«¢»
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ﷺ أمَّا بعد:
فمن أصول أدلة الأحكام الشرعية بعد الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس الصحيح المعتبر القائم على الثلاثة المذكورين، الأصل الخامس: «استصحاب الحال»، وقد زعم أكثر الأصوليين أنَّه من الأدلة والأصول المختلف فيها، وليس كذلك؛ فقد ذكره أبو محمد بن قدامة في «روضة الناظر» (1/446) فقال:
«الأصل الرابع: استصحاب الحال» اهـ فذكره بعد الكتاب والسنَّة الإجماع.
وكذلك ذكره نجم الدين الطوفي في «شرح مختصر الروضة لابن قدامة» (3/147) فقال:
«استصحاب الحال: هذا الأصل الرابع من الأصول المتفق عليها» اهـ.
يعني: المجمع عليه وهو من الأصول الشرعية المعتبرة كما صرح جمهور الأصوليين، وهو أقسام -كما سيظهر- مع اختلافهم في القسم الثالث منها وهو: «استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف» وهو فعلًا مختلف فيه، والجمهور على اعتباره، وهو المحقق عندهم، لا أنه مختلف فيه مطلقًا، أمَّا عدا هذا القسم فقد نقلوا الإجماع عليه.
ولما كان غالب طلبة العلم على غير دراية وإلمام بمسائل أصول الفقه، وهذا حال جُلَّهم من غير الدارسين في الكليات والمعاهد الشرعية على المناهج العلمية المتخصصة المُفصّلة؛ إلَّا من درس في كليّات «الشريعة» بشكل عام التي جُلَّ دراستها في الفقه المذهبي والفقه المقارن، وأدلة الأحكام من آيات الأحكام من القرآن، وأحاديث الأحكام المعروفة: كبلوغ المرام، والمنتقى، وعمدة الأحكام، والإمام، وأحاديث الأحكام الصغرى والوسطى، وإرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه، وأشملها الأحكام للطبري وغيرها، ثُمَّ أصول الفقه -عمود خيمة العلم بلا نزاع عند الأصوليين- بعلومه المختلفة، من أصول الفقه العام، وتخريج الفروع الفقهية على الأصول والقواعد الأصولية، وعلم المقاصد الشرعية الذي هو لُبَّ الديانة والشريعة، ولا يستطيع طالب الحديث والتفسير والعقيدة التكلم في الفتوى ودين الله إلَّا بإلمامه بعلوم أصول الفقه المتفرّعة.
ومن ثَمَّ، الاهتمام بأصول الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها إجمالًا وتفصيلًا وهذا لا ينازع فيه عند أحد من المحققين في شئون الشريعة.
فإذا كان استصحاب الحال أصلًا من أصول الشريعة المعتبرة عند علماء الأصول، فلابدَّ من الإلمام به، لمن يُحْسِنُ تصور الأمور والأشياء، كما في القاعدة الكلية الكبرى: «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره» وقد فصّلتها من قبل في سلسلة المقالات المرفوعة على الموقع.
(*) أولًا: تعريف الاستصحاب لغةً وشرعًا:
والاستصحاب لغةً من الصُّحبة، وهو يدلُّ على مقارنة شيء ومقاربته، ومن ذلك الصاحب والجمع صَحْب، ومنه الصحابة ﭫ وصحبتهم لرسول الله ﷺ، فكل ما لازم شيئًا فقد استصحبه، ومنه: «فأصْحَبَت الناقة»؛ أي: انقادت واسترسلت ونَبِعَتْ صاحبها [«لسان العرب» مادة صحب (4/2401)، و«مقاييس اللغة» (3/335)، و«النهاية» (3/11)].
(*) وأما في الشرع والاصطلاح:
فقد قال الأصوليون: هو عبارة عن إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المُغِّير، وهو الحكم الذي يثبت في الزمان الثاني؛ بناءً على الزمان الأول، وهو المعروف بالبراءة الأصلية والإباحية العقلية، وهو قاعدة: الأصل براءة الذمة من التكاليف، وهو النفي الأصلي، واستصحاب الحال لأمر وجودي أو عدميَ، عقلي كان أو شرعي.
ومعناه: أنَّ ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، حتى يوجد المزيل، فمن ادَّعاه فعليه البيان كما في الحسِّيَّات: أنَّ الشيء إذا شغل المكان يبقى شاغلًا إلى أن يوجد المزيل [قلت: يشيرون إلى القاعدة الفقهية: «المشغول لا يُشغل»] وقولهم الاستصحاب مأخوذ من المصاحبة، وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مُغيّر لهذا الحكم، فيقال: الحكم الفلاني قد كان فلم نظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء، فهو استصحاب النفي الأصلي.
قال الخوارزمي: في «الكافي» وهو آخر مدار الفتوى، فإنَّ المفتي إذا سُئل عن حادثة تطلّب حكمها في الكتاب، ثُمَّ في السنَّة، ثُمَّ في الإجماع، ثُمَّ في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاءُه، وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته.
قال القرطبي: القول بالاستصحاب لازم لكل أحد؛ لأنه أصل ينبى عليه النبوّة والشريعة، فإنَّا إن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور.
[«البحر المحيط في أصول الفقه» (6/17 وما بعدها) و«شرح مختصر الروضة» (3/147) و«شرح الكوكب المنير» (4/403- 407) و«العدة في أصول الفقه» (4/1262 وما بعدها) و«الإحكام في أصول الأحكام» (4/127 وما بعدها)].
(*) نقل الإجماع على الاستصحاب وبيان أقسامه:
قال الإمام بدر الدين الزركشي في «البحر المحيط» (6/ 20 وما بعدها):
(1) استصحاب دلَّ العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه: كالملك عند جريان القول المقتضي له، وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح، وهذا لا خلاف في وجوب العمل به، إلى أن يثبت معارض له، ومن صوره تكرر الحكم بتكرر السبب.
(2) استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية، كبراءة الذمة من التكاليف حتى يدل دليل شرعي على تغييره، كنفي صلاة سادسة، قال أبو الطيّب: وهذا حجّة بالإجماع، أي من القائلين بأنّه: لا حكم قبل الشرع: [قال تعالى: ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [الإسراء: 15] وهذه الآية زدتها من عندي للبيان].
وقال ابن كجّ في أول كتابه في «الأصول»: إنه صحيح لا يختلف أهل العلم فيه؛ لأنه قد ثبت عندنا أنَّ حجة العقل دليل، فإذا لم نجد سمعًا عَلِمْنا أنَّ الله لا يُهْمِلْنا، وأنه أراد بنا ما في العقل فصرنا إليه. انتهى.
[قال الزركشي:] وهذا معنى قوله: إنَّ العقل يدلُّ على أنَّ ما لم يتعرض الشرع له فهو باق على النفي الأصلي، فلا يدلُّ إلَّا على نفي الأحكام.
وقولنا لمن يوجب الوتر: الأصل عدم الوجوب إلَّا أن يرد السمع فاستمسك بهذا الأصل حتى يرد دليل شرعي للوجوب، ولم يثبت.
(3) استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإنَّ عندهم أنَّ العقل حكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعيّ؛ وهذا لا خلاف بين أهل السنَّة في أنه لا يجوز العمل به، لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات.
[قلت: قال ابن السمعاني في «القواطع» (1/23): «هذا حدُّ المعتزلة، وكل ما ينفردون به فهو ضلال»اهـ.].
(4) استصحاب الدليل مع احتمال المعارض: إمَّا تخصيصًا إن كان الدليل ظاهرًا، أو نسخًا إن كان الدليل نصًا، فهذا أمره معمول به بالإجماع.
(5) استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف، وهو راجع إلى حكم الشرع، بأن يتفق على حكم في حالة ثُمَّ تتغير صفة المجمع عليه ويختلف المجمعون فيه، فيستدل من لم يغيّر الحكم باستصحاب الحال.
(*) مثاله: إذا استدل من يقول: إنَّ المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته، لأنَّ الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدلُّ دليل على أنَّ رؤية الماء مبطلة، وهو محل الخلاف.
[قلت: وزاد أبو يعلى في «العدّة» (4/1262 وما بعدها):
«وذهب داود وأصحابه والصيرفي من أصحاب الشافعي إلى أنه يجب استصحابه كما يجب استصحاب براءة الذمم، وهو اختيار أبي إسحاق من أصحابنا، فقال: «أجمعوا على طهارة الماء إذا لم يشرب منه مالا يؤكل لحمه، واختلفوا إذا شرب، فالإجماع حجة، والاختلاف رأي، والحجة أولى».
فقد استحب أبو إسحاق بن شاقُلا حكم الإجماع.
ومثاله أن يقول: المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل؛ لأنَّا أجمعنا على صحتها، فمن ادَّعى بطلانها فعليه الدليل.
وأنَّ مِلْكَ المُسْلِم ثابت بالإِجماع، وإذا ارتد اختلفوا في زواله، فمن ادَّعى زواله فعليه الدليل.
وإذا اصطاد الحلال، ثُمَّ أحرم لم يَزُلْ ملكُه، لأنا قد أجمعنا على ثبوت ملكه قبل إحرامه، فمن ادّعى زوالَه فعليه الدليل.
ودليلنا على ذلك: أنَّ الإِجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي تناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص متى تناول موضعًا لم يجز حمله على غيره، والاستدلال بالإجماع لا يصح بعد زواله، وإِنَّما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأنَّ الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به» انتهى كلام القاضي].
[ثُمَّ قال الزركشي في «البحر»]: وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف وإنه قول الشافعي وجمهور العلماء؛ لأنَّ محل الوفاق غير محل الخلاف فلا يتناوله بوجهٍ، وإِنَّما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا يوجد صفة تغيّره، ولأنَّ الدليل إن كان هو الإجماع فهو محال في محل الخلاف، وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب، فوجب طلب دليل آخر.
والقول باستصحاب الإجماع في محل الخلاف يؤدّي إلى التكافؤ؛ لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع إلَّا ولخصمه أن يستصحبه في مقابله.
وبيانُه: أن في مسألة التيمم: أنَّ للخصم أن يقول: أجمعنا على بطلان التيمم برؤية الماء خارج الصلاة، فنستصحبه برؤيته فيه، وتغيّر الأحوال لا عبرة به.
وعن الأستاذ أبي إسحاق: أنه استدل على النكاح بلا ولي، بأنَّ الأصل في الأبضاع التحريم [وهي قاعدة كلية]، فمن ادّعى ما يبيح فعليه الدليل» اهـ.
قلت: ونقل كذلك الإجماع القاضي أبو يعلى فقال في «العدّة» (4/1262):
استصحاب براءة الذمة من الوجوب حتى يدلُّ دليل شرعي عليه، وهذا صحيح بالإجماع من أهل العلم والاحتجاج به سائغ.
وذكره أصحاب أبي حنيفة وسمّاه أبو يوسف: عدم الدليل دليل»اهـ.
(*) الاستدلال على الاستصحاب من القرآن والسنَّة:
قال الشنقيطي في «مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر» (ص286- 287):
«اعلم أنَّ الاستصحاب ثلاثة أقسام اثنان مقبولان عند الجمهور، وواحد مردود عندهم، أمَّا المقبولان:
1- استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه؛ لأنَّ العقل يدلُّ على براءة الذمة حتى يقوم الدليل، كعدم وجوب صيام صفر -مثلًا- لأنَّ الأصل براءة الذمة منه، فيستصحب الحال في ذلك.
وهذا النوع هو الذي ينصرف إليه اسم الاستصحاب وهو المعروف بالبراءة الأصلية والإباحة العقلية.
وهذا النوع قد دلَّ القرآن على اعتباره في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [البقرة: 274]، وقوله: ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [التوبة: 115].
ووجه الدلالة في الآية الأولى: أنه لما نزل تحريم الربا خافوا من الأموال المكتسبة من الربا قبل التحريم، فبينت الآية أنَّ ما اكتسبوا من الربا قبل التحريم فهو على البراءة الأصلية حلال لهم ولا حرج عليهم فيه.
ووجه الدلالة الآية الثانية: أنَّ النَّبِيّ ﷺ لما استغفر لعمّه أبي طالب واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين، وأنزل الله: ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [التوبة: 113] ندموا على استغفارهم للمشركين، فبيّنت الآية أنَّ استغفارهم لهم قبل التحريم على البراءة الأصلية لا إثم عليهم فيه ولا حرج حتى يُبيّن لهم الله ما يتقونه كالاستغفار لهم مثلًا.
2- استصحاب دليل الشرع كاستصحاب النص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المخصص، ودوام الملك حتى يثبت انتقاله، ودوام شغل الذمة الثابت حتى تثبت براءتها ونحو ذلك.
3- وهو المردود عند الجمهور: «هو استصحاب حال
الإجماع في محل النزاع»اهـ.
(*) أمَّا الدليل على الاستصحاب من السنَّة:
فهو ما قاله ابن القيم في «إعلام الموقعين» (1/260 وما بعدها) قال:
«استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه وهو حجّة، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث، واستصحاب بقاء حكم النكاح وبقاء الملك، وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك، وقد دلَّ الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد ﷺ: «فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ» [رواه البخاري (5484) ومسلم (7/1929)]، وقوله ﷺ: «وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ؛ فإنَّك إِنَّما سمَّيت على كلبك ولم تُسمّ على غيره» [رواه البخاري (5486) ومسلم (3/1929)].
فلمَّا كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أو لا؟ بقي الصيد على أصله في التحريم، ولما كان الماء طاهرًا، فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته، لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث، بل قال ﷺ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» [البخاري (137) ومسلم (361)] ولمَّا كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته، أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك.
ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأَمة السوداء: إنها أرضعت الزوجين [وهو حديث البخاري (5104) كما فرَّق ﷺ بين الزوجين بقول الأَمة]، فإنَّ أصل الأبضاع على التحريم، وإِنَّما أُبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهرُ، ظاهر مثله أو أقوى منه، وهو الشهادة، فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له، فهذا الذي حكم به النَّبِيّ ﷺ وهو عين الصواب ومحض القياس وبالله التوفيق»اهـ.
(*) قلت: وللاستصحاب علاقة وطيدة بالقاعدة الكلية الفقهية المتفق عليها «اليقين لا يزول بالشك».
ودليلها كما قال الفقهاء في كتب «القواعد الفقهية» وهي كتب «الأشباه والنظائر» للسيوطي والزركشي وابن نُجيْم وغيرهم، وكما ذكر ابن القيم أدلتها في هذا النقل السابق، فالاستصحاب مندرج تحت قاعدة: «اليقين لا يزول بالشك»، ودليل الاستصحاب من السنَّة كدليل هذه القاعدة، وقد فرع السيوطي في «الأشباه والنظائر» (1/151- 193) قاعدة: نصها:
«ما ثبت بزمان يُحكم ببقائه، ما لم يوجد دليل على خلافه» وهي معنى الاستصحاب، وذكر كذلك مع القاعدة الكبرى «اليقين لا يزول بالشك» حديث مسلم (571، 572): «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ» رواه البخاري (401) أيضًا مرفوعًا إلى رسول الله ﷺ.
ومن القواعد الفقهية قاعدة متفرعة على
الاستصحاب ونصها: «القديم يُتْرك على قِدَمِه ولا يغَيَّر إلَّا بحجة»
وذلك لأنَّ القاعدة الكلية في الاستصحاب نصّها «الأصل بقاء ما كان على ما كان»
ومعنى الاستصحاب شرعًا واصطلاحًا هو كذلك كما ذكرت في أول المقالة.
(*) اعتبار ابن القيم استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع والتمثيل له:
قد فصلت الكلام في هذا آنفًا وبيَّنته، وهنا قال ابن القيم في «زاد المعاد» (5/506):
«لا نزاع أنَّ الحامل قد ترى الدم على عادتها، لاسيما في أول حملها، وإِنَّما النزاع في حكم الدم لا في وجوده، وقد كان حيضًا قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحبُ حكمه حتى يأتي ما يرفعه بيقين، والحكم إذا ثبت في محل، فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه، فالأول استصحاب لحكم الإجماع في محل النزاع، والثاني استصحاب للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرق بينهما ظاهر» اهـ.
قلت: وهي مسألة دقيقة، وقد رجحت أنَّ الحامل لو رأت الدم بأوصافه ووقته فهو حيض، وذلك في كتابي «القواعد والضوابط الفقهية لدماء المرأة الطبيعية» وهو مرفوع على الموقع وهو قول عائشة ڤ وبعض التابعين.
(*) الأمثلة المتفرعة على قاعدة الاستصحاب:
قال السُّيوطي في «الأشباه والنظائر» (1/151- 155) في قاعدة: «اليقين لا يزول بالشك»:
«اعلم أنَّ هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المُخَرَّجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر، ولو سردتها هنا لطال الشرح ولكني أسوق منها جملة صالحة فأقول: يندرج في هذه القاعدة عدة قواعد:
منها: قولهم: «الأصل بقاء ما كان على ما كان» فمن أمثلة ذلك:
1- من تيقن الطهارة، وشك في الحدث فهو متطهر، أو تيقن في الحدث وشك في الطهارة فهو محدث.
2- ومن ذلك مسألة: من تيقن الطهارة أو الحدث وشك في السابق، والأصح: أنه يؤمر بالتذكر فيما قبلها، فإن كان محدثًا فهو الآن متطهر، لأنه تيقن الطهارة بعد ذلك الحدث وشك في انتقاضها؛ لأنه لا يدري: هل الحدث قبلها أو بعدها؟
وإن كان متطهرًا فإن كان يعتاد التجديد [للوضوء]، فهو محدث لأنه تيقن حدثًا بعد تلك الطهارة وشك في زواله؛ لأنه لا يدري: هل الطهارة الثانية متأخرة عنه أم لا؟ بأن يكون والى بين الطهارتين.
3- ونظير ذلك: ما لو علمنا لزيد على عمرو ألفًا، فأقام عمروٌ بيّنة بالأداء أو الإبراء، فأقام زيد بيّنة: أن عمرًا أقرَّ له بألف مطلقًا، لم يثبتْ بهذه البينة شيء؛ لاحتمال أنَّ الألف الذي أقرَّ به هو الألف الذي علمنا وجوبه وقامت بإبرائه فلا نشغل ذمته بالاحتمال.
4- أحرم بالعمرة ثُمَّ الحج وشك: هل كان أحرم بالحج قبل طوافها فيكون صحيحًا أو بعده فيكون باطلًا؟ حُكِمَ بصحته.
قال الماوردي: لأنَّ الأصل جواز الإحرام بالحج حتى يتيقن أنه كان بعده، وهو كمن تزوج وأحرم ولم يدْر: هل أحرم قبل تزويجه أو بعده؟ فإنَّ الشافعي نص على صحة نكاحه؛ لأنَّ الأصل عدم الإحرام، ونص فيمن وكَّلَ في النكاح ثُمَّ لم يَدْر: أكان وَقَع عقد النكاح بعد ما أحرم أو قبله؟: أنه صحيح أيضًا.
5- أكل آخر الليل وشك في طلوع الفجر صح صومه؛ لأنَّ الأصل بقاء الليل، وكذا في الوقوف بعرفة.
6- أكل آخر النهار بلا اجتهاد وشك في الغروب بطل صومه؛ لأنَّ الأصل بقاء النهار.
7- نوى ثُمَّ شك هل طلع الفجر أم لا؟ صح صومه بلا خلاف.
8- تعاشر الزوجان مدة مديدة ثُمَّ ادَّعت عدم الكسوة والنفقة؛ فالقول قولها؛ لأنَّ الأصل بقاؤهما في ذمته وعدم أدائهما.
9- زوج الأب ابنته معتقدًا بكارتها، فشهد أربع نسوة بثيوبتها عند العقد: لم يبطل؛ لجواز إزالتها بإصْبع أو ظُفْره والأصل البكارة.
10- اختلف الزوجان في التمكين فقالت: سلَّمت نفسي إليك من وقت كذا، وانكر، فالقول قوله؛ لأنَّ الأصل عدم التمكين.
11- ولدت وطلقها، فقال: طُلّقت بعد الولادة فليّ الرجعة، وقالت: قبلها فلا رجعة، ولم يُعَيّنَا وقتًا للولادة ولا للطلاق، فالقول قوله؛ لأنَّ الأصل بقاء سلطنة النكاح، فإن اتفقا على يوم الولادة كيوم الجمعة، وقال: طُلقت يوم السبت، وقالت يوم الخميس، فالقول قوله؛ لأنَّ الأصل بقاء النكاح يوم الخميس، وعدم الطلاق أو على وقت الطلاق، واختلفا في وقت الولادة، فالقول قولها؛ لأنَّ الأصل عدم الولادة إذْ ذاك.
12- أسْلَمَ إليه في لحم، فجاء به فقال المُسْلِمُ: هذا لحم ميتة، أو مذكَّى مجوسي، وأنكر المُسْلَم إليه، فالقول قول المُسِلم القابض، لأنَّ الشاة في حال حياتها محرّمة فيتمسك بأصل التحريم إلى أن يتحقق زواله.
13- اشترى ماءً، وادَّعى نجاسته؛ ليردّه: فالقول قول البائع؛ لأنَّ الأصل طهارة الماء.
14- ادَّعت الرجعية امتداد الطهر وعدم انقضاء العدة: صدقت؛ لأنَّ الأصل بقاؤها» اهـ.
وقال النووي في «شرح مسلم» (4/39) عند حديث (361) باب الدليل على أنَّ من يتقن ثُمَّ شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك:
«ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب أو الطعام أو غيره، أو أنه صلى ثلاث ركعات أو أربعًا، أو أنه ركع وسجد أم لا؟ أو أنه نوى الصوم أو الصلاة أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات وما أشبه هذه الأمثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم هذا الحادث»اهـ.
(*) فائدة مهمة: في العذر بالجهل بعد النبوّة والرسالة بالاستصحاب:
لما ذكرت أدلة الاستصحاب من الكتاب والسنَّة والإجماع، ذكرت قوله تعالى: ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [التوبة: 115]، وقوله تعالى: ﴿ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﴾ [الإسراء: 15] وكذلك من جملة زيادة الأدلة قوله تعالى: ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ [النساء: 165]، ومثلها قوله تعالى: ﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [القصص: 47] وقوله: ﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [طه: 134].
فهذه الآي وأمثالها دليل على العُذْر بالجهل بعد بَعثة رسول الله ﷺ، ووجه الدلالة: أنه لا يكون الإثم ولا الموآخذة حتى يعلم المكلَّف الحرمة، ولو كان ذلك بعد البعثة، قياسًا على قبل البعثة لعلة جامعة بين الأصل الذي هو قبل البعثة وعدم وجود الرسول المنذر، وبين الفرع الذي هو بعد البعثة، وهي علَّة الجهل وعدم العلم؛ لأنَّ الحالتين تعلقت بهما العلة التي هي مناط الحكم وهي الجهل ومن ثَمَّ: فلا يُقال: لا عذر للجاهل بعد بعثة الرسول وبيان الحجج والأدلة والبراهين، لأنَّ الذي لا يعلم، بمثابة من لم يُبعث إليه الرسول، لأنه مستصحب للجهل وعدم العلم والبيان، فيعمَّم على كل من لم يعرف الحكم الشرعي إلى يوم القيامة.
ودليل ذلك قاعدة الاستصحاب وهي: «الأصل بقاء ما كان على ما كان لانعدام المُغيّر» وقاعدة الاستصحاب أيضًا: «الأصل براءة الذمة من التكاليف» لقوله تعالى كما في الآيات المذكورة: ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [التوبة: 115]؛ أي: ما يتقونه من الحرام فلا يفعلونه، ومن الأوامر فيفعلونها بالامتثال، وقوله: ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [الإسراء: 15] وحتى مجمع عليها أنها للغاية، وهي هنا وصول العلم للمكلفين، وقبل وصوله فهم كأهل الفترة، من كانوا في زمن لا نبيّ فيه؛ لذلك سمّي الاستصحاب: «النفي الأصلي» وهو مراد قولهم: الأصل براءة الذمة من التكاليف، وهذه الفائدة أهم ما يستفاد به في الأصل الشرعي: العذر بالجهل، لعمومه وإطلاقه على كل المكلّفين، فيكون حال من لم يصله العلم أنه مستصحب لحالة الجهل وعدم العلم حتى يعلّمه الله من علمه سبحانه ولا إثم عليه وبالله وحده التوفيق والسداد، والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه
الدكتور عيد بن أبي السعود الكيال