاب الذي أتي علي كل أقوال المذهب ونصوصه، ورواياته ووجوهه لا يخرج منه شيء من المذهب حقاً. فهو كتاب شامل للمذهب الحنبلي، ثم كتب كتاباً مثله في أصول الفقه المقارن علي الراجح بالدليل وهو كتاب ” التحبير شرح التحرير” وهو كتاب ضخم من ثمانية مجلدات، علي غرار كتاب الزركشي ” البحر المحيط في أصول الفقه ” ويعتبر كتابه مرجعاً أما في هذا العلم الجليل، وما كتاب ” شرح الكوكب المنير” لابن النجار كله إلا جزءاً مستلاً منه، فكل ما قيل في جودة شرح الكواكب فهو وأضعافه يصدق علي كتابه، قال المرداوي في “التحبير شرح التحرير” (4/1555/ وما بعدها) : “ولا من عرف الحديث فقط أو اللغة ونحوه، كعلم العربية والمعاني والبيان والتصريف، لأنه من جملة المقلدين فلا تعتبر مخالفتهم، وهذا هو الصحيح عند الأمام أحمد وأصحابه وأكثر العلماء.
وكذا من فاته بعض شروط الاجتهاد، يعني: لا اعتبار بقوله في الإجماع، لأنه ليس من المجتهدين.
قال المجد بن تيمية : من أحكم أكثر أدوات الاجتهاد ولم يبق له إلا خصلة أو خصلتان، أتفق الفقهاء علي أنه لا يعتد بخلافه” اهـ
وقال الإمام بدر الدين الزركشي محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي (ت 794 هـ) في كتابه ” البحر المحيط في أصول الفقه ” وهو اسم علي مسمي حقاً، فقد حوى جل مسائل أصول الفقه علي سبيل المقارنة بين المذاهب مع الترجيح بالدليل قال فيه (4/475) : ” من أحكم أكثر أدوات الاجتهاد وحتي لم يبق عليه إلا أداة واحدة كمن أحكم علوم القرآن والسنة، ولم يبق عليه إلا اللغة أو علم التفسير، فهل يعتد بخلافه؟
قال ابن برهان : ذهب كافة العلماء إلي أنه لا يعتد بخلافة وينعقد الإجماع بدونه” اهـ
قلت : فهل تعلم يا عبد الله أحداً قد أحكم كل أدوات الاجتهاد وخصاله حتي يعتد بخلافه ووفاقه؟! وكانت صفته الإلمام بكل علوم الشريعة؟!
فإذن : ليس هنالك إلا الاعتداد بالتخصص في العلوم الشرعية فكلنا يا صاح ضعاف، ويتقوى بعضنا ببعض، والحصيف منا من أجهد نفسه ليل نهار ليستزيد من العلوم الشرعية ويأخذ منها أهمها وهو الذي يمكنه من التكلم في الدين والإفتاء ويمكنه من آلة الاستنباط.
قال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الحنفي ثم الشافعي ( ت 489 هـ ) في كتابه الجليل : ” قواطع الأدلة في الأصول” (1/481):
” إن العلماء في النحو والعربية واللغة لا نعتبر قولهم في انعقاد الإجماع عن الأحكام، وكذلك العلماء الذين لا يعرفون إلا التفسير، وإنما يرجع إليهم في الوقوف علي أقوال المفسرين من السلف، وكذلك أمر المحدثين الذين لا يعرفون إلا الرواية فيرجع إليهم فيما صح من الأخبار و ما لا يصح.
وأما الفقهاء الذين يرجع إلي قولهم في انعقاد الاجماع فهم المجتهدون، وسنذكر شرائط الاجتهاد بعد.
وأما الذين يتكلمون في الجواهر والأعراض وعرفوا بمحض الكلام ولا يعرفون دلائل الفقه، فلا عبرة بقولهم في الإجماع وهم بمنزلة العوام.
ونقول في تقسيم الفقهاء: إن من يعرف الفروع والأحكام ولا يعرف دلائلها وعللها، فهذا ناقل، يرجع إلي حفظه، ولا يعول علي اجتهاده، ولا يرتفع الإجماع بخلافه.
وأما من يكون حافظاً للأحكام والفروع بدلائلها وعللها، مشرفاً علي الأصول في ترتيبها ولوازمها، عارفاً شبهها وأدلتها وعللها، فهذا أكمل الفقهاء علماً، وأصحهم فيه اجتهاداً، وهذه الطبقة هم الذين يرجع إليه في الإجماع والاختلاف” اهـ .
قلت: وهذا لا يكون إلا بعلم أصول الفقه الذي هو آلة الاستنباط بإجماع الأصوليين قاطبة, ولذلك فهو من أهم شروط الاجتهاد وبه ينصلح المعتقد، وأقرأ كتابي ” أثر القواعد الأصولية في تصحيح المعتقد ورد شبه المنحرفين”
فهذا الكلام للإمام الجليل – السمعاني الذي لطالما نقل الإمامان شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما عنه، وكتابه ” قواطع الأدلة في الأصول” من أمهات الكتب في هذا العلم وأحسنها وأجمعها قال عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ( ت 771 هـ) صاحب كتاب ” الإبهاج في شرح المنهاج ” وكتاب ” جمع الجوامع ” ، قال في كتابه ” طبقات الشافعية الكبرى” (4/24)
” ولا أعرف في أصول الفقه أحسن من كتاب ” القواطع” ولا أجمع ” اهـ .
وأعلم أن ما ذكرت لك من نقولات أصولية، فقد أتيت لك بها من المصادر الأساسية لعلم أصول الفقه، والتي تعتبر بمثابة المغني لابن قدامة، والمحلي لابن حزم، والمجموع للنووي، والتمهيد لابن عبد البر، وموسوعة ابن حجر فتح الباري شرح صحيح البخاري، بالنسبة لعلم الفقه.
وما ذكرته لك لا خلاف فيه عند الأصوليين، بل هم مجمعون علي صحته. غير أن انتشار الجهل وشيوعه، وعدم الإلمام بمسائل الشريعة تحقيقاً وتدقيقاً ودراسة وبحثاً، أنشأ طوائف من الناس لا علم لهم ابتداء بأدوات البحث وطرقه، وبكيفية طلب العلم الطلب المنهجيّ الصحيح، وبأساليب النقد والترجيح ومعرفة الراجح من المرجوح والحق من الباطل، وأهل العلم حقاً ممن يزعم ويدعي، فحالهم فقدان الفرقان والفيصل الذي يفرق به بين الهدي والضلال والغث والسمين، فصار عند هذه الطوائف خلل عظيم في كل ما يتعلق بمسائل الديانة، فدفعهم هذا الخلل الجذري العلمي إلي استبدال الذي هو أدني بالذي هو خير رغماً عنهم وهم لا يشعرون، فنشأ عن ذلك التعصب والمبالغة الممقوتة لمشايخهم، الذين هم عوام عند أهل العلم- علي ما مر بيانه في هذا المقال – وعند التحقيق يعلم الفقيه الأصولي الحصيف أن مشايخهم هؤلاء المتعصب لهم ليسوا من أهل الفتوى والنظر والاجتهاد، والتكلم في نوازل الأمة، لفقدانهم آلة الاستنباط والفتوى، غير أن لهم أن يتكلموا في العلم فيما يحسنوه مما فتح الله به عليهم من بعض علوم الشريعة، أما إذا وصلت المبالغة الجهولة والتعصب البغيض إلي جعل العامي علامة، فهذا علامة علي الجهل المركب، والخلل المنهجي التعليمي، بل علامة علي تجذر مرضي في قلوب القوم، وليعلم طالب العلم أن كل من زعم أنه قادر علي تدريس كل العلوم الشرعية فهو كذاب أشر، يعلم هو نفسه كذب ادعائه، وما ذلك إلا لخلل نفسي وعطب عقدي، يدفع الرجل دفعاً للتحلي والتشبع بمجهود غيره ونصبه وتعبه وينسبه إلي نفسه سرقة وزوراً وبهتاناً وهذا أمر مشين منتن، نتج عن نقص وإحساس بالدونية ممزوج بالمكر والخديعة، فذهبوا ليخفوا النقص بالتجميل والتكلف الظاهر الفج، ليظهروا شيخهم في منزلة ليس منزلته ألبته وهم والله وهو، جميعاً ، يعرفون صدق ما أقوله لكم، ولكنه التشبع بما يعط، والبهت في القول والفعل، وحب التصدر والرئاسة القاتل لأصحابه، وما يتبع هذا من لوازم دنيوية ومادية أصبحت جزءاً من حياة القوم لا يستطيعون الحياة بدونها، فهي منهم وهم منها، ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، ولا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ألا القوم الخاسرون. غير أن البلية كل البلية، والفساد المستشري العريض، أن كل هذه الحيل الخبيثة الماكرة تؤثر علي طلبة العلم الصغار الذين تبهرهم الشهرة والصيت والاسم، فيذهبون كالجنادب التي تجذبها أضواء النيران المحرقة، وهم لا يشعرون أنها منظومة خداع متصل، ولا يفيق الطالب منهم إلا بعد سرقة بعض سنين عمره، ثم إذا من الله عليه بالفهم، وزالت عنه بهرجة الشهرة يبكي دماً علي ما خدع فيه، ثم يبدأ بعد ذلك من الصفر، ولا بارك الله للمزور الأبعد الخبيث السارق لأعمار طلبة العلم بزعمه وغشه وشهرته، روى مسلم في صحيحه (2129 ) من حديث عائشة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ” المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور” ولكل مقال بيانه علي حسب الحاجة.
فنعوذ بالله من التزوير وأهله، والتدليس وقومه، ونسأل الله تعالي العليم الحكيم أن يطهر الدعوة السلفية من أهل الزعم والادّعاء، وبطانات السوء المتعصبين المخادعين الغشاشين، فهم المعاول التي تهدم بها الدعوة، هذا هو الدافع الذي دفعني لكتابة هذا المقال، بياناً ومعذرة إلي الله ، وخوفاً علي الدعوة السلفية في مصر حفظها الله، في أجواء طال فيها الصمت المميت، والنفاق البغيض، والميوعة الخربة المدمرة للدعوة إلي الله، ولهذه المقالة نسيجٌ وصلة بمقالتي: «صفة من يتكلم في النوازل» فضّمها إليها يكتمل لك المراد بإذن الله تعالي، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول لاو قوة إلا بالله العزيز الحكيم
وكـتـبَ :
د/ أَبو عبد الرحمن
عِــيد بن أبي السـعـود الكــيال
الأحد 18/رمضان/1439 هــ
المـوافـق 3 / 6 / 2018 م
عزبة الهجانة، القاهرة، مصر «حفظها الله»