الحمد لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلا الله وَحْدَهُ لا شريك له، وأنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُه ﷺ ، أمّا بعد:
فقد روَى ابنُ ماجه في سُننه (4048) في كتاب الفتن، «باب: ذهاب القرآن والعلم»، والحاكمُ في المُسْتَدْرَك (338 ، 339) وصححه، ووافقه الذهبِيُّ في التلخيص، عن أبي الدرداء ﭬ قال: كُنَّا مع رسول الله ﷺ فشَخَصَ بِـبَصَرِهِ إلى السماء، ثم قال: (( هـٰذا أَوَان يُخْـتَلَسُ العِلْمُ مِنَ الناس، حتىٰ لا يَقْدِرُوا منه علىٰ شيء ))، فقال زِيادُ بْنُ لبيد الأنصارِيُّ: «يا رسولَ الله، وكيف يُخْـتَلَسُ مِـنَّا وقد قرأْنا القرآنَ؟ فَوَاللهِ، لَـنَـقْرَأَنَّهُ ولَـنُـقْرِئَـنَّهُ نساءَنا وأبناءَنا»، فقال ﷺ : (( ثكلَتْكَ أُمُّـكَ يا زِياد، إنْ كنتُ لَأَعُدُّكَ مِن فُقهاء المدينة؛ هـٰذه التوراةُ والإنجيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ والنَّصَارَىٰ، فمَاذَا يُغْنِي عنهم؟))0
وفِي رواية ابن ماجه: (( أَوَلَيْسَ هـٰذه اليهود والنصارىٰ يَـقْرَأُونَ التوراةَ والإنجيلَ، لا يعملون بشيءٍ ممَّا فيهما؟!))0
قال السِّـنْدِيُّ في شرح السُّنَن (5/ 383) :
(( قوله: «لا يعملون بشيءٍ ممَّا فيهما» أي: ومَنْ لا يعملُ بعِلْمهِ هو والجاهلُ سَوَاء )) اهـ0 فـهـٰذِه واحدةٌ، فاجعلها علىٰ ذُكْرٍ منك إلىٰ حين0
ثم أَتْبَعَ ابنُ ماجه هـٰذا الحديث بحديثٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ﭬ (4049)، قال:
قال رسولُ الله ﷺ : (( يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حتىٰ لا يُدْرَىٰ ما صِيامٌ ولا صلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقَةٌ، ولَـيُسْرَىٰ علىٰ كتاب الله في ليلة، فلا يبقىٰ في الأرض منه آيةٌ، وتبقىٰ طَوَائِفُ مِنَ الناس، الشيخُ الكبير، والعَجُوزُ، يقولون: أَدْرَكْنَا آباءَنا علىٰ هـٰذه الكلمة: لا إلـٰه إلا الله، فنحن نقولها ))0 قال البوصيري في الزوائد، عند الحديث: ((هـٰذا إسنادٌ صحيحٌ، رِجالُهُ ثِقات)) اهـ0
وقوله: « يَدْرُسُ الإسلامُ » يعني: تُـنْقَضُ عُراهُ كُلُّها، ولا يبقىٰ منه غير كلمة التوحيد0
ثم أَتْبَعَ ابنُ ماجه هـٰذَيْنِ الحديثَيْنِ بثالثٍ (4050) وهو الحديث الذي رواه البخاريُّ في صحيحه (7086)، ومسلم (365) مِن حديث عبد الله بن مسعودٍ ﭬ وأبِي موسىٰﭬ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: (( إنَّ مِنْ وَرائكم أيامًا، يـنـزل فيها الجهلُ، ويُرْفَعُ فيها الْعِلْمُ، ويكثر فيه الْهَرْجُ ))0
قالوا: يا رسولَ الله، وما الْهَرْجُ؟ قال: ((القتل))0
وروىٰ مسلمٌ في صحيحه (148) من كتاب الإيمان من حديث أنسٍﭬ قال:
قال رسولُ الله ﷺ: (( لا تقومُ الساعةُ علىٰ أحدٍ يقول: الله، الله ))0
وفِي رواية: (( حتىٰ لا يُـقالَ في الأرض: الله، الله ))0
وفِي روايةٍ عند مسلمٍ، ذَكَرَها القاضي عِياض في كتابه “المُعلم”: ((حتىٰ لا يُـقالَ في الأرض: لا إلـٰه إلا الله ))0
وروىٰ مسلمٌ في صحيحه (2949) من حديث عبد الله بن مسعودٍ ﭬ عن النبي ﷺ قال:
(( لا تقومُ الساعةُ إلَّا علىٰ شِرار الناس ))0
وقد يأتي في خُلْدِكَ الحديثُ المتفقُ علىٰ صحته، الذي رواه البخاريُّ في صحيحه (3116) ومسلم (1923) برواياتٍ كثيرة عن معاوية ﭬ وطائفةٍ مِن أصحاب رسول الله ﷺ أنه ﷺ قال:
(( لا تـزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّـتِي ظاهرينَ علَى الحق، لا يضرهم مَن خالَفَهُم ولا مَن خَذَلَهُم حتىٰ يأتِيَ أمْـرُ الله وهُمْ علىٰ ذٰلك ))0
قال أبو العباسِ القُرطبيُّ في “المُفهِم” (1/ 254/ ح:117) :
(( ولا يُعارِض هـٰذا قوله -عليه الصلاةُ والسلام- : «لا تـزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّـتِي ظاهرينَ علَى الحق إلى يوم القيامة»، لأنَّ هـٰذه الطائفةَ يقاتلون الدَّجَّالَ، ويجتمعون بعيسىٰ ڠ، ثم يزالون علىٰ ذٰلك إلىٰ أنْ يقبضَهم الله بالريح اليَمانِيَّة التي لا تُبقي مؤمنًا إلا قبَضَتْهُ، فيبقىٰ شِرارُ الْخَلْقِ بَعْدَهُم، ليس فيهم مَن يقول: «الله، الله» يتهارجون تَهارُجَ الْحُمُر، فعليهم تقومُ الساعة )) اهـ0
فإذا كان ذٰلك كذٰلك، فقد تَوَجَّبَ علىٰ طلبة العلم أنْ يعرفوا سببَ دُرُوسِ الإسلام ونَـقْـضِـهِ عُرْوَةً عروةً، لتَـتَكَوَّنَ منهم -علىٰ ما ينبغي عملُه- كتائبُ تجاهدُ بالحُجَّةِ والبيانِ في سبيل الله، نصرًا للدِّينِ ودِفاعًا عنه0
ومنهجُ أهلِ السُّنة والجماعةِ: فَهْمُ الكتاب والسُّنة بفَهْمِ سَلَفِ الأُمَّة، وهُمْ الصحابة ﭫ ومَن تبعهم بإحسانٍ مِنَ القُرونِ الثلاثةِ الأُوَل0
إذًا، دُرُوسُ الدِّينِ وذهابُه أعظمُ المصائبِ علَى الإطلاق، وإنْ لَمْ يُبحَثْ في أسبابِ دُرُوسِ العلمِ وذهابِه ففي أيِّ شيءٍ يتكلَّمُ أهلُ العِلم ؟!
وقد عَلِمَ أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ أنَّ أعلَمَ الصحابة بالفتن، وخبيرَها، هو حذيفةُ بْنُ اليمانِ ﭬ0
فقد روىٰ عنه الإمامُ الحافظُ أبو عبد الله محمدُ بْنُ وَضَّاحٍ القُرطبيُّ (ت: 287هـ) في كتابه “البدع والنهي عنها” (155) تحت باب: «نـقْض عُـرَى الإسـلام ودفْن الدِّين وإظهار البدع» ، عن أبِي وائلٍ عن حذيفةَ بن اليَمانِ ﭬ أنه أخَذَ حَجَرَيْنِ فوَضَعَ أحدَهُما علَى الآخَر، ثم قال لأصحابه: ((هل ترون ما بين هـٰذَيْنِ الحَجَرَيْنِ مِنَ النُّور ؟))، قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرىٰ مِنَ النور إلَّا قليلاً0 قال: ((والذي نفسي بيده، لَتظهرنَّ البدعُ حتىٰ لا يُرىٰ مِنَ الحق إلا قَدْرَ ما ترون ما بين هـٰذَيْنِ الحَجَرَيْنِ، واللهِ، لَـتَـفْـشُـوَنَّ البدعُ حتىٰ إذا تُرِكَ منها شيءٌ قالوا: تركت السُّـنة))0
ثم أتبعه ابْنُ وَضَّاحٍ بأثَرٍ آخَـرَ (56) عن أبِي الطفيل عن حذيفةَ ﭬ أنه أخَذَ حصاةً بيضاءَ فوضَعَها في كَـفِّهِ، ثم قال: «إنَّ هـٰذا الدِّينَ قد استضاء إضاءَةَ هـٰذه»، ثم أخَذَ كَـفًّا مِن ترابٍ، فجَعَلَ يَذْرُوهُ علَى الحَصاةِ حتىٰ واراها، ثم قال: «والذي نفسي بيده، لَـيَجِـيئَنَّ أقوامٌ يَدْفِـنُونَ الدِّينَ كما دُفِـنَتْ هـٰذه الحصاة، ولَيسلكنَّ طريقَ الذين كانوا مِن قبلكم، حَذْوَ الْقُذَّةِ بالْقُذَّة، وحَذْوَ النَّعْلِ بالنعل»0
وروَى اللالَكائِيُّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (196) عن عبد الله بن مسعود ﭬ أنه قال: (( إيَّاكُمْ وما يُحْدِثُ الناسُ مِنَ البدع، فإنَّ الدِّينَ لا يذهبُ مِنَ القلوبِ بِمَرَّةٍ، ولـٰكنَّ الشيطانَ يُحدِثُ له بِدَعًا حتىٰ يخرجَ الإيمان مِن قلبه، ويُوشِكُ أنْ يَدَعَ الناسُ ما ألزمهم الله مِن فَرْضِهِ في الصلاةِ والصيامِ والحلالِ والحرام، ويتكلمون في ربهم عَزَّ وجَلَّ، فمَن أدرك ذٰلك الزمانَ فلْيهربْ )) قيل: يا أبا عبد الرحمٰن، فإلىٰ أين؟ قال: (( إلىٰ لا أيْنَ ، يهرب بقلبه ودِينهِ ، ولا يُجالِس أحدًا مِن أهلِ البدع ))0
وروىٰ أبو عبد الله محمدُ بْنُ نصرٍ الْمَرْوَزِيُّ (ت: 294هـ) في كتابه “السُّنة” (10) عن ابن عباسٍﭭ أنه قال: ((ما مِن عامٍ إلا يحيا فيه بدعةٌ ويُماتُ فيه سُنةٌ حتىٰ تحيا البدعُ وتموتَ السُّنَنُ))0 فيموتُ الدِّينُ؛ لأنَّ الدِّينَ هو السُّنَنُ، حتىٰ تقومَ الساعةُ على شِرارِ الناس، وإنَّما يكون ذٰلك بالبدعة وأهلها، ومِن هنا اشتدَّتْ وَطْـأَةُ السَّلَفِ علَى المبتدعِينَ، لأنهم هادِمُو شعائر الإسلام، وناقِضُو عُـرَاه0
روَى الْمَرْوَزِيُّ في “السُّنة” (92) عن عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيز $ أنه قال:
(( لو كان بِكُلِّ بدعةٍ يُمِـيتُها الله علىٰ يدي، وكُلِّ سُـنَّةٍ يُنْعِشُها الله علىٰ يدي، بِضْعَةٌ مِنْ لَحْمِي؛ حتىٰ يأتِيَ ذٰلك علىٰ نفسي، لَكانَ في الله يسيرًا ))0
قال الإمامُ ابنُ القَـيِّمِ في “مَدَارِكِ السالكِينَ” (1/ 372) :
(( ولِهـٰذا اشتدَّ نكيرُ السلفِ والأئمةِ للبدعة، فصاحوا بأهلها مِن أقطارِ الأرض، وحَذَّرُوا فِـتْنَتَهُمْ أشدَّ التحذير، وبالَغُوا في ذٰلك ما لَمْ يُبالِغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعُدوان، إذْ مَضَرَّةُ البدعِ وهَدْمِها للدِّينِ ومُنافاتِها له أشَدُّ )) اهـ0
وقال أبو الوفاء بْنُ عقيلٍ البغداديُّ، شيخُ الحنابلة وعالمُهم، (ت: 513هـ) في كتابه “الفنون” (1/ 101) فقرة (130) : (( كما لا يَحْسُنُ في سياسة الملك الْعَفْوُ عمَّن سَعَىٰ علَى الدولة بالخروج علَى السلطان، لا يَحْسُنُ -أيضًا- أن يُعْفَىٰ عمَّن ابتدع في الأديان؛ لأنَّ فسادَ الأديانِ بالابتداع، كفسادِ الدُّوَلِ بالخروج على الملك والاسْـتِـتْباع، فالمبتدعون خوارجُ الشرائع )) اهـ0
وروَى ابنُ عساكر في “تاريخ دمشق” (6/ 345-346) عن الإمام الأوزاعِيِّ أنه قال:
(( اتقوا الله يا معشرَ المسلمِينَ، واقبلوا الناصحِينَ وعِظَةَ الواعظِينَ، واعلموا أنَّ هـٰذا الْعِلْمَ دِينٌ فانظروا ما تصنعون، وعمَّن تأخذون، وبِمَنْ تقتدون، ومَنْ علىٰ دِينكم تأمَنُون، فإنَّ أهلَ البدعِ كُلَّهُم مُبْطِلُونَ أَفَّاكُونَ آثِمُونَ لا يَرْعَوُونَ، ولا ينظرون، ولا يتقون، ولا مَعَ ذٰلك يُؤْمَـنُونَ علىٰ تحريفِ ما يسمعون، ويقولون ما لا يعلمون في سَرْدِ ما يُنكرون، وتسديد ما يفترون، والله محيطٌ بما يعملون0 فكونوا لهم حَذِرِينَ مُـتَّهِمِينَ رافضينَ مُجانِبينَ، فإنَّ علماءَكم الأوَّلينَ ومَنْ صَلَحَ مِنَ المُـتأَخِّرينَ كذٰلك كانوا يفعلون ويأمرون0 واحذروا أن تكونوا علَى الله مُظاهِرينَ، ولِدِينِهِ هادِمينَ، ولِعُراهُ ناقضينَ؛ بِتَوْقِـيرِ المُبتدعِينَ والمُحدِثينَ، فإنه قد جاء في توقيرهم ما تعلمون، وأيُّ توقيرٍ لهم، أو تعظيمٍ أشدُّ مِن أن تأخُذُوا عنهم الدِّينَ، وتكونوا بهم مُقتدينَ، ولهم مُصَدِّقِينَ مُوادِعِينَ مُؤَالِفِينَ، مُعِينينَ لهم بما يصنعون علَى اسْـتِهْوَاءِ مَن يَسْتَهْوُونَ، وتأليفِ مَن يتَأَلَّفُونَ مِن ضُعفاء المسلمِينَ لرأيهم الذي يرون، ودِينِهم الذي يَدِينُونَ وكفىٰ بذٰلك مشاركةً لهم فيما يعملون )) اهـ0
وهـٰذا غَـيْضٌ مِن فَـيْضٍ، وقليلٌ مِن كثير، يعلم به الحصيفُ الفَطِنُ، بَلْه، بليدُ الفِكْرِ وبادِي الرَّأْيِ، خُطورةَ أهل البدع والأهواء علَى الإسلام والمسلمين، وأنه مِنْ أجَلِّ الأعمال: التَّكَلُّمُ في المُبتدِعة، وفضحُهم، وتبيينُ أمرِهم بتعيينهم بالاسْمِ والرَّسْمِ؛ لِـيَحْذَرَ المسلمون علىٰ دِينهم مِنَ الهَلاك والضياع مِنْ خَوَارِجِ الشرائع المارِقِـينَ الهَدَّامِـينَ لِعُرَى الإسلام0
وهـٰذا الذي أفعله منذ أن هدانِي الله لمنهج أهل السنة والجماعة، بكل وسيلةٍ دعوية، علَى المنابر، وفي الدروس، وبالتصنيف، فقد منَّ الله عليَّ بتصنيف أربعينَ مُصَنَّفًا، منها: ثلاثون مُصَنَّفًا للرد علىٰ أهل الأهواء ودَحْضِ شُبَهِهِم وحُجَجِهم الباطلة، قد عَلِمَ عني ذٰلك القريبُ والبعيدُ والصغيرُ والكبيرُ مِن أهل العلم وطَلَبَتِهِ، ولله الحمدُ والمِـنَّة0
روَى ابْنُ وَضَّـاحٍ الإمـامُ في كتابه “البدع والنهي عنها” (7) عن أسـد بن مـوسَى بن إبراهيم، أســد السُّــنة (ت: 212هـ) ، إلىٰ أســد بن الـفـرات أبِي عـبد الله الْـحَــرَّانِـيِّ (ت: 213هـ) ، فــقـال لـه – واستمع بقلبك- : (( اعْلَمْ -أيْ أخي- إنَّما حَمَلَني علَى الكِتاب إليك ما ذَكَرَ أهلُ بلادِكَ مِنْ صالِحِ ما أعطاك الله مِنْ إنصافِكَ الناسَ، وحُسْنِ حالِكَ؛ ممَّا أظْهَرْتَ مِن السُّـنة، وعَيْبِكَ لِأَهْلِ البِدَعِ، وكثرةِ ذِكْرِكَ لهم، وطَعْنِكَ عليهم، فـقَمَعَهُمْ الله بك، وشَدَّ بك ظَهْرَ أهلِ السُّـنة، وقوَّاكَ عليهم بإظهار عَـيْـبِهِمْ والطعنِ عليهم، فأَذَلَّهُمْ الله بذٰلك وصاروا بِبِدْعَتِهِمْ مُـسْـتَـتِرينَ0
فأَبْشِرْ -أي أخي- بثواب ذٰلك واعْتَدَّ به أفضلَ حسناتِكَ مِنَ الصلاةِ والصيامِ والحجِّ والجهاد0
وذُكِرَ -أيضًا- : أنَّ لله عند كُلِّ بدعةٍ كِـيدَ بها الإسلامُ، وَلِـيًّا لله؛ يَذُبُّ عنها، وينطقُ بعلاماتها، فاغتنم يا أخي هـٰذا الفضلَ، وكُن مِنْ أهلهِ، وادْعُ إلَى السُّـنة؛ حتىٰ يكونَ لك في ذٰلك أُلْفَةٌ وجماعةٌ يقومون مقامَكَ إنْ حَدَثَ بك حادِثٌ، فيكونون أئمةً بعدَك، فيكون لك ثوابُ ذٰلك إلىٰ يوم القيامة، كما جاء في الأثر0 فاعمل علىٰ بصيرةٍ ونِـيَّـةٍ حسَنةٍ، فـيَـرُدّ الله بك المبتدِعَ الْمَـفْـتُونَ الزائغَ الحائدَ، فتكون خَلَفًا عن نبيِّكَ ﷺ ؛ فإنك لن تلقَى الله بعملٍ يُشْبِهُه0
وإيَّاكَ أن يكونَ لك مِن أهل البدع أَخٌ أو جَلِيسٌ أو صاحِبٌ، وقد وَقَعَتِ اللَّعنةُ مِن رسول الله ﷺ علىٰ أهل البدع، وأنَّ الله لا يقبلُ منهم صَرْفًا ولا عَدْلاً ولا فريضةً ولا تطَوُّعًا، وكلما ازدادوا اجتهادًا وصومًا وصلاةً ازدادوا مِنَ الله بُعْدًا، فَارْفُضْ مجالسَهم، وأَذِلَّهُمْ وأبْعِدْهُمْ كما أبعَدَهُمُ الله، وأَذَلَّهُمْ رسولُ الله ﷺ، وأئمَّةُ الْهُدَىٰ بعدَه ))0
وروَى اللالَكائيُّ في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” (256) عن قَـتادَةَ بن دعامة السدوسِيِّ أنه قال: (( إنَّ الرَّجُلَ إذا ابتدَعَ بدعةً، ينبغي لها أنْ تُذْكَرَ؛ حتىٰ تُحْذَرَ ))0
وقال شيخُ الإسلام ابْنُ تيمية في “مجموع الفتاوىٰ” (28/ 231) : (( ومثل أئمة البدع مِن أهل المقالاتِ المُخالِفَةِ للكتاب والسُّـنة، أو العباداتِ المُخالِفَةِ للكتاب والسُّـنة، فإنَّ بيانَ حالِهم وتحذيرَ الأُمَّـةِ منهم واجبٌ باتفاق المسلمينَ )) اهـ0
فـرُحْتُ أقومُ بهـٰذا الواجب شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، في القُرَىٰ والأمْصار، ابتداءً مِن مسجدي، فإذا أنا بجُـيوشٍ مِنَ الْمُمَـيِّعِـينَ الْمُخَـنَّـثِـينَ الْبَطَّالِـينَ الذينَ أُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّ السكوتِ علَى الباطل، وكُرْهَ الصَّدْعِ بالحقِّ، وتمحيصِ صُفوفِ أهلِ السُّـنة؛ لِـيَمِـيزَ اللهُ الخبيثَ مِنَ الطَّـيِّبِ، ويُعْلَمَ السُّـنِّيُّ مِنَ المبتدع، ومُـقِـيمُ السُّـنَنِ مِنْ هادِمِها، فإذا بي أكْـتَشِفُ أنَّ جُلَّ طلبةِ العِلم -إلا مَن رَحِمَ اللهُ، وقليلٌ ما هُمْ- مع طُولِ لِحاهُمْ وزَعْمِهم أنهم مُحِـبُّونَ للسُّـنة، وتَمَسُّكِهم بالْهَدْيِ الظاهِر، عند الْمَحَكِّ الْعَمَلِيِّ تجدهم خواءً هَباءً منثورًا، ليسوا علىٰ شيءٍ، وهنٌ وضعفٌ وخُنُوعٌ وذُلٌّ، كُلُّ ذٰلك مُغَطًّى ومستورٌ بادِّعاءاتٍ وشعاراتٍ وأقوالٍ تُخالِفُ الأفعالَ، حتىٰ يَصِلَ الأمر إلَى النفاق والكذبِ في بعض الأحيان ! وإنَّما يتجَلَّىٰ ذٰلك وينكشفُ عندما أُصَرِّحُ بأسماء أهلِ الأهواء، وأُسَـفِّـهُهُمْ وأُظْهِرُ عَوَرَهُمْ، وأُبَـيِّنُ ما هُمْ عليه مِنَ الضَّلال، وهُمْ كُـثُـرٌ في بلدِنا، وفِي بلاد المسلمينَ، فـعَلَىٰ رأسِهم الدعاةُ علىٰ أبوابِ جَهنم، أئمةٌ يُـقْـتَدىٰ بهم في الزَّيْغِ والضلال: أبو إسْـحـٰقَ الْحُـوَيْـنِيُّ، محمد عبد المقصود، محمد حسان، مصطفَى الْعَدَوِيُّ، محمد حـسـين يعقوب، محمد المُـقَـدم، ياسـر برهامي، سعيد عبد العظيم، أحمد فريد، أحمد النقـيب، فـوزي السـعيد، سـيد العربي، حسن أبو الأشبال، وحيد عبد السلام بالي، وجدي غنيم، يوسُف القرضاوي، عبد الرحمٰن عبد الخالق، وأَذْيالُهُم ممَّن عرَفَهمُ الناسُ، فأُصَرِّحُ بضلالهم تفصيلاً، وأنهم السببُ فـيما فـيه الأُمَّـةُ الآنَ مِنَ الهلاكِ المُـبينِ في أنحائها، في سـوريا واليمن ولـيـبـيـا، وغـيرها مِنَ البلْدان التي هَـلَـكَتْ بسـببِ فـتاوىٰ هـٰؤلاءِ الدَّمَـوِيَّةِ التي أخْـرَجَتِ المسلمينَ علىٰ حُـكَّامِـهم حـتىٰ دُمِّـرَتْ بلادُهم، حـتىٰ عَـلِمَ القاصي والدانِي، والصـغـيرُ والكـبـيرُ، أنهمُ الْمُـفـسِـدُونَ في الأرض0
فـتَجِدُ شَبابَ أهلِ السُّـنة !! في حالةٍ مُخْـزِيَـةٍ مِنَ التَّـمْـيِـيعِ حـتى النُّخاع؛ أَثَّـرَتْ فيهم دعوةُ أهل البدع القائمة علَى القصص والرقائق، مِن غير تأصيلٍ، ولا تبيينٍ لِمَـنهج أهل السنة والجماعة !
قال تعالىٰ: ﴿يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِ
﴾ [يس:30]0
فلمَّا تأَمَّلْتُ في هـٰذه الحالة الْمُفْزِعَة، وجدتُ أنَّ سببَ ذٰلك في لوازم الصَّدْعِ بالحق وما يترتَّبُ عليه من الْمَشَقَّةِ والأذَى الدُّنيوِيِّ، فـيُـفَضِّلُ الرجلُ منهم الْخِـزْيَ والعارَ علىٰ مواجهة النتائج والثمار النابعة مِن إقامة السُّـنةِ، والدفاعِ عنها؛ فإنه لا يقومُ بالسُّـنة الْمُـخَـنَّـثُونَ0
وما كان ذٰلك كذٰلك إلا مِن ضَعْفٍ وهَوانٍ في درجة الإيمان بالقلوب، وسوءِ الظنِّ بالله، وعدمِ التوكل عليه، والخوفِ مِنَ الناسِ لا مِنَ الله، ولَـرُبَّما لِابْتداعٍ خَفِيٍّ يظهر عند الصدمة الأُولىٰ، تجده مَصْرُوعًا في هُوىٰ رؤوسِ الابتداع إذا تكلمَ فيهم أحدٌ، فالخبيثُ منهم لا يُـبْصِرُ صَرْعَـتَهُ إلا البصيرُ، لقد صَدَمْتُ العشراتِ منهم، ابتداءً في مسجدي، وطرَدتُّهم شرَّ طردة، وما أزال كذٰلك إلىٰ أن يتوَفَّانِي الله تعالىٰ0
ولقد أَلَحَّ عليَّ بعضُ طلبة العلم مِن محافظة الشرقية إلحاحًا شديدًا برغبةٍ قويةٍ في أن أذهبَ إليهم درسًا أُسبوعيًّا لتعليم المنهج الحق بإذن الله تعالىٰ، فذهبْتُ إلىٰ هـٰذه المحافظة، ابتداءً في الزقازيق، وبدأتُ معهم درسًا في أحد المساجد، فـبَعْدَ دَرْسَـيْنِ طُرِدْنا مِنَ المسجد، فاخـتار الإخوةُ مسجدًا آخَرَ، طُرِدْنا منه أيضًا بعد درسَـيْنِ0
وقد علمتُ أنَّ هـٰذه المحافظةَ بها أكثر مِن ألفِ مسجدٍ بـبلبيس والزقازيق والشرقيةِ بِـقُراها، ما استطاعَ الإخوةُ تهيئةَ مسجدٍ، مع رغبتهم القوية في ذٰلك، وكُلُّ المساجد خاضعةٌ للتكفيريينَ والإخوانِ والحزبيينَ !! وهـٰذا أمرٌ عظيمٌ ومُؤَشِّرٌ فاجِعٌ خـطر، فهـٰؤلاء الإخوةُ في بلدِهم الذي وُلِدُوا فيه ما استطاعوا في سنين عُمرِهم أن يكونَ لهم مسجدٌ يُقيمونَ فيه السُّـنةَ، فإذا أتَوْا بشيخٍ مِن مشايخِ السُّـنةِ استطاعَ أن يَجِدَ له مِـنبرًا لِإقامة السُّـنة !
أمَا استطاعَ جماعـتُهم شراءَ مائةِ مترٍ يُقيمون عليه أمْـرَ دينهم بمسجدٍ صغير الحجم، كبير القيمةِ والْمَـنْـزِلَة ؟! أليس فيهم رجلٌ فـتحَ الله عليه بالمال يجعلها لله، فيجمع أهلَ السُّـنة علىٰ بيتٍ مِن بيوت الله ؟! إلىٰ هـٰذه الدرجة وصلَ بهم حبُّ الدنيا والمال ؟! فأيُّ سُـنَّةٍ تنتسبون إليها ؟!
فانقطعتُ لمَّا رأيتُ هـٰذا الهَوانَ وهـٰذا الهُراءَ، وهـٰذا الخُـنوعَ، وهـٰذه السيطرةَ الشديدةَ لأهل البدع علىٰ مساجد المسلمين في بلدٍ بأكمله0
ثم اتَّصلَ بي بعضُ الإخوةِ الحريصينَ علىٰ إقامة السُّـنة في قريةٍ مِن قُـرَى الشرقية تُدْعَى «الإبراهيمية»، وألَحُّوا في حضوري؛ فلِرَغْبتهم ورغبتي في إقامة السُّـنة ذهبتُ، فمكثتُ معهم أربعةَ دروسٍ حتىٰ كان الدرسُ الرابعُ فذكَرتُ اسمَ «مصطفَى الْعَدَوِيِّ»، وقد ذَكَرتُ أسماءَ المبتدعة كُلِّهم في الدروس الثلاثة، فإذا بمبتدعٍ يجلسُ في الدرس يزعمُ أنه مِن أهل السُّـنة، فـتعَصَّبَ لِمشايخه، فذَكَّرتُهُ بأثَرِ أبِي بكرٍ ابْنِ عَـيَّاشٍ، الجميل الشديد، لمَّا سُـئِلَ مَن السُّـنِّـيُّ؟ قال: «السُّـنِّـيُّ الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواءُ لم يتعصَّبْ لشيءٍ منها» [رواه الآجُـرِّيُّ في الشريعة (2112)]، وكُبِتَ الذي ابتدعَ وطاشَ0
وكنتُ حريصًا جدًّا علىٰ نَشْرِ كُـتُبي، التي أَفْضَحُ فيها أهلَ الأهواء، في رحلتي إلَى الشرقية في كل المساجد المذكورة، وانتشرَ منها الكثيرُ، ولله الحمدُ والْمِـنَّة، وكان لِهـٰذا الانتشارِ الأثر الشديد في توَقُّـفِ دَرسي الذي لا آخُذُ فيه دِرْهَمًا ولا دِينارًا0
ثم بعد هـٰذا الدرسِ الأخـير، ومع أول مواجهةٍ وتَكَلُّمٍ لأهل الأهواء، أَوْقَفَ القائمُ علَى المسجدِ، الزاعمُ أنه مِن أهل السُّـنة، الدرسَ ! مِن غير أن يتأدَّبَ بآداب طالبِ العلم، أو يتصلَ بي، لِـيُخْـفِيَ تَمْـيِـيعَهُ، وضَعفَهُ، وخِـزْيَـهُ، ومَـيْلهِ لأهل الأهواء، وسَلْبِـيَّـتهِ في نصر السُّـنة، وكنتُ أُراقِبُ ضَعفَهُ خلالَ الدروس في ردودِ أفعالهِ حتىٰ كان ما قصصتُه لكم0
فـتَيقَّنتُ أنه ليس في محافظة الشرقية مسجدٌ لأهل السُّـنة، ولا حَوْلَ ولا قُـوَّةَ إلا بالله، وإلَى الله المُشتكىٰ مِن هَوانِ أهل السُّـنة، كما قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﭬ : «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن جَلَدِ الْمُـنافِـقِ وعَـجْـزِ الثِّـقَـة»0
فإنَّ مِنْ أَشَدِّ ما يُـفْـسِـدُ دعوةَ أهل السنة: الزاعمون أنهم منها وهُمْ مِن غيرها، فإنَّ للسُّـنِّـيِّ علاماتٍ وخِصالَ وصِفاتٍ بها يُحْكَمُ بِـسُـنِّـيَّـتهِ أَوْ لا، فليس الأمْـرُ أمْـرَ زَعْمٍ أو قولٍ، بل أفعالٌ تُوافِقُ أقوالاً ومُعتقَداتٍ مُستقيمة علىٰ مِثل ما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابه ﭫ0
أيها الْمُمَـيِّعُون: بأفعالكم تُهْدَمُ السُّـنةُ، وتحيا البدعُ، وإنَّما سُلِّطَ عليكم سيفُ المبتدِعة ومُلِئَتْ مساجدُكم بهم ممَّا قدَّمتْ أيدِيكُم، ولو عَلِمَ الله فيكم خيرًا لَأَسْمَعَكُم وعَلَّمَكُم ومَكَّنَ لكم وبِكُمْ وثَـبَّتكم ونصَرَكم وكـثَّـرَ سوادَكم، فلمَّا كان ذٰلك ليس كذٰلك، أصابكمُ الله بِهـٰذا الْخِـزْيِ والهوان0
قال تعالىٰ: ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ
﴾ [الأنعام:124]0
ولا يعني قولي عدمَ وُجُودِ سَلَفِيٍّ هُنالِكَ أَلْـبَـتَّـة، ولـٰكنهم قِـلَّـة، كان منهم مَن يحضر دروسي، ولـٰكن لا حَوْلَ لهم ولا قُـوَّةَ، وليس ذٰلك لِكـثرة الإخـوان والحزبيين هُنالِكَ، فهـٰذه محافـظةُ المـنوفـية مليئةٌ بالإخوان والقُطبيين والحزبيين، ولِي سنين أُدَرِّسُ في مساجدِها، وأهلُ السُّـنةِ هُـنالِكَ تحت أيديهم عشراتُ المساجد، والحمدُ لله، ولهم الشَّوْكَةُ والقُـوَّةُ، فارجعوا إلىٰ أنفسِكم، وأصلحوها وطَـهِّروا قلوبَكم حتىٰ يُعَلِّمَكم الله، قال تعالىٰ: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ
﴾ [البقرة:282]0
قال القرطبي في تفسيره (3/ 307) : (( وَعْدٌ مِنَ الله بأنَّ مَنِ اتَّقاهُ عَلَّمَهُ، أيْ: يجعلُ في قلبه نورًا يفهمُ به ما يُلقىٰ إليه، وقد يجعلُ الله في قلبه ابتداءً فُـرْقانًا، أيْ: فَـيْصَلاً، يفصِلُ به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالىٰ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا
﴾ [الأنفال:29] ))0
ولَـرُبَّما هُـنالِكَ مسجدٌ لأهل السُّـنةِ في الشرقية لا أعرفه، فالله أعلم، وإن كان ذٰلك بعيدًا0
والله مِن وراءِ القَصْدِ، وهو يهدي السبيل، وصلَّى الله علىٰ محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، وآخِـرُ دَعْوانا أَنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين0
وكَـتَبَ:
د/أبو عبد الرحمٰن عِـيد بن أبي السعود الكيال
وذٰلك فـي عُـمـق لـيلـة الـثـلاثـاء
17 مـن شـعـبان عــام 1437هـ
24من مايو (آيار) عام 2016م