ر2899 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 21-04-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
مَعالِم دعوة تتآكل بل تُنحَر

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده ﷺ ، أمّا بعد:
فلقد قـال ربُّ العِـزَّة الحـكـيم العـلـيم فـي مُـحْـكَمِ آياته: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ[يوسف:108]
قال القرطبيُّ في “الجامع لأحكام القرآن” (9/ 192):
(( أيْ: قل يا محمد: هـٰذه طريقي وسُـنَّـتِي ومِنهاجي0 قاله ابنُ زيد0
وقال الربيعُ: هـٰذه دعوتِي0 وقال قتادةُ: هـٰذه ديـنِي0
والمعنىٰ واحدٌ ؛ أيْ: الذي أنا عليه وأدعو إليه يُؤَدِّي إلى الجَـنة، «علَىٰ بصيرة» أيْ: علىٰ يقينٍ وحقّ، ومنه: فلانٌ مُستبصرٌ بـهـٰذا ، «أنا»: توكيد ، «ومَن اتَّبعنِي»: عطفٌ على المُضْمَر، «وسبحان الله»: أي: قل يا محمد: «وسبحان الله»، «وما أنا مِن المشركين»: الذين يتخذون من دون الله أندادًا0 )) اهـ

وقـال الحـافظُ ابنُ كـثير في “تـفـســير القـرآن العـظـيم” (٤/ ٢٦٧):
(( يقول الله تعالىٰ لعبده ورسوله إلى الثقَلَيْنِ الإنسِ والجِنِّ، آمِرًا لَهُ أن يُخـبِرَ الناسَ أنَّ هـٰذه سبيله، أي: طريقه ومَسلكه وسُـنّـته، وهي الدعوة إلى شهادة أنْ لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها علىٰ بصيرة من ذٰلك ويقينٍ وبرهان، هو وكُلُّ مَن اتَّبعَه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ علىٰ بصيرةٍ ويقينٍ وبرهانٍ شرعِيٍّ وعـقلِيٍّ0
وقوله: «وسبحان الله» أي: وأُنَـزِّهُ اللهَ وأُجِلُّهُ واُعَظِّمُهُ وأُقَدِّسُهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، أو نظيرٌ، أو عَدِيلٌ، أو نَدِيدٌ، أوْ ولدٌ، أوْ والدٌ، أو صاحبةٌ، أو وزيرٌ، أو مُشِيرٌ، تباركَ وتعالَىٰ وتَقَدَّسَ وتَـنَـزَّهَ عن ذلك كُلِّهِ عُلُوًّا كبيرًا، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا[الإسراء:44]0 )) اهـ
* قلتُ: ولم يخرج كلامهما عمَّا قاله شيخُ المُفَسِّرِينَ ابنُ جريرٍ الطَّـبَرِيُّ، وقد روَىٰ بِسَنَدِهِ ما ذَكَرَهُ القرطبيُّ مُرسَلاً، ومنه: ما رواه عن ابن زيدٍ (15895) أنه قال في معنى الآية:
(( «هـٰذه سبيلي» هـٰذا أمري وسُـنَّـتِي ومِنهاجي «أدعو إلى الله علىٰ بصيرة» وحَـقٌّ -واللهِ- علىٰ مَن اتَّبعَه أن يَدْعُوَ إلىٰ ما دعا إليه، ويُذَكِّـرَ بالقرآنِ والمَوْعِظَةِ، ويَنهَىٰ عن معاصي الله0 )) اهـ
وقال العَلَّامَةُ السعديُّ في “تيسير الكريم الرحمٰن في تفسير كلام المَنَّان” (ص406):
(( يقول تعالىٰ لنبيه محمدٍ ﷺ «قُـلْ» للناس «هـٰذه سبيلي» وهي السبيلُ المُوَصِّلَةُ إلى الله وإلىٰ دارِ كرامته، المُـتَضَمِّـنَةُ للعلم والعمل به، وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، «أدعو إلى الله» أي: أَحُثُّ الْخَلْقَ والعِباد إلى الوصول إلىٰ ربهم، وأُرَغِّـبُهم في ذٰلك، وأُرَهِّـبُهم ممَّا يُـبعِدُهم عنه0
ومع ذٰلك فأنا «علىٰ بصيرة» مِن دِيني، أي: علىٰ عِلْمٍ ويقينٍ مِن غير شكٍّ ولا امْـتِراءٍ ولا مِـرْيَة، «وَ» كذٰلك «مَن اتَّبعَني» يدعو إلى الله كما أدعو؛ علىٰ بصيرةٍ مِن أمْرِه…))اهـ

* قلتُ: فعلَىٰ ضوء ما تقدَّم مِن النقولات في معنى الآية الجامعة، يُعْلَمُ أنَّ الدعوةَ إلى الله على بصيرةٍ – التي كان عليها رسولُ الله ﷺ ومَن تَبِعَهُ، وأولُّ التابعينَ صحابتُه المُكرَمون، والتي ينبغي أن يَدْعُوَ بها ويكونَ عليها كلُّ داعيةٍ إلى الله علىٰ بصيرةٍ إلىٰ يوم القيامة – هي الدعوةُ القائمةُ علىٰ أصولٍ:
(1) الأصل الأول: أن تقومَ الدعوةُ على العِلْم؛ العلم بالكتاب والسُّنة بفهم الصحابةِ الكِرام ومَن تبعَهم بإحسانٍ وسارَ علىٰ هَدْيِهِم واقْـتَـفَىٰ آثارَهُم حَذْوَ الْقُذَّةِ بالْقُذَّة0

ثُم العِلْم بما أجمعتْ عليه الأُمَّـةُ مِن مسائل الشريعة0
رَوَى الإمامُ عبدُ الرزَّاقِ الصنعانِيُّ في مُصَنَّفِه (1280) عن مَعْمَر عن الزُّهْرِيِّ قال:
« هـٰذا ما اجتمع عليه الناسُ، وليس في كُلِّ شيءٍ نَجِدُ الإسنادَ0 » اهـ

وإنَّما يكونُ الوقوفُ علىٰ مسائل الإجماع صحيحًا؛ عند التحقيق وتحرير هـٰذه المسائل؛ إذ الكثير من هـٰذه المسائل قد ثبَتَ فيها الخلافُ، مع ادِّعاء الكثيرِ الإجماعَ فيها0
ثم العِلْم بالقياس، والاسْـتِصْحاب، وسَدِّ بابِ الذَّرائعِ، والمَصلَحةِ المُرسلَةِ والْعُـرْفِ الَّذَيْنِ لا يُخالِفانِ النصوصَ، وكذٰلك شرعُ مَن قَـبْلَنا، وكُلّها أدلة شرعية مُعتبَرة لها دليلها من الكتاب والسُّنة وعملِ الصحابة الكرام، مع الإلْمام بما يجبُ مِن علوم الآلة، كاللغة والنحو والْمُصطلَح0

ثم العِلْم بأدلة الأحكام من القرآن، ثم من السُّنة مع معرفة الصحيح منها والضعيف، والوقوف على شروحاتها خاصَّة، وشروحاتِ السُّـنةِ عامَّة0

ثم معرفة عِلْمِ أصولِ الفِقْهِ وقواعدِه خاصَّة، فـيُعرَف العامُّ من الأدِلَّةِ والخاصُّ، والْمُـطْـلَـقُ والْمُـقَـيَّدُ، والْمُجْمَلُ والْمُـفَـسَّـرُ، والْمُحْكَمُ والْمُتَشَابِهُ، إذِ الْخَلَلُ في ذٰلك والتقصيرُ في الإلْمامِ بـهـٰذا العِلْم هو الْمُؤَدِّي إلى الابتداع، فما وَقَعَ مِن الخوارج في بدعتهم إلا أنهم أَخَذُوا بعموم أدلة الوعيد، وتَركُوا ما خُصِّصَتْ به مِن أدلة الوَعْد، وعكسهم الْمُـرْجِـئَةُ، بل عمومُ الفِرَقِ النارِيَّة قد انحرفَتْ مِن عدم حَمْلِ مُطْلَقِ الأدلة على الْمُقَـيَّد، والعامِّ على الخاص، والمتشابِهِ على المُحْكَم، والمُجْمَلِ على المُفَسَّر، فـضَلُّوا وأَضَلُّوا ؛ كذا قال الشاطبيُّ وغيرُه من الأصوليين من أهل السُّـنة0
لذٰلك لمَّا عَرَّفَ الشوكانِيُّ عِلْمَ الأصولِ كما في “إرشاد الفحول” (1/ 59) قال:
« هو الْعِلْمُ بالقواعدِ التي يُـتَوَصَّلُ بها إلى استنباطِ الأحكامِ الشرعيةِ مِن أَدِلَّتِها التفصيلية » اهـ

فإن أخطأْتَ في إدراك هـٰذه القواعد والعلم بها؛ كان الاستنباطُ أخطأ وأفسَدَ، وكُلَّما قَـلَّ عِلْمُكَ بها كلما تكلَّمْتَ في دينِ الله بدون عِلْمٍ ولا فِـقْهٍ، بلْ لا ينبغي لك التكلُّمُ فيه0

ثم بعد ذٰلك: الإكثارُ مِن قراءة كُتب السُّنن والآثار؛ فـفيها الشفاءُ مِن كُلِّ داءٍ يهجمُ علىٰ قلبك؛ وذٰلك لأنَّ قولَ رسولِ الله ﷺ في الحديث الذي عليه العملُ سَلَفًا وخَلَفًا وحَسَّنَهُ الترمذيُّ في سُـننه (2641) وقال شيخُ الإسلامِ ابْنُ تيمية في “مجموع الفتاوىٰ” (3/ 345): «الحديثُ صحيحٌ مشهور»، وحَسَّنَهُ الألبانِيُّ في الصحيحة (203) ، وفيه أنه سُـئِلَ ﷺ عن الفِرقة الناجية فقال: (( مِـثْـلُ ما أنا عليه اليومَ وأصحابِي ))0
فـهـٰذا الحديثُ يستلزمُ الإلْمامَ بالسُّننِ في شَتَّىٰ أنواع العلوم الشرعية، ولِكَيْ يفقَهَ الْمَـرْءُ هـٰذا الحديثَ ويُلِمَّ به لا بُدَّ أن يقفَ علىٰ ما كان عليه النبيُّ ﷺ ؛ وذٰلك مِن خِلالِ كُلِّ سُـنَّـتِهِ، وأن يقفَ علىٰ ما كان عليه صحابتُه الكرامُ ؛ وذٰلك مِن خِلالِ الإلْمامِ بـسُـنَّـتِهم وهَدْيِهم الْمُـتَمَـثِّلِ في الآثار الصحيحة المَرْوِيَّة عنهم0
ومِن ثَمَّ، فـقد تَوَجَّبَ علىٰ كُلِّ مَن دعا إلى الله علىٰ بصيرةٍ أنه كلما حَلَّ ارْتَحَلَ، كلما انتهَىٰ مِن كتابِ سُـنَّةٍ يدخل في غيره، كذٰلك هـٰكذا أبدًا0

ومما ينبغي عِلْمُهُ: معرفةُ حالِ الْمَدْعُوِّينَ وما يُناسِبُهم والتفقُّهُ في أحوالِ المسلمينَ وطَـرْحُ المواضيع التي تهمهم وتصلحهم، مع النظر إلى الأَهَمِّ فالمُهِمِّ0

والحاصلُ: لا بُدَّ مِن السَّعْيِ الحَـثيثِ إلىٰ إكمال منظومةِ العِلم التي تقومُ عليها الدعوةُ إلى الله علىٰ بصيرة، فـيَـنْصَلِحُ حالُ العِـبادِ والبِلادِ عَقَدِيًّا وأخلاقِـيًّا، في العِـباداتِ والمُعامَلاتِ، فـقوله تعالىٰ: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ﴾ معناه -كما مَـرَّ- : هـٰذه طريقي وسُـنَّـتي ومنهاجي ودَعْـوَتِي، ولا يُـعْـلَمُ ذٰلك إلا مِن السُّـنَنِ الصحاح0

وقوله: ﴿عَلَىٰ بَصِيرَةٍ﴾ أي: علىٰ عِلْمٍ، قال ابنُ فارسٍ في “مقاييس اللغة” (1/ 253-254):
(( «بصر» الباءُ والصادُ والراءُ أصلان، أحدهما: الْعِلْمُ بالشيء، يُقالُ: هو بصيرٌ به…، والبصيرةُ: البرهانُ، وأصلُ ذٰلك كُلّه وضوحُ الشيء، … ، ويقال: بَصُرْت بالشيء: إذا صِرْت به بصيرًا عالِمًا، وأبصَرْتُهُ إذْ رأيتُهُ0 )) اهـ

وقوله تعالىٰ: ﴿أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي﴾ أي: أنا ومَن اتَّبعَني أدعُو إلى الله علىٰ بصيرةٍ وعِلْمٍ وبُـرْهانٍ؛ فـتَوَجَّبَ علىٰ مَنْ دعا إلىٰ الله أن يَدْعُوَ بدعوةِ رسول الله ﷺ وصحابته الكرام -رَضِيَ الله عنهم أجمعين- وهي الدعوةُ القائمةُ على العِلم0
(2) الأصل الثانِي: أن تقومَ الدعوةُ على التوحيد:
* والمراد هنا: التوحيدُ بمعناه الشامل، فيدعو إلىٰ توحيد الله ببيان توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات0
* والدعوةُ إلىٰ توحيد منبع الاستدلال بحصره على الكتاب والسنة وما تفرَّعَ منهما من الأدلة المذكورة آنفًا، وهـٰذا يستلزم كسر طاغوتَ العقول التي تُردُّ بها النصوصُ؛ لذٰلك قال الشاطبيُّ في “الموافقات”: « ولا يُسَرَّح العقلُ إلا في مجال النقل » اهـ
* والدعوةُ إلى توحيد الفهم، بأن يُـفْهَمَ الكتابُ والسنةُ بفهم الصحابة الذين هم الواسطةُ بيننا وبين رسول الله ﷺ ؛ فكَما أنه ﷺ هو الواسطةُ بين الناس وبين ربهم ، فكذٰلك الصحابةُ هم الذين نقلوا إلينا مُرادَ الله ورسولهِ، ثم مَن تَبعهم بإحسانٍ؛ فـتَعيَّنَ علينا أَخْذُ الْعِلْمِ عنهم وعمَّن اهتدَىٰ بـهَدْيِهم مِن أئمة هـٰذا الدين0
روىٰ أبو عُمَرَ بْنُ عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله” (الصحيح) (700) عن الأوزاعي إمامِ أهل الشام قال: «العلمُ ما جاء عن أصحاب محمد ﷺ ، وما لم يجئ عن واحد منهم فليس بـعِلْمٍ»0
ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ ﭬ (693) أنه قال:
(( لا يزال الناس بخيرٍ ما أتاهم العِلمُ مِن أصحاب رسول الله ﷺ ))0
ومِن لوازم ذٰلك: السيرُ بمنهجهم في الاستنباط والفتوىٰ وأصولهما وما قاما عليهما فيما يستجدّ في دنيا الناس، ومِن ثَمَّ، فلَوْ تكَلَّمَ مَن هـٰذا حاله في مسألة -فَرْضًا- لم يتكلم فيها أصحابُ رسول الله ﷺ ، فسيقول بمثل قولهم؛ لأنه استنبطَ بمنهجهم فتشابهَتْ كلماته وكلماتهم لا محالة0
* والدعوةُ إلىٰ توحيد الجماعة؛ ففي رواية لحديث الافتراق، لمَّا سُئل عن الفِرقة الناجية قال: ((الجماعة))، وتفسيرها في اللفظة الأخرىٰ: ((مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابِي)) فهي جماعة المسلمين التي لا جماعة غيرها، وغيرُها فِـرَقٌ وفُـرْقَـةٌ، والمعنىٰ هنا: عدم التفرُّق والتحزُّب وأن يجتمعَ الدعاةُ علىٰ ما كانت عليه الجماعةُ وهُم أصحابُ محمدٍ ﷺ ، وهـٰذا حسمٌ لمادَّة الخِلافِ والتفرقِ بالكُلِّية0
وذٰلك؛ لأنَّ الفِرقةَ الناجيةَ هي الجماعة، والجماعةُ فِرقةٌ واحدةٌ، لا فِـرَقَ ولا أحزابَ، فمَن تفرَّقَ وتحزَّبَ فليس علىٰ هَدْيِ الجماعة ولا منها مِن قريبٍ أو بعيد0
فمَن زَعَمَ أنه على الحق وأنه يدعو إلى الله علىٰ مثل ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه ﭫ ، وهو يُخالِفُ في دعـوته هـٰذه الجـماعـةَ، الذينَ هُمْ أصحابُ محمدٍ ﷺ ، فـزَعْـمُـهُ باطِـلٌ مَـردودٌ عليه، لا عِـبْرةَ له؛ إذ العِـبرةُ في الكلام والعُـقود بالمَـقاصِد والمَـعانِي، لا بالألفاظ والمَـبانِي، ومـا الألـفـاظُ إلا قوالب للمعانِي0

فمَن لم يُـقِمْ دعوتَهُ علىٰ هـٰذَيْنِ الأصلَـيْنِ؛ فدعوتُهُ دعوةٌ علىٰ أبواب جَهَنَّمَ يُـفْسِدُ بها في الأرض بِاسْمِ الدِّين0

والجماعةُ: الحقُّ وما وافَقَ طاعةَ الله ورسوله ﷺ ؛ فقد رَوَى اللالَـكائيُّ في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” (160) عن عَمْرِو بْنِ ميمون، أنه قـيل لعـبد الله بن مسعودٍ ﭬ : وكيف لنا بالجماعة؟ فـقال لي: ((يا عَمْرَو بْنَ ميمون: إنَّ جمهورَ الجماعة هي التي تُفارِقُ الجماعةَ؛ إنما الجماعةُ ما وافقَ طاعةَ الله؛ وإن كُنتَ وَحْدَك))0

قال تعالىٰ: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ الآية [آل عمران:103]0
رَوَى اللالَـكائيُّ (159) أيضًا عن ابن مسعودٍ ﭬ قال:
(( يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيلُ إلىٰ حَبْلِ الله الذي أَمَدَّ به ))0

ويؤكد ذٰلك قوله تعالىٰ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا[النساء:115]0

وعامَّةُ كلمة المفسِّرينَ علىٰ أنَّ لفظةَ «المؤمنينَ» التي في الآيةِ: المُرادُ بها صحابةُ رسول الله ﷺ وﭫ ، فمَن خرَجَ عن هَدْيِهم وسبيلهم هَلَك0
ويفسر ذٰلك الخليفةُ الصالحُ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز $ فيما رواه اللالَـكائيُّ (134) وغيرُه أنه قال:
(( سَنَّ رسولُ الله ﷺ ووُلاةُ الأمر مِن بعدهِ سُننًا، الأخذُ بها اتباعٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعة الله، وقوةٌ على دِين الله، وليس لأحدٍ مِن الخَلْقِ تغييرُها ولا تبديلُها ولا النظَـرُ في شيءٍ خالفها، مَن اهتدَىٰ بها فهو مُهتدٍ، وَمَن استنصرَ بها فهو منصورٌ، ومَن تَرَكَها واتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ ولَّاهُ اللهُ ما تَوَلَّىٰ وأصلاهُ جَهنمَ وساءتْ مصيرًا ))، وبمثل ذٰلك ينصلحُ مُعتقدُ المسلمينَ0
وكأنه $ نزع بـهـٰذه الآية المذكورة0

فـهـٰذه مَعالِمُ دعوةٍ سَـلَفِـيَّةٍ إلى الله علىٰ بصيرةٍ وفِـقْهٍ وعِلْمٍ قد تَوَجَّبَ علىٰ كُلِّ الدعاةِ إلى الله الْتِـزَامُها والثباتُ عليها والدعوةُ بها ولها والولاءُ لها والبَراءُ مِن كُلِّ مَن خالَفها0

* دَعَـوةٌ تُـنْـحَـر ! *

ثُم إنَّ الْمُـتَأَمِّـلَ والْمُـتابِعَ لدعوة أهل السُّـنة في زماننا هـٰذا، لَيَجِدُ ما يَندَىٰ له الجَبينُ، وتنعصر له القلوبُ، وتتشَتَّتُ له الهمومُ وتتفرَّق؛ إذِ الْهَمُّ الذي يُـقـيمُ عليه الداعيةُ إلى الله علىٰ بصيرةٍ دعوتَهُ، هو دعوةُ الناس إلىٰ مثل ما كان عليه النبيُّ ﷺ وصحبُه الكرام ﭫ ؛ أن يدعُوَهُم إلى الجماعةِ الحَـقَّة، والهدى المستقيم، والمنهاجِ القويم، والجادَّةِ الْمُـرادَة التي هي واحدةٌ مُوَحَّدَةٌ؛ ولَـٰكِنَّ هَـٰذا الْهَمَّ شاركَـتْهُ همومٌ جَلَلٌ حادَتْ به إلى اللاشَيْء، مما تنهدم به دعوةُ أهلِ السُّـنة وتُـنْـحَـرُ بأيْدِي أبنائها !
ووَجْهُ ذٰلك: تجدُهُ في هـٰذه الْفُرْقَـةِ وهـٰذا التحزُّبِ البغيضِ، والعصبيةِ الْمَمْقُوتَةِ التي دَبَّتْ في صفوف أهل السنة، حزبيةٌ جديدةٌ قد رُفِعَ لها شعارُ الجماعة !!
عَـــبَثٌ رهِــــيب !!
وعند التحقيق وبالتتبع والاستقراء يُعْلَمُ أنَّ هـٰذه الحزبية قد نشأتْ مِن بطاناتِ سُوءٍ مِن طلبة علمٍ -زعموا- قد أحاطوا بمشايخ أهل السنة -إلا مَن رَحِمَ اللهُ وقليلٌ ما هُم- يُـفـسدون الدعوةَ أَيَّمَا إفساد، يقومُ إفسادُهم هـٰذا بِاسْمِ الدِّين، علىٰ رُوحٍ شيطانيةٍ لا عَلاقَةَ لها بالدعوةِ إلى اللهِ علىٰ بصيرة0
فأولاً: يُعظِّمون شيخَهم على أنه شيخُ الإسلام، ومَن عَدَاهُ إنْ خالَفَ شيخَهم فهو جاهلٌ أو زَلَّ ينبغي عليه أن يتبع شيخَهم، وإلا فقد رُفِعَتْ رايةُ الولاءِ والبراءِ علىٰ ذٰلك، مما يُـثْمِرُ عصبيةً جاهليةً لا تَمُتُّ بِـصِلَةٍ بمنهجِ الجماعةِ الْحَـقَّة0
* ومِن لوازم ذٰلك -حـتمًا-: الدفـاعُ عن شــيخِـهم فــيما أخـطـأ فــيه الحَـقَّ دِفـاعًا يَـنُمُّ عن كِــبْرٍ وجُحُـودٍ للحـقِّ، وتَـشَــبُّـهٍ بأهل الكـتاب الذين قال الله فـيهم:﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ الآية [التوبة:31]0
* ومن لوازم ذٰلك: التَّـسْـفِـيهُ مِن مشايخ أهـل السُّــنة، وهو أمرٌ عـظـيمٌ مُــتَّـسِـعٌ باتِّـسـاعِ الْبِطاناتِ وتَعَدُّدِها0
وإنَّما يحدثُ ذٰلك كُلُّهُ علىٰ غير عِلْمٍ للشـيخ بما يقوم به هـٰؤلاءِ الطُّلابُ مِن هَدْمِ الدعوةِ بجاهليةٍ مُخَرِّبَةٍ هَدَّامَةٍ تحت رايةِ الشـيخ وهو لا يشعر0
فـتجِدُ لِـكُـلِّ شــيخٍ -علىٰ غـير مـعرفـةٍ ولا رِضًى مـنه- جماعةً مِن المجاهدينَ في ســـبـيله هـو، لا في سبيل الله، يسـنُّونَ ألْسِـنَةً حِدادًا علىٰ مَقاهي «الفيس بُورْك» ومواخِـيرِه، مَن وافـقَهم فهو معهم وحبيبُهم، ومَن خالَفَهُم بالحقِّ والدليلِ فهو مُجرمٌ تَوَجَّبَ عليهم مُحارَبَـتُه، وهَدْمُهُ، وتَسْـفِـيهُهُ، وُجُوبًا عَـيْـنِـيًّا، ومَن لمْ يَدخُلْ في حِزبهِم فهو الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُ !
* ومِن لَوازِمِ ذٰلك: ركوبُ مَوْجَةِ النفاقِ لا مَحالة؛ إذِ الأمْـرُ حربٌ فِـعْـلِـيَّـةٌ عند هـٰؤلاء المُـخَـرِّبـينَ، فـيجوزُ فيها الكذبُ والنفاق!
* ومِن لَوازِمِ ذٰلك: المبالغةُ في رفع أقوامٍ مِن المشايخ لا ينبغي لهم هَـٰذه الْمَكانةُ، لولا كلماتُ وثناءاتُ هـٰذه الجُـنُودِ المُقاتِلَةِ المُجاهِدَة!
وكذٰلك المبالغةُ في تسفيه كُلِّ مَن تكلَّمَ علىٰ شيخهم بكلمة حق،إذْ هُمْ مُـتَجَرِّدُونَ لشيخهم لا لله وللدليل، ﴿سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ[النور:16]0
* ومِن لَوازِمِ ذٰلك: السكوتُ على الباطل ومحاربة الحق0 وهـٰذا نَـقْـضٌ لِعُـرَى الإسلام0
ثانيًا: تَجِدُ هـٰؤلاءِ أنواعًا اجتمعوا على أصولٍ باطلة، فمنهم: مَن له انتفاعٌ مادِّيٌّ لِأُناسٍ لا يعملون، فـيُطْعِمُهم مشايخُهم، فيشترون بآياتِ الله ثمنًا قليلًا ويَغُضُّون الطَّرْفَ -قَسْرًا وقهرًا- عن كُلِّ ما خالَفَ فيه شيخُهم الْحَـقَّ، وإلَّا لَانْـقَـطَـعَتْ عنهم الْمَـعُونَـةُ0

ومـنهجُ أهـل السُّــنة قِــيامُـهُ بـنـفْـسِـهِ حـتىٰ لا يُـذَلّ0

ومنهم: مَن يبحثُ عن مَجْدِ نَـفْـسِـهِ وتلميعِها وبُروزِها وشُهْرَتِها بِانْـتِـسابه لشـيخهِ، فـيتعَصَّب لا لشيخهِ بل لنفْسهِ، وإن كان الظاهر تعصُّبًا لشيخِه، ولذٰلك تجدُ هـٰؤلاءِ لو حدَثَ بينهم وبين شيخِهم أمْـرًا ما، انقلَبوا رَأْسًا علىٰ عَقبٍ، فإذا بهِمْ يسـنُّونَ ألْسِـنَـتَهم علىٰ شيخِهم يُـقَـطِّعون لَحْمَهُ وعَصَبَهُ ويُكَسِّرُونَ عَظْمَهُ بالزُّورِ والْبُهْتان، لأنَّ الأمر عندَهم بحثٌ عن مَجْدٍ شخصيٍّ بعيدًا عن الدعوةِ إلى الله علىٰ بصيرة، وقد حدَثَ هـٰذا بعينهِ عند طائفةٍ مِن مشايخ أهل السنة هنا وهناك، يعرفهم الجميعُ في مصر وخارجها0

* وممَّا حَدَثَ ويَحْدُثُ -من الأمور العجيبة- وُجُودُ شِقاقٍ وفُرقةٍ بين طلبةِ علمٍ كلهم ينتسبون إلىٰ شيخٍ واحدٍ وهو مِن أهل السنة، ثم تجدهم أحزابًا يأكلُ بعضُهم بعضًا ويطعنُ بعضُهم بعضًا، علىٰ عكسِ منهجِ شيخِهم، وإن كان ذٰلك كذٰلك -واللهُ أعلم- لغياب الإخلاص في الدعوةِ لله الواحد الأحد، مِن ناحيةٍ، ومِن ناحيةٍ أخرىٰ قيامُ أمرِهم على الجهل وعدمِ العلمِ وتحقيقِ مسائلِ الشريعة؛ لأنَّ العلمَ يُهَذِّبُ النفوسَ وينحُو بصاحبه إلى التجَرُّدِ للحقِّ وعدمِ التعصبِ، أمَّا الجاهلُ فليس أمامَهُ إلا التقليد الأعمَىٰ المذموم، والعصبية التي نُهِينا عنها؛ إذْ ليس مِن ورائها إلا الخراب، لَـرُبَّما يَصْدُقُ عليهم قولُه ﷺ فيما رواه مسلمٌ في صحيحه (53/ 1848) وفيه أنه قال: (( ومَن قاتَلَ تحتَ رايةٍ عُــمِّــيَّـةٍ ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ ، أو يدعُو إلىٰ عَصَبَةٍ ، أو ينصر عَصَبَةً …)) الحديث0

وفي رواية (57/ 1850) :
(( يدعو عَـصَــبِـيَّـةً ، أو ينصر عَـصَــبِـيَّـةً ))0

وإنَّما المصيبةُ حق المصيبة أنَّ طلبةَ اليومِ مشايخُ الغَدِ، وهـٰذا لا يعني إلا أنَّ دعوةَ أهل السنة تتآكَلُ وتُـنْحَـرُ بِأَيْدِي أبنائها ! وإلى الله المشتكىٰ0

ثُم يُشارِكُ في منظومةِ التخريبِ هـٰذه -للأسف الشديد- بعضُ مشايخ يـنـتسِـبُونَ في الْجُمْلَةِ إلىٰ أهل السُّـنة، فـيعْلَمون ويسكـتون، ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها0

* وعليه، فإنه إذا لمْ يَـقُمْ رجالٌ لهـٰؤلاءِ المُخرِّبينَ فـيكُـفُّونَهُم عن إفسادهم، لَـفَـسَدَتْ ونُحِرَتْ -فعلاً- دعوةُ أهل السنة والجماعة ثان الحال وفي المآل، لمَّا تَكْـثُر وتَعْظُم مثلُ هـٰذه المخالفات وتُـثمِر ثمارَها الْمُـنَـفِّـرَةَ عن كُلِّ خيرٍ والداعيةَ إلىٰ الشرور والآثام0

* ولا يعني هـٰذا خُلُوّ الوسَطِ الدَّعَوِيِّ مِن طلبةِ علمٍ حقيقيينَ مُحَقِّقِينَ علىٰ علمٍ وخُلُقٍ وتقوىٰ، بل الأملُ في الإصلاح مِن خِلالِهم، ولَـٰكنهم قليلون مُـتـناثِرون، عَرفوا عظمَ المصيبة فاعـتَـزَلوا هـٰؤلاءِ، أو اعْـتـزَلَهم هـٰؤلاءِ، حتىٰ لا يُـظْهِرُوا عوارَهُمْ ويَـفضحوا أمْـرَهم، كَـثَّـرَهُم الله، وبارَكَ فيهم، وهَدَىٰ بهم، وعَلَّمَهُمْ ما ينفعُهم0

واللهُ مِن وراءِ القصدِ ، وهو يهدي السبيل0


وكَـتَبَ:
د/أبو عبد الرحمٰن عِـيد بن أبي السعود الكيال
الســبت 20 مـن شــهــر ربــيـع الآخـــر عـــام 1437هـ
الموافق 30 من شهر يناير (كانون الثاني) عام 2016م

من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock