ر6347 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 28-09-2018 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
قَاعِدَةُ الاسْتِحَالَةِ وتَأْثِيرُهَا في تغييرِ الأَحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ﷺ أما بعد:

(*) بيان الحقيقة اللغوية والشرعية للاستحالة:

فلقد علّق ربّ العزّة -جل وعلا- الأحكام الشرعية على أسماء وُصِفَتْ بصفات معينة، لكل اسم منها صفته، فلو تغيرّت الصفة تغير الاسم، ولو تغير الاسم تغير الحكم، فصارت الأحكام الشرعية مرتبطة بالاسم والصفة وجودًا وعدمًا، وتغيّر الأسماء والصفات يُراد به التحول من اسم لآخر ومن صفة لأخرى، فصارت الأسماء والصفات عللًا للأحكام، والحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، وهذه حقيقة شرعية لغوية عقلية.

(*) بيان الحقيقة اللغوية:

 فقد قال الفيوميّ في «المصباح المنير» (ص 88):

«والحال: صفة الشيء، فيقال: حال حسن وحال حسنة، واستحال الشيء: تغيّر عن طبعه ووصفه، واستحالت الأرض: اعوجّت وخرجت عن الاستواء، وتحوّل من مكانه: انتقل عنه، وحوَّلته تحويلًا: نقلته من موضع إلى موضع، وحوّلت الرداء: نقلت كل طرف إلى موضع الآخر، والحَوَالة بالفتح مأخوذة من هذا، فأحلته بدَيْنه نقلته إلى ذمة غير ذمتك، وأحلت الشيء إحالة نقلته أيضًا، وأحلت الأمر على زيد؛ أي: جعلته مقصورًا عليه مطلوبًا به». اهـ.

وقال ابن منظور في «لسان العرب» (2/1056) مادة «حوّل»:

«وتحول عن الشيء: زال عنه إلى غيره، وحال الشيء نفسُهُ يحول حَوْلًا بمعنيين: يكون تغيّرًا، ويكون تحوّلًا، وحال فلان عن العهد يحول حولًا وحؤولًا أي زال.

قال الأزهري: والتحويل مصدر حقيقي من حوَّلت، والحِوَل اسم يقوم مقام المصدر، قال الله ۵: ﴿ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﴾ [الكهف:108]؛ أي: تحويلًا، وقال الزجاج: لا يريدون عنها تحويلًا.

وحال الشخص يحول إذا تحول، وكذلك كل متحوّل عن حاله وفي الحديث: «فاحتالتهم الشياطين»؛ أي: نقلتهم من حال إلى حال، قال ابن الأثير: هكذا جاء في رواية، والمشهور بالجيم». اهـ.

قلت: ووجه الدلالة في الرواية بالحاء.

قلتُ: يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم في «صحيحه» (2865) أن رسول الله ﷺ قال: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانًا».

فظهر المعنى من الحديث، وهو التحول من الإيمان إلى الشرك، وهو هنا تحويل واستحالة تامة.

وعلى ضوء هذه المعاني اللغوية تعلم أن الاستحالة هي: التحول من شيء إلى شيء آخر يختلف عن الأول في الاسم والصفة والحقيقة، ومن هنا يتغير حكمه بلا شك في ذلك.

 (*) بيان الحقيقة الشرعية والعقلية للاستحالة، والاستدلال على حجّيتها:

 يقول الإمام القرافي في «الذخيرة في فروع المالكية» (1/182):

«قاعدة: إن الله تعالى حكم بالنجاسة في أجسام مخصوصة، بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة، وإلّا فالأجسام كلها متماثلة، واختلافها إنما وقع بالأعراض -يعني: الأوصاف- فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابًا كليًّا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعًا، كالدم يصير منيًّا ثم آدميًّا، وإذا انتقلت تلك الأعراض إلى ما هو أشد استقذارًا منها، ثبت الحكم فيها بطريق الأوْلى، كالدم يصير قيحًا، أو دم حيض، أو ميتة». اهـ.

فهذا إجماع على ارتفاع النجاسة بذهاب الصفات وهو المطلوب، وهو أمر عقلي بدهي؛ لأن الحكم بالنجاسة مترتب على وجودها، فإذا زالت ارتفع الحكم عقلًا وشرعًا لارتفاع علّته وسببه.

وقال القرافي أيضًا في «الذخيرة» (1/159):

«قاعدة إزالة النجاسة: تارة تكون بالإزالة كالغسل بالماء، وتارة بالإحالة كالخمر إذا صار خلًّا، أو العذرة إذا صارت لحم كبش، وتارة بهما كالدباغ، فإنه يزيل الفضلات، ويحيل الهيئات؛ أو لأنه يمنعه من الفساد كالحياة». اهـ.

وقال الحافظ الفقيه الأصولي أبو محمد علي بن حزم في كتابه «المُحَلّى» (1/128، 138، 161-164):

«132-مسألة- وإذا احترقت العذرة أو الميتة أو تغيّرت فصارت رمادًا أو ترابًا، فكل ذلك طاهر ويُتيمَّمُ بذلك التراب؛ برهان ذلك: أن الأحكام إنما هي على ما حكم الله تعالى بها فيه، مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله ۵، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم، وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه، والعذرة غير التراب وغير الرماد، وكذلك الخمر غير الخل، والإنسان غير الدم الذي منه خُلق، والميتة غير التراب…. وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئًا آخر ذا حكم آخر، وكذلك إذا استحالت صفات عين الحلال الطاهر فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حرام أو نجس، فليس هو ذلك الحلال الطاهر، بل قد صار شيئًا آخر ذا حكم آخر، كالعصير يصير خمرًا، أوْ لحم خنزير تأكله دجاجة يستحيل فيها لحم دجاج حلالًا، وكالماء يصير بولًا، والطعام يصير عذرة، والعذرة والبول تدهن بها الأرض -يعني: تُسَمَّد- فيعودان ثمرة حلالًا، والخمر يصير خلًّا، ومثل هذا كثير، وكنقطة ماء تقع في خمر، أو نقطة خمر تقع في ماء فلا يظهر لشيء من ذلك أثر، وهكذا كل شيء، والأحكام للأسماء، والأسماء تابعة للصفات التي هي حدّ ما هي فيه، هذا الحد المُفَرِّق بين أنواعه… وقالوا لنا: ما قولكم في خمر أو دم أو بول وقع ذلك في الماء فلم يظهر لشيء من ذلك في الماء طعم ولا لون ولا ريح، هل صار الخمر والبول والدم ماء، أم بقي كل ذلك بحسبه؟ فإن كان صار كل ذلك ماء فكيف هذا؟ وإن بقي كل ذلك بحسبه فقد أبحتم الخمر والبول والدم، وهذا عظيم وخلاف للإسلام؟

جوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن العالم جسم تختلف أبعاضه بأعراضه وبصفاته فقط، وبحسب اختلاف صفات كل جزء من العالم تختلف أسماء تلك الأجزاء التي عليها تقع أحكام الله ۵ في الديانة، وعليها يقع التخاطب والتفاهم من جميع الناس بجميع اللغات، فالعنب عنب وليس زبيبًا، والزبيب ليس عنبًا، وعصير العنب ليس عنبًا ولا خمرًا، والخمر ليس عصيرًا، والخل ليس خمرًا، وأحكام كل ذلك في الديانة تختلف، والعين الحاملة واحدة، وكل ذلك له صفات منها يقوم حده، فمادامت تلك الصفات في تلك العين فهي ماء وله حكم الماء، فإذا زالت تلك الصفات عن تلك العين لم تكن ماء ولم يكن لها حكم الماء، وكذلك الدم والخمر والبول وكل ما في العالم، لكل نوع منه صفات مادامت فيه فهو خمر له حكم الخمر، أو دم له حكم الدم، أو بول له حكم البول أو غير ذلك، فإذا زالت عنه لم تكن تلك العين خمرًا ولا ماء ولا دمًا ولا بولًا ولا الشيء الذي كان ذلك الاسم واقعًا من أجل تلك الصفات عليه، فإذا سقط ما ذكرتم من الخمر أو البول أو الدم في الماء أو في الخل أو في اللبن أو في غير ذلك، فإن بطلت الصفات التي من أجلها سمّي الدم دمًا والخمر خمرًا والبول بولًا، وبقيت صفات الشيء الذي وقع فيه ما ذكرنا بحسبها، فليس ذلك الجرم الواقع بَعْدُ خمرًا ولا دمًا ولا بولًا، بل هو ماء على الحقيقة أو لبن على الحقيقة، وهكذا في كل شيء.

فإن غلب الواقع مما ذكرنا وبقيت صفاته بحسبها وبطلت صفات الماء أو اللبن أو الخل فليس هو ماء بعدُ ولا خلًّا ولا لبنًا، بل هو بول على الحقيقة أو خمر على الحقيقة أو دم على الحقيقة، فإن بقيت صفات الواقع ولم تبطل صفات ما وقع فيه فهو ماء وخمر أو ماء وبول، أو ماء ودم، أو لبن وبول أو دم وخل، وهكذا في كل شيء.

ولم يحرم علينا استعمال الحلال من ذلك لو أمكننا تخليصه من الحرام، لكنّا لا نقدر على استعماله إلا باستعمال الحرام فعجزنا عنه فقط، وإلا فهو طاهر مطهر حلال بحسبه كما كان، وهكذا كل شيء في العالم، فالدم يستحيل لحمًا فهو حينئذ لحم وليس دمًا، والعين واحدة، واللحم يستحيل شحمًا فليس لحمًا بعدُ بل هو شحم والعين واحدة، والزبل والبراز والبول والماء والتراب يستحيل كل ذلك في النخلة ورقًا ورُطبًا فليس بشيء من ذلك حينئذ زبلًا ولا ترابًا ولا ماء، بل هو رطب حلال طيب والعين واحدة، وهكذا في سائر النبات كله، والماء يستحيل هواء متصعّدًا وملحًا جامدًا، فليس هو ماء بل ولا يجوز الوضوء به والعين واحدة، ثم يعود ذلك الهواء وذلك الملح ماء، فليس حينئذ هواء ولا ملحًا، بل هو ماء حلال يجوز الوضوء به والغسل.

فإن أنكرتم هذا وقلتم: وإن ذهبت صفاته فهو الذي كان نفسه، لزمكم ولابد إباحة الوضوء بالبول لأنه ماء مستحيل بلا شك، وبالعرق لأنه ماء مستحيل، ولزمكم تحريم الثمار المغذاة بالزبل وبالعذرة، وتحريم لحوم الدجاج لأنها مستحيلة عن المحرمات». اهـ.

وفي نفس السياق والمسألة تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (21/501-502) فقال $:

«وذلك أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره اسْتُهلكت، لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلًا، كما أن الخمر إذا اسْتُهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربًا للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلًا كانت طاهرة باتفاق العلماء.

ومن الذي قال: إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال قد حَرُم، وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس؟؛ ولهذا قال ﷺ في حديث بئر بضاعة لما ذكر له أنها يُلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء»، وقال في حديث القلتين: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث»، وفي اللفظ الآخر: «لم ينجسه شيء» فقوله: «لم يحمل الخبث» بيّن أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أي بأن يكون الخبث فيه محمولًا، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء». اهـ.

قلت: هذان الحديثان دليلان قوّيان على اعتبار قاعدة الاستحالة، فكون الماء طهورًا لا ينجس ولا يحمل الخبث حملًا ينجّسه يدل على استهلاك النجاسة واستحالتها فيه وعدم اعتبارها، بل هي كالعدم فعلًا لا تأثير لها تأثيرًا يُغيّر صفة الماء فيغير الحكم الشرعي، وهو المطلوب؛ لأن النجس استحال، فتغير من الحرام إلى الحلال وفقد صفته واسمه وأصبح شيئًا آخر له حكم آخر، والماء هو الماء، والنجس هو النجس.

وقد نقل ابن تيمية الإجماع على طهارة الخل الذي استحال من الخمر، وهو دليل قويّ في المسألة.

– قال أحمد بن حنبل: «حديث بئر بضاعة صحيح». وانظر «التلخيص الحبير» (ح2) و«نيل الأوطار» حديث (13)، والحديث رواه الترمذي (66) وقال: حسن.

وحديث القلتين رواه الترمذي (67)، وابن خزيمة في «صحيحه» (92)، وابن حبان (1246)، والحاكم في «المستدرك» (458) وصححه ووافقه الذهبي، وابن دقيق العيد، وانظر «التلخيص الحبير» (ح4).

ثم قال شيخ الإسلام في «المجموع» (21/610-611):

«وأما قوله: هذا يفضي إلى التلوث بدخان النجاسة، فهذا مبنيّ على الأصل الثاني وهو: أن النجاسة في الملّاحة إذا صارت ملحًا ونحو ذلك فهل هي نجسة أم لا؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.

أحدهما: هي نجسة وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وأحد قولي أصحاب مالك، وهؤلاء يقولون: لا يطهر من النجاسة بالاستحالة إلا الخمرة المتنقلة بنفسها، والجلد المدبوغ، إذا قيل إن الدبغ إحالة لا إزالة.

والقول الثاني: وهو مذهب أبى حنيفة وأحد قولي المالكية وغيرهم: أنها لا تبقى نجسة، وهو الصواب، فإن هذه الأعيان لم يتناولها نص التحريم لا لفظًا ولا معنى وليست في معنى المنصوص، بل هي أعيان طيبة فيتناولها نص التحليل، وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها، وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة باطل، فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة، كالدم فإنه مستحيل عن الغداء الطاهر، وكذلك البول والعذرة، حتى الحيوان النجس مستحيل عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات، ولا ينبغي أن يعبّر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس وإن كان مستحيلًا منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المنيّ.

والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل مع الحقائق، ليس هذا هذا، فكيف يكون الرماد هو العظم الميت واللحم والدم نفسه، بمعنى أنه يتناوله اسم العظم؟ وأما كونه هو هو باعتبار الأصل والمادة فهذا لا يضر، فإن التحريم يتبع الاسم والمعنى الذي هو الخبث وكلاهما منتف.

وعلى هذا، فدخان النار الموقودة بالنجاسة طاهر، وبخار الماء النجس الذي يجتمع في السقف الطاهر، وأمثال ذلك من المسائل». اهـ.

وهو الذي رجّحه ابن قدامة في «المغني» (1/84/مسألة (10) وخالف ظاهر المذهب، حيث قال:

«ظاهر المذهب أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلًّا…. ويتخرّج -يعني: على ظاهر المذهب- أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة قياسًا على الخمرة إذا انقلبت، وجلود الميتة إذا دُبغت، والجلالة إذا حُبست». اهـ.

قلت: وهو قياس جلي على إجماع معتبر، وهو اختيار الفقيه الأصولي محمد بن على الشوكاني في كتابه «السيل الجرار» (1/170) حيث قال:

«إذا استحال ما هو محكوم بنجاسته إلى شيء غير الشيء الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، كالعذرة تستحيل ترابًا، أو الخمر يستحيل خلًّا، فقد ذهب ما كان محكومًا بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها، وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر.

أما حديث أنه ﷺ: «نهى عن أكل الجلّالة وشرب لبنها» فذلك يفيد التحريم للأكل والشرب، ولا يُعترض به على كون الاستحالة مطهرة بأن يقال: إن النجاسة التي أكلتها الجلّالة إذا صارت لبنًا فقد استحالت، فكيف وقع النهي عن شرب اللبن؟ لأنا نقول: هذا حكم وارد في تحريم الشراب للبن الجلالة لا في نجاسة لبنها، ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة، فليست النجاسة فرع التحريم». اهـ.

قلت: دليل ذلك قوله تعالى: ﴿ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ…﴾ [النساء: 23] الآية، وهذه الأعيان ليست نجسة بالإجماع، بل المحرم الاستمتاع بهن.

والجلالة ما يأكل العذرة والنجاسات من بهيمة الأنعام والطيور، والحديث رواه الترمذي في سننه (1825) وقال: حديث حسن صحيح.

(*) ومما يستدل به على حجّية الاستحالة أيضًا: ما رواه مسلم في «صحيحه» (105/366) أن النبي ﷺ قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فقد حوّل الدبغ النجاسة وأحالها فكانت طاهرة، والإهاب اسم للجلد قبل الدبغ.

ويضم إليه الإجماع الذي نقله شيخ الإسلام آنفًا على طهارة الخل المستحيل من الخمر، وإجماع القرافي وهو أقوى دليل في الباب، وسيأتي إجماع ثالث في الفروع الفقهية إن شاء الله.

(*) التقعيد الفقهي في مسألة الاستحالة: إذا تقرر عندك ما مضى بدليله فعلى ضوئه أقعد هذه القاعدة: «الاستحالة دليل شرعي عقليّ، علق فيها الشارع الأحكام الشرعية على أسماء موصوفة بصفات تُكوِّن حقائقها، فإذا تغيّرت الصفات تغيّرت الحقائق، فيترتب على تغيّرها تغيّر الأسماء المرتبطة وجودًا وعدمًا بالصفات، فتتغيّر الأحكام من الحل إلى الحرمة، ومن الحرمة إلى الحل، فيصبح المستحيل غير المحال وإن كان هو هو، وعينه هي هي، لأن الاستحالة غيّرت الاسم والصفة والحقيقة فصار نفس الحرام حلالًا والحلال حرامًا وكان الاسم والصفة علة الحكم، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا».

(*) الفروع الفقهية على القاعدة:

فإن قاعدة الاستحالة قاعدة كلية مستمرة مطّردة لا تتخلف يستفيد منها الفقيه الأصولي في جملة من الأحكام الشرعية المتنوّعة، فإذا تمّت عملية الاستحالة كاملة، ترتَّبت عليها هذه الأحكام، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر:

(1)- إذا وقعت نجاسة في ماء قليل فاستُهلكت واستحالت فلم تُغيّر لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا فهي كالعدم والماء طاهر مطهر.

وممّا يبرهن على ذلك: ما نقله أبو الحسن بن القطان في «الإقناع في مسائل الإجماع» (1/75/ رقم 293): «وأجمعوا أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فغيّرت له طعمًا أو لونًا فإنه نجس، وإذا وقعت النجاسة بصاع من ماء فلم تغيّر حاله، جاز لمائة رجل أن يجتزئوه فيتوضئون به». اهـ وهذا الإجماع دليل على الاستحالة ويقاس على الماء بقية المائعات من المشروبات والمأكولات.

(2)- جواز تسميد أرض الزراعة بما هو نجس إن وجدت الحاجة لذلك ولم يترتب على ذلك ضرر أو مرض؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار.

(3)- جواز إعادة استخدام مياه الصرف الصحّي لو عُولجت بما يُذهب عنها نجاستها، في سقي الأراضي والمواشي والحيوانات، بل وفي الاستخدام الآدمي؛ لارتفاع النجاسة التي هي علة التحريم والحظر.

(4)- إعادة استخدام القمامات بعد علاجها وإنتاجها في صور جديدة متعددة الاستخدامات الآدمية وغيرها، لأنها تتحول إلى أشياء أخُر.

(5)- إذا تحوّلت الميتة بمرور السنين إلى ملح جاز أكله؛ لأن الملح غير الميتة، فالأخيرة حرام والملح حلال، وهذا حال كثير من الملّاحات البرّية.

(6)- طهارة البترول المستخدم في كل أنحاء العالم؛ إذْ هو نتاج تفاعلات من أجساد الميتة على مرّ مئات السنين، وإن كانت الميتة حرامًا ونجسة، وهذا أمر قد أجمع عليه كل الناس اليوم من كل الطوائف والملل.

(7)- إذا كان الأصل اجتناب الخنزير مطلقًا لأنه نجس حرام، فقد وُجدت بعض أنواع الصابون قد دخلت في صناعته دهون الخنزير، فإذا استحال تمامًا وتفككت جزئيّاته فأنتجت عناصر أخرى غيره جاز استخدام هذا الصابون.

(8)- نفس الأمر في بعض أنواع الجبن المُعَلَّب إذا دخل في صناعته بعض الحرام النجس، فحاله حال الصابون، لاسيّما وقد قيل هذا على بعض هذه المنتجات ولا يُدرى أيّ الأنواع هي، فأدّى ذلك إلى البلبلة والحرج وقد قال تعالى: ﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [الحج: 78]، ونفس الأمر ما قيل على بعض أنواع البسكويت والحلوى مجهولة المصدر، وذلك لكوننا نتعامل مع واقع مفروض علينا.

(9)-كذلك ما قيل على بعض أنواع الخل، أنه يوضع عليه نسبة من الخمر الذي هو الكحول الإثيلي لكي يُسْرعوا في إنزاله إلى الأسواق، فإن كان ما قيل حقًا فالذي يوضع نسب صغيرة على كميات من الخل عظيمة يستهلك فيها الخمر ويستحيل فلا يؤثر بإنشاء حرمة الخل لأن الخمر لا يغيّر له طعمًا ولا لونًا ولا رائحة، مع العلم بغلاء سعر الكحول جدًّا، وشأن التجّاور والصنّاع توفير التكلفة وزيادة المكسب.

والأصل اجتناب الخمر بالكلية مطلقًا كما قال تعالى: ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [المائدة: 90]، وإنما ذكرت هذه الفروع دفعًا للحرج والحرمة المشكوك فيها بلا يقين، إذْ هي أقاويل تُقال لا يُعلم صدقها من كذبها، واليقين لا يزول بالشك، واليقين عدم ذلك حتى يثبت، ولو ثبت مع عدم معرفة المصدر فلن يستطيع الناس اجتنابه للجهالة به ولحاجتهم إلى هذه السلع، وقاعدة الاستحالة تشفي العليل وتروي الغليل، ومن يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين، وما دامت للخمر قد استهلكت في الأشياء المذكورة في هذه الفروع واستحالت فلا وجود لها.

(10)- الأدوية التي يستخدم فيها الكحول، إذْ الكثير من الأطباء يزعم أن الكحول المحرم مادة أساسية في إذابة عناصر الأدوية لا غنى لهم عنها، وهذا باطل شرعًا؛ فإن الله لم يجعل شفاءنا فيما حرّم علينا، ولكننا نواجه واقعًا حادثًا شئنا أم أبينا، فلابد لنا من المعالجة الشرعية الفقهية لهذه الأمور، فإن حاجة الناس للفتوى في هذه الأمور ملحّة جدًّا؛ ولذلك أذكر هذه الفروع، فغالب الأدوية فيها الكحول الحرام، وبعضها يستخدم فيه دهن الخنزير كما ذُكر لي ذلك، لاسيما الكبسولات المقوية -الفيتامينات-، فإن كانت عملية الاستحالة تتم كاملة ويتحوّل الكحول إلى عنصر آخر، فلا حرج، وإلّا فالأصل الاجتناب والحرمة المطلقة.

غير أن الأمر يدور مداره على الجهالة الحادثة في هذه الأدوية، أيُّها فيه الكحول وأيّها خال منه؟ فإن عُلم فليجتنب، فإن حدثت الحاجة الملحة أو الضرورة فعذرنا قاعدة الاستحالة، والقاعدة الكلية: «الحاجة تُنزّل منزلة الضرورة عامة كانت الحاجة أو خاصة» والقاعدة الكلية الأخرى: «ما أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها» فمثلًا البنج نوع من أنواع المخدّر ولا غنى للناس عنه في جراحاتهم وإلّا هلكوا من الألم الذي لا يتحمله بشر، إذْ كيف يُفتّح البطون أو القلوب أو الرؤوس وتقطع الأعضاء وتستأصل الأورام بلا بنج؟!، وقد نهي النبي ﷺ عن الكيّ لما فيه من الألم، فكيف بما هو أعظم كيًّا وتأثيرًا وألمًا؟! وقد مرّ كلام ابن حزم وابن تيمية والقرافي والشوكاني تفصيلًا على استحالة الخمر الواقعة في الماء وأنها كالعدم تأثيرًا، إذا استهلكت واستحالت فكذلك هنا؛ إذْ الاستحالة دليل شرعي معتبر تترتب عليه الأحكام التكليفية.

(*) نوع استحالة معنوية:

(11) ثم إن هناك استحالة من نوع آخر، أزعم أنا أنها قد تدخل تحت هذه القاعدة، وهي استحالة مالية، وصورتها: تغيّر صفة المال من الحرمة إلى الحل بتغيّر الأشخاص، فالمال في ذاته لا حل فيه ولا حرمة إذْ هو أوراق ومعادن تحمل معنى مُعيّنًا ورمزيّة خاصة لقيمة شرائية محددة، فالذي يعمل عملًا حلالًا يأخذ في مقابله عوضًا ماليًّا من هذه الأوراق النقدية، والذي يسرق أو يبيع الخمر يأخذ أيضًا نفس هذه الأوراق، فكانت الاستحالة هنا في نفس التصرف أو التعامل لا في عين المال، لذلك فإن المال الحرام يُصرف في مصارف الزكاة المعروفة، والحرمة على صاحبها فحسب، فإن تاب تصرّف في ماله الحرام بنيّة التخلص منه، ولا يعتبره صدقة؛ لأن الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبًا، وكذلك المال الحرام كله، وهذا سرّ المسألة وهو: رجوع الحل والحرمة إلى تصرف الأشخاص لا إلى عين المال، مع مراعاة الانتفاع بنفس المال وعدم إفساده، إذْ كيف يتصور إحراق ملايين بل مليارات الأموال لكونها حرامًا؟! بل ينتفع بها الناس بالاستحالة وهي بالانتقال من شخص لآخر، هي للأول حرام لأنها من كسب خبيث، وللثاني حلال لأنها ضرورة إصلاح لصفة هذا المال.

* ودليل ذلك عندي: ما رواه مسلم في «صحيحه» (170/1074) من حديث عائشة ڤ: وأتي النبيّ بلحم بقر فقيل: هذا ما تُصدّق به على بريرة فقال: «هو لها صدقة ولنا هدية» وفي رواية قال ﷺ: «هل من طعام؟» فقالت جويرية ڤ: لا والله يا رسول الله! ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أُعطيته مولاتي: من الصدقة فقال: «قرّبيه، فقد بلغت محلها».

والنبي ﷺ لا يأكل الصدقة، وعليه، فقد تحولت صفة الطعام بتحوّل الأشخاص وتغيّرهم، لذلك بّوب النووي لهذا الحديث: باب إباحة الهدية للنبي ﷺ ولبني هاشم وبني عبد المطلب وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة، وبيان أنّ الصدقة إذا قبلها المتصدَّق عليه زال عنها وصف الصدقة وحلت لكل أحد ممن كانت الصدقة محرمة عليه» وقد روى مسلم (1069) أن النبي ﷺ قال: «أنّا لا تحلّ لنا الصدقة».

قال النووي في «شرح مسلم» (7/144):

«قوله ﷺ: «قرِّبيه فقد بلغت محِلَّها» بكسر الحاء؛ أي: زال عنها حكم الصدقة وصارت حلالًا لنا. وفيه دليل للشافعي وموافقيه أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدَّق عليه وسائر الصدقات يجوز لقابضها بيعها، ويحل لمن أهداها إليه أو ملكها بطريق آخر». اهـ.

والأصل عدم جواز بيع أي جزء من الأضحية، فلما ملكها المتصدَّق عليه تغيَّر الحال من الحُرمة إلى الحل بتغيّر المالك وقد بلغت محلها، واللحم نفس اللحم والعين نفس العين، كما في الاستحالة الأولى ولكن حدث التغيّر بتغيّر المالك.

فكانت الاستحالة معنوية غير محسوسة لأن اللحم نفس اللحم، والمال نفس المال لا تغيير فيه ولا تحويل.

وكنت أتعجب من فتاوى بعض الناس بأن المال الحرام خبيث ولا يصرف إلا في مكان يناسب خبثه وهو بناء المراحيض! فسبحان الله! ملايين الأموال لا تصرف إلا في المراحيض، والملايين من الناس فقراء مرضى جوعى؟! فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

(12)- قال ابن رجب الحنبلي في كتابه «القواعد» (ص 29-30) القاعدة الثانية والعشرون:

«العين المنغمرة في غيرها إذا لم يظهر أثرها فهل هي كالمعدومة حكمًا أو لا؟

فيه خلاف، يُبْنى عليه مسائل: منها: الماء الذي استهلكت فيه النجاسة، فإن كان كثيرًا سقط حكمها بغير خلاف، وإن كان يسيرًا فروايتان.

ثم إن من الأصحاب من يقول: إنما سقط حكمها وإلا فهي موجودة، ومنهم من يقول: بل الماء أحالها لأن له قوة الإحالة فلم يبق لها وجود، بل الموجود غيرها فهو عين طاهرة.

ومنها لو خلط خمرًا بماء واستُهلك فيه ثم شربه لم يُحَدّ، هذا هو المشهور -يعني: في المذهب الحنبلي- وسواء قيل بنجاسة الماء أوْ لا.

ومنها: لو حلف لا يأكل شيئًا فاستهلك في غيره ثم أكله، قال الأصحاب: لا يحنث ولم يخرّجوا فيه خلافًا -يعني: في المذهب- لأنه مبنيّ على العرف». اهـ.

قلت: فكان اختيار ابن رجب كاختيار ابن حزم وابن قدامة وابن تيمية والشوكاني والقرافي.

(*) نوع آخر للاستحالة المعنوية: من الفسوق إلى الطاعة أو العكس:

(13)- كذلك يدخل تحت الاستحالة بمعناها العام تغيّر صفة الأشخاص من الفسق إلى العدالة، فيتغير الحكم الشرعي من قبول شهادتهم بعد إذْ لم تكن مقبولة، وهذا قلته من كيسي أيضًا بالنظر إلى المعنى الكلي للاستحالة، فقد قال الله تعالى: ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [النور: 4-5]، فظاهر الآية الأولى أن الفسق مانع من قبول الشهادة، والثانية أنّ التوبة تحيل هذا المانع وترفعه فيرجع إلى الأصل في قبول الشهادة؛ لذلك قال تعالى: ﴿ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ [الطلاق: 2]، وهذا حكم عام في كل فاسق تاب الله عليه فاستحال حاله إلى الإيمان والتقوى فيتغير حكمه الشرعي، ونفس الحكم في كل كافر تاب الله عليه وأسلم فيتحول حكمه الشرعي، وكذلك العكس من الطاعة إلى الفسوق، والشخص نفس الشخص، والذي تغير الوصف والاسم، كما في الاستحالة الأولى من الحل إلى الحرمة، أو من النجاسة إلى الطهارة، أو من الحرمة إلى الحلّ، والطهارة إلى النجاسة، على حسب المستحيل.

هذه بعض الفروع الفقهيّة المُخرجة على قاعدة الاستحالة يُسْتدل بها على غيرها، وقد علمت حجّية هذه القاعدة وأثرها في تغيير الأحكام الشرعية، وأهمّيتها للفقيه والأصولي، وفوق كل ذي علم عليم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،
وصلى الله وسلم على نبيّنًا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

                                                              وكـتـبَ :

د/ أَبو عبد الرحمن
عِــيد بن أبي السـعـود الكــيال

عزبة الهجانة، القاهرة، مصر «حفظها الله»

للمزيد :  تابع الموقع الرسمي للشـيخ

www.alkaial.com

 

تحـمـيل بـصـيغة PDF
مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock