ر7610 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات منهجية
۞ تاريخ الرفع : 13-06-2016 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
وإن تتوَلَّوْا يَستبدِل قومًا غيركم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلا الله وَحْدَهُ لا شريك له، وأنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُه ﷺ ، أمّا بعد:
فلقد خَلَقَنا رَبُّ العِزَّةِ -جَلَّ وعَلا- لعبادته؛ وسَـخَّـرَ لـنـا مـا في السماوات ومـا في الأرض جميعًا منه لتحقيق هـٰذه الغاية0
وإنَّما يَجِدُ القارئُ لكتاب الله -قراءةَ تَدَبُّـرٍ وتَـفَـهُّمٍ- هـٰذا المعنىٰ جَلِـيًّا في أكثر مِن موضِعٍ منه، فـيَجِدُ ذٰلك في سورة الجاثية، حيث قال تعالىٰ: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡبَحۡرَ لِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ فِيهِ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ 21 وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:12-13]، ثم قال بعد ذٰلك بآية: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ﴾ [الجاثية:15]، ثم قال بعدها بآيتين: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ 81 إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ـ‍ٔاۚ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية:18-19]، فأتبعها بقوله: ﴿هَٰذَا بَصٓـٰئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ 02 أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّ‍ـ‍ٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ [الجاثية:20-21]، ثم خَتَمَ هـٰذا السِّياق بقوله: ﴿وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [الجاثية:22]0

قال العلَّامةُ عبدُ الرحمٰن بن ناصرٍ السعديُّ في تفسيره (ص777) :
(( خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحِكْمَة، ولِـيُـعْـبَدَ وحده لا شريكَ له، ثم يُجازِي بعد ذٰلك مَن أَمَـرَهُم بعـبادته وأَنْعَمَ عليهم بالنِّـعَمِ الظاهرةِ والباطِـنة، هـل شَـكَروا الله تعالىٰ وقـامـوا بالمأمـور؟ أمْ كـفروا فاسْـتَحَـقُّوا جَـزاءَ الكَـفُور؟ )) اهـ0

قلتُ: ويدخُلُ في ذٰلك العِصيانُ والابتداعُ؛ فـيُـقال:
أمْ عَـصَوْا وابـتدَعوا فاسـتحَـقوا جَـزاءَ الانحرافِ والتقصير؟
ويؤكِّدُ ذٰلك الطبريُّ في تفسيره (26/ 154)، قال: (( يقول تعالىٰ ذِكْرُهُ: ولِـيُـثيبَ اللهُ كُلَّ عامِـلٍ بما عَمِلَ، الْمُحسِنُ بالإحسان، والْمُسِيءُ بما هو أهلُه )) اهـ0
وقال تعالىٰ: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]0

قال الأصُوليون: هـٰذه الآية مِن العُموم المخصوص، لأنَّ مِن الجن والإنس الكافر الذي لم يعبد الله، وهـٰذا إجماعٌ قَطْعِيٌّ0 ومنهم المسلمُ العاصي والمُبتدِعُ0
قال القُرطبيُّ في الجامع لأحكام القرآن (17/ 42) : (( قيل: إنَّ هـٰذا خاصٌّ فيمن سَبَقَ في عِلْمِ الله أنه يعبده فجاء بلفظ العُموم ومعناه الخُصوص، والمعنىٰ: وما خَلَقْتُ أهلَ السعادةِ مِنَ الجن والإنس إلا لِـيُـوَحِّدُون0 قال القُـشيريُّ: والآية دَخَلَها التخصيصُ علَى الْقَطْعِ؛ لأنَّ المجانين والصبيان ما أُمِـرُوا بالعبادة حتىٰ يُقالَ أرادَ منهم العبادةَ، وقد قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ﴾ [الأعراف:179]، ومَن خُلِقَ لِجَهنمَ لا يكون ممن خُلِقَ للعبادة، فالآيةُ محمولةٌ علَى المؤمنينَ منهم0 وهو كقوله تعالىٰ: ﴿قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّا﴾ [الحجرات:14]، وإنَّما قال فريقٌ منهم، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ والكلبيُّ والْفَـرَّاءُ والْقُـتَبِيُّ 0

قال عليٌّ ﭬ: أيْ: وماخَلَقْتُ الجن والإنس إلا لِآمُـرَهُم بالعبادة0 وعن مجاهدٍ: إلا لِآمُـرَهُم وأنهاهم0 وعن الكلبيِّ: إلا لِـيُـوَحِّـدُون، فأمَّا المؤمنُ فـيُوَحِّدُهُ في الشِّدة والرخاء، وأمَّا الكافِرُ فـيُوَحِّدُهُ في الشدة والبلاء دون النِّعمة والرخاء، يدلُّ عليه قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾ الآية [لقمان:32]، وقال عِكْرِمَةُ: إلا ليعبدون ويطيعون، فأُثيب العابدَ، وأُعاقب الجاحدَ، وقيل المعنىٰ: إلا لِأَسْـتَعْبِدَهُم، والمعنىٰ متقاربٌ؛ تقول: عبدٌ بَـيِّنُ العُبودة والعُبودية، وأصلُ العبودية: الخضوعُ والذل، والتعَـبُّدُ: التذليل، والتعبيدُ: الاستعباد، وهو أنْ يتخِذَ عبدًا، وكذٰلك الاعـتباد، والعبادة: الطاعة، والتَّعَـبُّد: التَّـنَـسُّك، فمعنىٰ «لِـيعـبدون» لِـيذلوا ويخضعوا ويعبدوا )) اهـ0

فكُلُّ مَن قَصَّرَ في القيام بتحقيق العبودية بترك الأوامر أو ارتكاب بعض النواهي، أو هُما معًا، فقدْ خالَفَ مُرادَ الله فيه وكان مِنَ العُصاةِ الفاسقينَ، وهـٰذا يُؤَثِّر في توحيدِه؛ لأنَّ معنىٰ لا إلـٰه إلا الله: أنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، والعبادةُ التي هي التوحيدُ هي: فِعْلُ الأمر واجتنابُ النهي، فـبِكُلِّ معصيةٍ ينقص توحيدُ العاصي؛ لأنَّ الله قال له افعلْ، فلمْ يفعلْ، وقال له لا تفعلْ، ففعَلَ٠
ومِنْ هُنا قال تعالىٰ: ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيۡهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان:٤٣]، وقال: ﴿أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَ﴾ ؟! [يس:٦٠]، وروَى البخاريُّ في صحيحه (٢٨٨٧) مِن حديث أبي هُريرة ﭬ عن النبي ﷺ قال: (( تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ وعبدُ الدِّرْهَمِ وعبدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعطِيَ رَضِيَ، وإِن لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْـتَكَسَ )) الحديث٠
فَـسَمَّى اللهُ ورسولُهُ ﷺ طاعةَ غير الله عِبادةً؛ لأنها تُخالِفُ اللهَ ورسولَه، والعبادة طاعة الله ورسولهِ، قال تعالىٰ: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ﴾ [النساء:٨٠

وقال تعالىٰ مُـقَـرِّرًا أنَّ التوحيدَ دِينُ الأنبياء والمرسلين:
﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥
وقال: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ الآية [النحل:٣٦
وإنْ كانت المعصيةُ قَدْحًا في التوحيد، فالبدعةُ أعظم قدحًا وأشد فَـتْكًا بتوحيد الأُمَّـة؛ لأنها تشريعٌ مِن دون الله في صورة التشريع؛ فيحدث بها اللَّبْسُ في الدِّين٠

قال الشاطبيُّ في الاعتصام (١/ ٤١-٤٢) : (( وأصلُ مادَّةِ (بَدَعَ) للاختراع علىٰ غير مثالٍ سابقٍ، ومنه قوله تعالىٰ: ﴿بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [البقرة:١١٧]، أيْ: مخترعها علىٰ غير مثالٍ سابقٍ متقدمٍ، وقوله تعالىٰ: ﴿قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:٩]، أيْ: ما كنتُ أَوَّلَ مَن جاء بالرسالة مِن عند الله إلَى العِباد، بل تقَدَّمَني كثيرٌ مِنَ الرُّسُل٠
ويُقال: ابتدَعَ فلانٌ بدعةً، يعني: ابتدَأَ طريقةً لم يسبقه إليها سابق، ومن هـٰذا المعنىٰ سُمِّيَتِ البدعةُ بدعة، فاستخراجُها للسلوك عليها هو الابتداع، وهَـيْـئَـتُها هي البدعة، وقد يُسمَّى العملُ المعمولُ علىٰ ذٰلك الوجه بدعة، فمِن هَـٰذا المعنىٰ سُمِّيَ العملُ الذي لا دليلَ عليه في الشَّرْعِ بدعة٠
فالبدعةُ إذَنْ عبارةٌ عن: طريقةٍ في الدِّين مُخْـتَرعَةٍ تُضاهي الشرعيةَ، يُـقْـصَدُ بالسلوك عليها ما يُـقْـصَدُ بالطريقة الشرعية٠ أيْ: طريقة ابْـتُدِعَتْ علىٰ غير مـثالٍ تقَدَّمَها مِنَ الشارِع، إذ البدعةُ إنَّما خاصَّتُها أنها خارجةٌ عمَّا رَسَمَهُ الشارع )) اهـ٠

قلتُ: وعلىٰ ضوء هـٰذه المعانِي فالبدعةُ مِعْوَلٌ مرفوعٌ علىٰ شرائع الإسلام وعُـرَى الدِّين يهدمها شَـعِـيرةً شَـعِـيرةً، وعُـرْوَةً عُـرْوَةً؛ وقد ذَكَرْتُ في المَقالَةِ السابقة «تمييعٌ حتى النُّخاع» ما يكفي لبـيان عِظَمِ البدعة وفسادِها علَى الدِّين٠

* التكلم في أهل الأهواء وبيان حالهم بالاسم والرسم مِنْ أَجَلِّ العبادات، وبه يُعْرَفُ السُّـنِّيُّ مِنَ التَّمْـيِـيعِيِّ، وهو واجبٌ بالكتاب والسُّـنة والإجماع :
قال الإمامُ أبو محمدٍ الحَسَنُ بْنُ علِيِّ بْنِ خَلَفٍ البربهاري إمامُ أهلِ السُّنة والجماعة في زمانهِ (ت:٣٢٩هـ) صاحب الكتاب البديع «شرح السُّـنة» فيما ذَكَرَهُ القاضي أبو يَعْلَىٰ في طبقات الحنابلة (٣/ ٧٧) ترجمة (٥٨٨) : (( مَـثَـلُ أصحاب البدع مَـثَـلُ العقارب يدفنون رؤوسَهم وأبدانَهم في التراب، ويُخرِجون أذنابَهم، فإذا تمَكَّنوا لَدَغُوا، وكذٰلك أهلُ البدع، هُم مُخْـتَـفُونَ بين الناس، فإذا تَمَكَّنوا بلغوا ما يُريدون، والناس في خداعٍ متصل )) اهـ٠

وعليه: فمَن لم يتكلم في أهل البدع والأهواء الخبثاء الْمَكَرَةِ الْمُخادِعِينَ فهو ممن يساعد في هلاك المسلمينَ، وحالُهُ حال أحَدِ رَجُلَيْنِ: الأول: حال رَجُلٍ جبانٍ خَوَّافٍ مُمَـيِّعٍ بَطَّالٍ مُعِينٍ علىٰ هَدْمِ الدِّين، يخشَى الناسَ ولا يخشَى اللهَ، واللهُ أَحَـقُّ أن يخشاهُ، آثَـرَ وفَضَّلَ الذي هو أدْنَىٰ علَى الأعلىٰ٠ والثانِي: رَجُل مبتدع مُـتَخَـفٍّ -وإنْ أَظْهَرَ أنه مِن أهل السُّـنة- لأنَّ فِعْلَهُ يُخالِفُ قولَه٠

قال شيخُ الإسلامِ ابْنُ تيمية في مجموع الفتاوىٰ (٢٨/ ٢٣١) :
(( مثل أئمة البدع مِن أهل المقالات المخالِفة للكـتاب والسُّـنة، أو العِـبادات المخالِفة للكـتاب والسُّـنة، فإنَّ بيانَ حالِهم وتحذيرَ الأُمَّـةِ منهم واجبٌ باتفاق المسلمين )) اهـ٠

وقال مثله النوويُّ في شرحه لصحيح مسلم (١/ ١٠٧)، قال:
(( بل واجبٌ بالاتفاق؛ للضرورة الداعية لصيانة الشريعة الْمُـكَـرَّمَة، وليس مِنَ الغِـيـبة الْمُحَرَّمَة، بل مِنَ النصيحة لله تعالىٰ ورسولهِ ﷺ والمسلمينَ، ولمْ يَـزَلِ فُـضَلاءُ الأُمَّـةِ وأخيارُهم وأهلُ الْوَرَعِ منهم يفعلون ذٰلك )) اهـ٠

وقال القرطبيُّ أبو العباس في الْمُفْهِم لِمَا أُشْكِلَ مِن تلخيص كتاب مُسْلِم (٦/٦٤) :
(( وهـٰذه أمورٌ ضروريةٌ في الدِّين، معمولٌ بها، مُجْمَعٌ مِنَ السَّلَفِ الصالح عليها )) اهـ٠
يقصد التكلمَ في أهل البدع٠

وروَى البخاريُّ في صحيحه (٤٥٤٧) ومسلم (٢٦٦٥) عن عائشة ڤ قالت:
تلا رسولُ الله ﷺ : ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران:٧]، قالت: قال رسولُ الله ﷺ : (( إذا رأيتم الذين يتَّبِعون ما تشابهَ منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فاحذروهم ))٠

قال ابْنُ حَجَرٍ في فتح الباري (٨/ ٢٣٩) عند شرح الحديث: (( المراد: التحذير من الإصغاء إلى الذينَ يتَّبعون الْمُـتشابه مِنَ القرآن )) اهـ٠
وقال النوويُّ في شرحه لصحيح مسلم (١٦/ ١٦٥) : (( وفِي هـٰذا الحديث: التحذير مِن مُخالَطة أهل الزيغ وأهل البدع ومَن تتبَّعَ المُشْكِلات للفتنة )) اهـ٠

قلتُ: فقوله ﷺ : «فاحذروهم» أمر، والأمر للوجوب، قال تعالىٰ: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣]، ولكي يحدث الامـتـثال لهـٰذا الأمـر؛ ينبغي معرفة هـٰؤلاء وتعريفهم للناس وبيان حالهم بالاسم والرسم؛ لأنه لا يتم الحذر منهم إلا بالتحذير منهم ببيان فسادهم وانحرافهم؛ لأنَّ القاعدةَ الأصوليةَ الْمُجْمَعَ عليها: «ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ إذا لمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ ورسولُه»٠
وإنَّما أَضَفْتُ في بعض مُصَنَّفاتِي هـٰذا القيد علَى القاعدة، وهو «إذا لمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ ورسولُه»؛ لأنَّ أهل الأهواء أخَذُوا هـٰذه القاعدةَ ذَرِيعَةً احتجُّوا بها لِجَوازِ الأحزاب والدِّيمُـقراطية والانتخابات ودخول البرلمان؛ لأنه لا يتم تطبيق الشريعة -علىٰ زَعْمِهم- إلاَّ بذٰلك، وهـٰذا ضلالٌ مبينٌ بَـيَّـنْـتُهُ تفصيلاً في كتابي «الأحزاب بين مصلحة الوطن وغياب اليقين بالله»، فهل يجعل العزيز الحكيمُ مصلحةَ الأُمَّـةِ في عَيْنِ ما حَرَّمَ عليهم، والنَّهْيُ يقْـتَضِي الفساد ؟

كذٰلك روىٰ مسلم في مقدمة صحيحه (٦، ٧) حديثَيْنِ عن أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ قال: (( سيكون في آخِر أُمَّـتِي أُناسٌ يُحَدِّثونكم ما لمْ تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم ))٠
والحديث الثانِي قال فيه ﷺ : (( يكون في آخِر الزمان دَجَّالُون كذَّابون يأْتُونكم مِنَ الأحاديث بِما لَمْ تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم، لا يُضِلُّونكم ولا يفتِنُونكم ))٠

وبَـوَّبَ الإمامُ ابْنُ بـطَّـةَ الْعُكْبَرِيُّ في كتابه «الإبانة الكبرىٰ» (١/ ٢٩١) بابًا، وهو: «التحذير مِن صُحبة قومٍ يُمْرِضُون القلوبَ ويُفسِدُون الإيمان»، ثم روىٰ بِسَنَدِهِ عن ابْنِ عون (٣٥٨، ٥٥٠)، قال: (( عن محمد بْنِ سِـيرِين في هـٰذه الآية: ﴿وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ﴾ [الأنعام:٦٨]، قال: «كُـنَّا نَعُدُّهُم أصحابَ الأهواء»٠
وفي الرواية الثانية: «كان محمدٌ يرىٰ أنَّ هـٰذه الآيةَ أُنزِلَتْ فيهم» ))٠

وكذٰلك ذَكَرَ الآيةَ الإمامُ البغَوِيُّ في شرح السُّـنة (١/ ١٨٩) تحت باب «مُجانبة أهل الأهواء»٠
واسـتدلَّ بِها الإمامُ أبو عُـثمانَ الصـابونِيُّ فـي كـتابه «عـقـيدة السـلف أصـحاب الحـديث» (ص: ٢٩٨-٢٩٩، ٣١٥-٣١٦) وهو ينقل الإجماع علىٰ ذٰلك٠
وللمزيد: انظر كـتابي «التحذير والتبيين بوجوب الرد على المخالفين»٠

* فإذا كان ذٰلك كذٰلك، وتَـقَـرَّرَ عندك ما مَضَىٰ، فاعلم أنه قد قَصَّرَ في التكلم في أهل الأهواء في بلدنا جُلُّ المشايخ والدعاة إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ، وقليلٌ ما هُم، وأنا أعلمُ منهم الكثيرَ لمْ يُسْمَعْ لِأَحَدٍ منهم أنه تكَلَّمَ علىٰ أهل الأهواء بالتعيين بالاسم والبيان والتوضيح لِبِدَعِهم تفصيلاً في مَقْطَعٍ صوتِيٍّ خاص، أو في خُطْبة جُمعة، أو في درسٍ خاص -لا أقول سلسلة دروس- أو في مُصَنَّفٍ يُـفْـصِّلُ فيه القولَ، حتىٰ يبرأ إلَى الله مِنَ التبعة والمسئولية العظيمة، بل بعضُهم يُراوِغُ ويُخادِع فـيَذْكُر ذٰلك في سِياقِ درسٍ لا يُوحِي عنوانُ الدرس بذٰلك، مما يُعْلَمُ منه يقينًا أنه ما تكلَّمَ؛ لأنه لن يسمعَهُ أحدٌ، هـٰذا إنْ رُفِعَ الدرسُ ابتداءً علىٰ موقعه، أو درسٍ لا يحضُرُهُ إلا المُقربون منه، الْمُمَـيِّعون مثل شيخهم، فيكتمون عليه ذٰلك -هـٰذا إنْ ذَكَرَ- ومثل هـٰذا كثيرٌ، وهُم يُشارُ إليهم بالبَنان أنهم من أهل السُّـنة والجماعة، بل منهم مَن يُخالِطُ أهلَ الأهواء في مساجدهم بِـعِلَّةِ الدعوة ونَشْرِ منهجِ أهل السُّـنة، وهو كذَّابٌ مُخادِعٌ؛ إذْ أنه إذا كان في مساجدهم فلَنْ يتكلمَ بما يُخالِفُ منهجَهم، ولو تكلم لَمَنعوه، ولو لمْ يمنعوه -جَدَلاً، والمسجدُ مسجدُهم- فسيَهدِمون ما قالَهُ مِنَ الحقِّ إنْ قَوِيَ علىٰ قولهِ، وليس وراءَ وجودِه في مساجدهم -إنْ كان الناسُ يزعمون أنه مِن أهل السُّـنة- ليس ثَمَّ إلاَّ تلبيس الدِّيانة علَى المسلمين، وتخليط الْمِلَّة علىٰ طلبة العلم، وصَبْغ مساجدِ المبتدعة بالصِّـبْغَةِ السُّــنِّـيَّـةِ الزائفة وتكثير سوادِ المبتدعة، وكُلُّهُ خواءٌ وضَعْفٌ وخَوَرٌ وتمييعٌ وتدليسٌ وكذبٌ وفسادٌ وخِداعٌ وهدمٌ لشعائرِ الدِّينِ وعُراه، إذْ لن يتمكَّنَ السُّـنِّيُّ مِن نشْرِ منهجِ أهل السُّـنةِ والجماعة إلا مِن مساجد أهل السنة والجماعة القائم عليها رجالٌ علىٰ مِـثل ما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابُه، وغيرها خِداعٌ مُـتَّصِلٌ، فَـكَمْ مِن مساجِدَ مشهورةٍ يعلمها كلُّ طلبة العلم، ويخطُبُ فيها مَن يزعُمُ أنه مِن أهل السُّـنة، ما ذُكِرَ فيها اسمٌ لِـرَجُـلٍ مُـبتدعٍ حتىٰ يَحْذَرَهُ الناسُ !!!
نعوذ بالله مِنَ الغِشِّ في الدِّين والخيانة والتدليس والتلبيس والتجارة بمنهج أهل السُّـنة والجماعة، تجارةً خاسرةً، يُـباعُ فيها الدِّينُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا !

ثُمَّ إنَّ هناك أمرًا جَـلَلاً عظيمًا، وهو ثمرةٌ لِما تقدَّمَ؛ وذٰلك أنَّ مِن مشايخ أهل السُّـنة والجماعة المشهودِ لهم بالعِلم والعمل والفضل! والشِّدَّةِ علىٰ أهل الأهواء، مِن كبار أهل العِلم في بلدنا وخارِجها، وهُم ممن يُـبغِـضُون الْمُـيوعةَ والْخُـنوثةَ، بل والتذبذب بين هـٰؤلاء وهـٰؤلاء، بين أهل السُّـنة وأهل الأهواء، ممن يُـبغِضُون النَّسْوَنة في مسائل المنهج وعدمَ الرجولة، ممن يكرهون النفاقَ والرِّياءَ والظهورَ بالوجوه، لا بالوجهَيْنِ فحَسْب، ممن يُـبغِضُون المبتدعةَ وأهلَ الأهواء، يحدث في مساجدهم بعضُ ما يُـنكَر، فـيُطَـبِّـقون منهجَ أهل السُّـنة والجماعة فـيُنكرون ما ينبغي له أن يُـنكَـرَ، ويلْـزَمُ مِن ذٰلك طَـرْدُ المُـبتدعة مِن مـسـاجدهم؛ لِـيَمـيزَ اللهُ الخـبـيثَ مِـنَ الطَّــيِّب، كما قال تعالىٰ: ﴿مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ﴾الآية [آل عمران:١٧٩]، وهُمْ أَخْـبَـرُ وأَعْلَمُ بقومهم، ثم يُـفاجَأُ هـٰؤلاءِ المشايخُ أنَّ هـٰؤلاءِ المبتدعةَ قد ذَهَـبُوا إلىٰ مساجِدَ لِمشايخَ مِنْ أهلِ السُّـنة في ظاهِرهم، فـيفـتحون أحضانَهم لِـهـٰؤلاء الصِّـبْـيانِ المبتدعة، ويفرحون بهم، ويدافعون عنهم، وينصرونهم علىٰ إخوانهم مِن مشايخ أهل السُّـنة الذينَ هُم أعلمُ بهم، فـيُصَدِّقُ هـٰؤلاء المشايخُ الصِّـبْـيانَ، ويُكَذِّبون إخوانَهم، أو يتعلَّلون بِـشُـبَـهٍ داحِـضَةٍ لا تُـغْـني عنهم شـيئًا عند التحقيق، مفادُها: «احــتـضانُ المُـبـتدعـة» !!

وصِـنفٌ آخَرُ عجيبٌ، سبحان الله! يخاف علىٰ نفسه مِن هـٰؤلاء الشِّرْذِمةِ مِنَ الصِّبْيانِ المبتدعة، ويخشىٰ سَطْوَتَهُم وأَلْسِـنَـتهم، ويُصَرِّحُ بذٰلك مِن غيرحياءٍ ولا خَجَل، وقد ضَرَبَ بأصولِ أهـلِ السُّـنة ومسائِلِ المـنهج عرضَ الحائط، وخَـذَّلَ إخـوانَهُ مِن أهـل السُّـنة -إن كان مـنهم ابـتداءً- إذْ لِلاسْـتِـنانِ علاماتٌ ومناراتٌ يُعْرَفُ بها أصحابُها مِن أهل السُّـنة، أَوَّلُها: نُصرةُ أهل السُّـنة، وإذْلالُ أهلِ البدعة٠ وهـٰذا الذي يحدث مِن أشدِّ الأسباب التي تؤدي إلىٰ تمزيق صَفِّ أهل السُّـنة شِيَعًا وجماعاتٍ وأحـزابًا، وزَرْعِ الْمُـيُوعةَ والْخُـنُوثةَ في قلوب شباب الأُمَّـة، واللهُ عليمٌ حكيمٌ خبيرٌ لطيفٌ؛ قال تعالىٰ: ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ﴾ [المُلك:١٤

وأنا رَجُلٌ لا أصبر علَى الباطل، ولا قُدرةَ لِي علَى التلَوُّنِ والنفاقِ وبَـيْنَ بَـيْنَ، وإمساكِ العصَا مِنَ الْوَسَطِ التَّمْيِيعِيِّ النِّـفاقِيِّ التِّجارِيِّ التَّـلْوِيـنِيِّ، بل يُشعرنِي ذٰلك -واللهِ- بالغَـثَيان والرغبة في التَّـقَـيُّؤ فعلاً، وأشعر بالمسئولية التبليغية الدعوية، فأقوم بها مهما ترَتَّبَ عليها مِن صِعابٍ وبلاءٍ، ولا أُبالِي٠

أيُّها الْمَذْكُورُونَ الْمَوْصُوفُونَ: قد قال ربُّـكُم:﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ﴾ [الأنعام:١٢٤]، وإنَّ ما عند الله لا يُـنالُ إلا بطاعته، ومِنْ أَجَلِّ نِعَمِ الله علَى الرِّجال: الدعوةُ إلَى الله علىٰ بصيرة، والله عزيزٌ حكيمٌ، قد يسلبُ النِّعَمَ فـيُبدِّلُها إلَى نِقَمٍ؛ قال تعالىٰ:﴿مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا﴾ [نوح:١٣]، إنَّما يُـوَفَّـقُ الْمَرْءُ للخير والصلاح والفلاح والدعوة إلَى الله خَلَفًا عن نَـبِـيِّـهِ؛ لو تَخَلَّقَ بأخلاقِ نَـبِـيِّـهِ الذي كان خُلُقُهُ القرآن !!
لا يُـنالُ ما عند الله بالغش والخيانة والكذب والنفاق والتلوُّن واللعب والعبث٠

فهـٰذا شيخُ الإسلام -كما أَطْلَقَ هـٰذا اللقبَ عليه شيخُ الإسلام ابْنُ تيمية- شيخُ أهل السُّـنة والجماعة أبو عُثمانَ الصابونِيُّ -رَحِمَهُ الله وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاء- ها هُوَ ذا يُـرَصِّعُ كتابَهُ «عقيدة السلف أصحاب الحديث» بِهـٰذا البيان الْمُجْمَعِ عليه مِن السلف، حيث قال في كتابه المذكور (ص: ٢٩٨-٢٩٩، ٣١٥-٣١٦) :
(( ويتحابُّون في الدِّين، ويتباغَضُون فيه، ويتقون الجدالَ في الله والخصوماتِ فيه، ويُجانِبُون أهل البدع والضلالات، ويُعادُون أصحابَ الأهواء والجهالات، ويقتدون بالسلف الصالحين مِن أئمة الدِّين وعلماء المسلمين، ويتمسَّكون بما كانوا به مُـتمَسِّكِينَ مِنَ الدِّين المتين والحق المبين، ويبغضون أهلَ البدع الذينَ أحدَثوا في الدِّين ما ليس منه، ولا يُحِـبُّونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامَهم، ولا يُجالِسونهم، ولا يُجادِلونهم في الدِّين، ولا يُـناظِـرُونهم، ويَـرَوْنَ صَوْنَ آذانِهِم عن سماعِ أباطيلهم، التي إذا مَـرَّتْ بالآذان وقَـرَّتْ في القلوب ضَرَّتْ وجَـرَّتْ إليها مِنَ الْوَساوِسِ والْخَـطَـرَاتِ ما جَـرَّتْ، وفيه أنزل الله -عزَّ وجَلَّ- قولَهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦ﴾ [الأنعام:٦٨] ٠٠٠
وهـٰذه الْجُمَلُ التي أَثْـبَـتُّها في هـٰذا الجـزء كانت مُعتقَدَهُم جميعِهم، لمْ يُخالِفْ فيها بعضُهم؛ بل أجمعوا عليها كُلِّها٠
واتفقوا مع ذٰلك علَى القول بِـقَـهْـرِ أهلِ البدع، وإذْلالِهم، وإخْـزَائهم، وإبعادِهم، وإقصائهم، والتباعدِ منهم ومِن مُـصاحَـبَـتِهم ومُعاشَرَتِهم، والتقرُّبِ إلَى الله بمُجانَبـتِهم ومُهاجَرتِهم )) اهـ٠

أيُّها الْمُمَـيِّعُونَ الْمُخَـنَّـثُونَ الدَّجَّالُونَ ممن يتكلمُ في دِينِ الله: لقد آلَتْ دِفَّـةُ الدعوةِ، دعوةِ أهلِ السُّـنةِ في كثيرٍ مِن مساجدِ المسلمينَ في مِصر إلىٰ صِـبْيان غِلْمان، يُحَرِّكونها علىٰ ما تهوىٰ أنفسُهم ! فهل أنتم مُـنـتَـهُون ؟! فما كان ذٰلك كذٰلك إلا لِضَعْفِكم وخِـزْيِكم وحُـبِّـكم للرِّئاسة، وأنْ يكـثر سَوادُكم، فـمُلِئَتْ مساجدُكم مِن كُلِّ أطيافِ المبتدعة وطَـلَـبَـةِ كُلِّ أهلِ الأهواء مِن مشايخ الضلالة، ولا يزالُ جَمْعُكم يفتح أحضانَهُ لهم حـتىٰ أَهْـلَـكْـتُم دعوةَ أهلِ السُّـنة، عليكم مِنَ الله ما تستحِقُّون٠

واللهِ، ثم تاللهِ، ثم باللهِ، لقد آلَتْ دعـوةُ أهـلِ السُّـنة إلَى الغِـلمانِ السُّـفهاءِ؛ بِـكُمْ وبِـصَـنِـيعِكم، وإن لمْ تسـتقيموا لَأُشَـهِّـرَنَّ بِـكُمْ بالحـقِّ؛ ولَأَفْـضَحَـنَّـكُمْ بالاسم والرسم، بِلا تَعرِيضٍ ولا تَـوْرِيَـةٍ، وما أُبِـيحَ للضرورةِ يُـقَـدَّرُ بِـقَـدْرِها، حتىٰ يـتجَـنَّـبَكُمْ أهلُ الحـقِّ مِن طلبة العلم -وقليلٌ ما هُم- مَعْذِرَةً إلىٰ ربِّـكم، وتَحمُّلاً لمسئولية التبليغ التي تقاعَسَ عنها جُلُّ الدعاة والمشايخ -إلا مَن رَحِمَ الله، وقليلٌ ما هُم- قال تعالىٰ: ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:١٢٤]، رِسالةَ أهلِ الحـقِّ، رسالةَ أهلِ السُّـنة والجماعة، الرسالة التي يقومُ بها الرِّجالُ فحَسْب٠

فاسْـتمِعوا إلىٰ هـٰذا الشـيخ المبارك الجليل بقلوبكم في معنىٰ هـٰذه الآية، حيث قال العلاَّمةُ السعديُّ في تفسيره (ص٢٧٢) :
(( فقال: ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ﴾ فمَنْ عَلِمَهُ يَصْلُحُ لها ويقومُ بأعبائها؛ وهو مُـتَصِفٌ بِكُلِّ خُلُقٍ جميلٍ، ومُـتَـبَـرِّئٌ مِن كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ؛ أعطاهُ الله ما تقتضيه حِكْمَـتُه أَصْلاً وتبعًا، ومَن لمْ يكُنْ كذٰلك؛ لمْ يَضَعْ أَفْـضَلَ مَوَاهِـبِه عند مَن لا يَسْـتَأْهِلُهُ ولا يَـزْكُو عنده٠
وفي هـٰذه الآية، دليلٌ علىٰ كمالِ حكمة الله تعالىٰ؛ لأنه وإن كان تعالىٰ رحيمًا واسِعَ الْجُـود، كـثيرَ الإحسان، فإنه حكيم لا يَضَعُ جُـودَهُ إلا عِندَ أَهْـلِه )) اهـ٠

وإذا خَـفِـيَتْ هـٰذه المفاهـيمُ علَى الدَّاعـية، فليس أهلاً لِأَنْ يتكلم في دِين الله، لِأَنَّ فاقِدَ الشيء لا يُعطِـيه؛ إذْ هي مفاهيمُ التوحيد، والثقةِ بالله، وحُسْنِ الظنِّ به٠

والمصيبةُ حَقَّ المصيبة أنَّ طُلاَّبَ هـٰؤلاء المذكورينَ يقتدون بهم في زَيْغِهم وانحرافِهم عن الحق، وهـٰذا أمْـرٌ يُـبَشِّرُ بِـشَـرٍّ مُستطير، وبِمَعالِمِ دعوةٍ علىٰ أبواب جهنم، إذْ لا خَـيْـرَ في الطالبِ ولا المطلوب، لا خَـيْـرَ في المُتعلِّمِ ولا العالِم؛ ما دامت الأخلاقُ علىٰ تَدَنِّيها مُستقرةً راسخةً، ولَـرُبَّما سُحِبَ بساطُ الدعوة مِن تحت هـٰؤلاء وهُم لا يشعرون، وقد حَدَثَ بعضُ هـٰذا، أو يُـتْـرَكون يُستَدْرَجون، بلاءً لهم وللمسلمين مما قدَّمَتْ أيديهم٠

قال ربُّـكم: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم﴾ [محمد:٣٨]، والعِـبرةُ في هـٰذه الآية بـعُموم اللَّـفـظِ، لا بخُـصوصِ السـبب، وهي قاعدةٌ أُصُـولِـيةٌ عليها الإجماعُ سَـلَـفًا وخَـلَـفًا٠
روَى ابْنُ جَرِيرٍ في تفسيره (٣١٥٠٩) عن قـتادةَ أنه قال في هـٰذه الآية:
(( إنْ تَـوَلَّـيْـتُمْ عن كـتابي وطاعـتي، أَسْــتَـبْدِلْ قومًا غَـيْـرَكم، قَادِرٌ -وَاللَّهِ- رَبُّـنَا علىٰ ذٰلك، علىٰ أنْ يُهلِكَهم، ويأتِيَ مِنْ بَعْدِهِمْ مَنْ هو خَـيْـرٌ منهم )) اهـ٠

وقال الحافظُ ابْنُ كـثيرٍ في تفسيره (٧/ ٢٠٧) :
(( وقوله: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ﴾ أيْ: عن طاعـتهِ واتِّباعِ شَرْعهِ ﴿يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم﴾ أيْ: ولـٰكن يكونون سامعين مُـطِـيعين له ولِأَوامِـرِه )) اهـ٠

قال تعالىٰ: ﴿فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ﴾ [الحجر:٩٤]، وقال سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [الأحزاب:٣٩
فاحذروا مَكْرَ الله واسْـتِدْراجهِ، وكونوا عِـبادَ الله الْوَجِـلِـين٠
والله مِن وراءِ القَصْدِ، وهو يهدي السبيل٠
وصلَّى الله وسلَّمَ علىٰ نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ أجمعين٠


وكَـتَبَ:
د/ عِــيد أبو الســعـود الـكــيال
وكان الانتهاء منه قُـبَـيْلَ فجر الثلاثاء
٢٤ مــن شـــعــبان ، عـــــام ١٤٣٧هـ
٣١ مـن مــايـو (أيار)، عـــام ٢٠١٦م
عزبة الهجانة ، مدينة نصر ، الـقـاهـرة

من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock