ر3116 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات الشيخ مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 24-08-2019 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
هل يُجْزِئُ البَعِيرُ في الأُضِحَيِة عَنْ عَشَرَة؟!

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، ﷺ أمَّا بعد: فهذه مسألة اختلف أهل العلم فيها فأردت تحقيقها للحاجة:

فقد روى مسلم في «صحيحه» (138/1213) من حديث جابر بن عبد الله ﭭ، وهو الحديث الطويل في مناسك الحج، ومنه أنه قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ».

قال النووي في «شرح مسلم» (8/312):

«البدنة تطلق على البعير والبقرة والشاة، لكن غالب استعمالها في البعير والمراد بها هاهنا البعير والبقرة، وهكذا قال العلماء تُجزِئ البدنة من الإبل والبقر منهما عن سبعة.

ففي هذا الحديث دلالة لإحزاء كل واحدة منهما عن سبعة أنفس، وقيامها مقام سبع شياه، وفيه دلالة لجواز الاشتراك في الهدي والأضحية». اهـ.

قلت: وهذا هو الأصل عند جمهور العلماء، غير أنه قد اشترك مع هذا الأصل أحاديث أُخر عكَّرت على هذا الأصل عموم دلالته، فشكّكت في الاستدلال به مطلقًا، وأصبح في المسألة قولان ولكل منهما دليله؛ فوجب البيان.

روى البخاري في «صحيحه» (3075، 5498) من حديث رافع بن خديج ﭬ قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ بِذِي الحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ فَأَمَرَ بِالقُدُورِ، فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ».

وفي رواية مسلم (138/1968): «ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ».

(*) وكذا روى ابن ماجه في «سُننه» (3136)، والترمذي في «سننه» (905) وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي في «الصغرى» (4404) ورواه الترمذي في الحديث قبله (904) وقال: حديث حسن صحيح بلفظ: «سبعة»، ويشهد لهذا الحديث، ورواه أحمد في «المسند» (2484) وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح عن الطالقاني وهو إبراهيم بن إسحاق ثور بن زيد الديلي ثقة، وثَّقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي ونفى شاكر من قال بعلّة في الحديث وقال: بل إسناد الحديث صحيح، والرواية متصلة زيادة ثقة فهي مقبولة، والفضل بن موسى ثقة ثبت، والحديث رواه أحمد مرة أخرى [2485] من طريق الفضل، والحاكم [في «المستدرك» (7558- 7559)] وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخَرّجاه، ووافقه الذهبي، ثُمَّ ذكر الحاكم شاهدًا له بإسناد صحيح ووافقه الذهبي على تصحيحه أيضًا»، وابن خزيمة في «صحيحه» [2908].

وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (9/694) ح(5498):

«حسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان وعضّده بحديث رافع بن خديج هذا»، يعني: الحديث الأول في المسألة في «الصحيحين»، ولفظ الحديث عن ابن عباس، قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَ النَّحْرُ، فَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَعِيرَ عَنْ عَشْرَةٍ»، وفي رواية للنسائي (4403) بلفظ عن رافع بن خديج قال: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ
، يَجْعَلُ فِي قَسْمِ الْغَنَائِمِ عَشْرًا مِنَ الشَّاءِ بِبَعِيرٍ»، ورافع هو راوي حديث «الصحيحين».

(*) تفصيل القول في المسألة:

(*) قال السُديّ في «شرح السنن الصغرى» (4/173):

«قوله: «عشرًا من الشاء ببعير»، فهذا يدلُّ على أنَّ البعير الواحد بمنزلة عشر من الشاء، وعشر من الشاء تجزئ في الأضحية عن عشرة، فكذا البعير الواحد، ثُمَّ حديث ابن عباس [يعني: الحديث السابق آنفًا] صريح في ذلك، قال المُطهر في «شرح المصابيح» علم بهذا الحديث إسحاق بن راهوية، وقال غيره: منسوخ.

قلت: [يعني السنديّ:] أخذوا بحديث ابن عمر: «والجزور عن سبعة»، والله أعلم». اهـ.

قلت: قولهم بالنسخ لا يستقيم ولا يؤخَذُ به، لأنَّ المتقرِّر عند الأصوليين، أنه لا يقال بالنسخ إلَّا عند تعذُّر الجمع والأصل عدم النسخ، ولا نعلم التاريخ حتى نعلم المتقدم عن المتأخر، وهذا ثابت أيضًا عند جمهور المحدثين، واليقين لا يزول بالشك، فالحديث على ظاهره كما قال السنديّ، ثُمَّ لا يُقال بالنسخ لعدم وجود شروطه.

(*) وقال الحافظ في «فتح الباري» في دفع التعارض عن الأحاديث (9/694):

«قوله: «ثُمَّ قسَّم فعدل عشرة من الغنم ببعير» هذا محمول على أنَّ هذا كان قيمة الغنم إذْ ذاك، فلعلَّ الإبل كانت قليلة أو نفيسة، والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي من أنَّ البعير يجزئ عن سبع شياه؛ لأنَّ ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدِليْن، وأمَّا هذه القسمة فكانت واقعة عين، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم، وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال: «فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ»، والبدنة تطلق على الناقة والبقرة.

(*) وأمَّا حديث ابن عباس: «…. فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَعِيرِ عَشَرَةٌ» فحسّنه الترمذي وصححه ابن حبّان، وعضَّده بحديث رافع بن خديج هذا.

[يعني: أقرَّ الحافظ تحسين الترمذي، وتصحيح ابن حبان وتعضيده بحديث رافع] والذي يتحرّر في هذا: أنَّ الأصل أنَّ البعير بسبعة ما لم يعرض عارض من نفاسة ونحوها فيتغير الحكم بحسب ذلك؛ وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك». اهـ.

أراد الحافظ أن يجزئ البعير في عشرة في حالة خاصة كما ذكر، وهذا شرط لا دليل عليه.

هذا ما ذكر الحافظ ابن حَجَرَ، أمَّا قوله: «فلعلَّ الإبل كانت قليلة أو نفيسة والغنم كانت كثيرة أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه» فهذا ظن واحتمال وليس بهذا تصرف ظواهر النصوص، لذلك قال السندي في شرحه: «ثُمَّ حديث ابن عباس صريح في ذلك، فهذا يدلُّ على أنَّ البعير الواحد بمنزلة عشرة من الشاه»، وأقول أيضًا: بالقاعدة الأصولية المتفق على صحتها: «لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة»، وقد فصَّلتُ القاعدة وذكرتُ عليها الإجماع في كتابي: «إثبات الحجة» في مقدمة الكتاب عند ذكر جملة من القواعد الأصولية في كتاب الصلاة.

ثُمَّ إنَّ الحديث ثابت كما فصَّلت آنفًا، ويُعضّده حديث «الصحيحين» عن رافع ابن خديج وهذا نص صريح يذكر أنَّ عشرة من الغنم ببعير والنص لا يحتمل التأويل.

(*) أمَّا قوله: «وأمَّا هذه القسمة فكانت واقعة عين، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل دون الغنم» فهو أيضًا ظن وتخمين في صرف ظاهر الحديث.

وكذلك الكلام على «واقعة العين» فقد فصلتُ فيها القول بنقض هذه القاعدة في كتابي «التعارض والترجيح بين قاعدتي: «إذا اجتمع الحاظر والمبيح قدم الحاظر»، و«الإعمال أولى من الإهمال»، ورجَّحت فيها قاعدة الإعمال للإجماع عليها، وبيَّنت قول الأصوليين في «واقعة العين».

ومفادها: أنَّ قضايا الأعيان لا يجوز دعوى العموم فيها، لوجود الفرق بين القول والفعل، فالقول لا يحتمل التأويل وهو أقوى من الفعل الذي يحتمل الاحتمالات، ومثاله حديث البخاري (2257) ومسلم (134/1608): «أنَّ رسول الله ﷺ  قَضَى بِالشُّفعة لِلجَار».

وحديث البخاري (1936) ومسلم (81/1111): «أَنَّه ﷺ قَضَى فِي الإِفطَار فِي رَمَضَان بِالكَفَّارَة» فلا يجوز العموم بل يُتوقف؛ لأنه يجوز أن يكون قضى بالشفعة للجار بصفة تختصَّ به، أو قضى بالكفارة بالجماع أو بغيره فيما يختص به المحكوم عليه، فلم يكن دعوى العموم.

فهذا حاصل قول الأصوليين في قضايا الأعيان، وقد بنيتُ قولي فيها على عموم سنَّة النَّبِيّ ﷺ كلها: القولية والفعلية والتقريرية، فلا يُقال فعل النَّبِيّ ﷺ يحتمل كذا وكذا؛ لأنه معصوم في قوله وفعله وتقريره، فقال: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» رواه مسلم (1297) وقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» رواه البخاري (631) ومسلم (391) وهما قضية عين، وروى مسلم في «صحيحه» (277)، باب: جواز الصلوات بوضوء واحد: أنَّ النَّبِيّ ﷺ صلى يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفّيه فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئًا لم تصنعه، فقال ﷺ: «عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ»، وهذا فعل فعمَّ فيه الدليل، وهو على قولهم قضية عين.

وثبت في «صحيح البخاري» (2731) في صلح الحديبية أنَّ فِعْلَه كان أقوى تأثيرًا من قوله، لمَّا نحر هديه وحلق فعلًا امتثلوا، ولم يمتثلوا بالقول في هذه المسألة.

فقال ابن القيم في «زاد المعاد» (3/266):

«ومنها: أنَّ الأصل مشاركة أمته في الأحكام إلَّا ما خصَّه الدليل، ولذلك قالت أم سلمة: «اخرج ولا تكلِّم أحدًا حتى تحلق رأسك وتنحر هديك»، وعلمت أنَّ النَّاس سيتابعونه». اهـ، وانظر كتابي الكبير «ما قلَّ ودلَّ في أصول الفقه للمستدل» (3/968- 975/ مسألة (185) في مسألة قضايا الأعيان مُفصَّلًا.

وعليه، خالفتُ الأصوليين في هذه المسألة، فقول ابن حجر حينئذ لا يستقيم؛ ويؤكد ذلك: ما قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (9/427- 428)/حديث 2082) بعد ذكر حديث ابن عباس فقال:

«ورجاله رجال الصحيح، ويشهد لصحته حديث «الصحيحين» من حديث رافع بن خديج أنه ﷺ قسَّم فعدل عشرًا من الغنم ببعير». اهـ. وهو نص ظاهر كقوله: ﴿ﰏ ﰐ ﰑ﴾ [البقرة: 196] فلا تأويل.

قال الشوكاني أيضًا في «نيل الأوطار» (9/441/حديث 2092) في آخر شرح الحديث:

«وقد ثبت في رواية: «أنَّ النَّبِيّ ﷺ نحرَ عن أزواجه بقرة» أخرجها النسائي [في «سننه الصغرى» (290)] وأبو داود [1780] وغيرهما [ابن ماجه (2963)،] وكذا في «صحيح مسلم» [119/121]، والظاهر أنه لم يختلف أحد من زوجاته يومئذ وهن تسع». اهـ.

قلت: وبهذا الحديث يُشْترك الحكم مع البقرة في حكم البعير، في العدد؛ لأنَّ البدنة تطلق على البعير والبقرة كما مرَّ آنفًا.

(*) فإذا كان ذلك كذلك، فقد تقرر عندي: أنَّ الراجح بالأدلة في المسألة: جواز الإجزاء ببعير عن عشرة أنفس، من غير اشتراط ما شرطه الحافظ في «الفتح»: أنه يجوز ذلك لعارض فيتغير الأصل وهو سبعة إلى عشرة، لأنَّ الأصل العمل بالظاهر وترك الاشتراط الذي قام على الاحتمال والظن، واليقين لا يزول بالشك، ولا اشتراط إلَّا ما شرطه الله ورسوله؛ لأنَّ الشرط يلزم من عدمه العدم.

هذا ما ترجّح عندي في المسألة والله تعالى أعلى وأعلم، ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [يوسف: 76]، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، وصلى الله وسلم على نبينّا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

كتبه

الدكتور الكيال

يوم الجُمعة 15/ذو الحجة/ 1440هـ – 16/8/2019م

مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock