«¢»
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ﷺ أمَّا بعد:
فإنَّ من أهم ما تستقيم به الأمورُ دينًا ودنيا، صحة الفهم، وحسن التصور، أمَّا الثانية، فقد فصَّلت فيها القول في مقالي على القاعدة الكلية الشرعية: «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره».
وأمَّا الأولى وهي: «صحة الفهم» فهو أصل كُلِّي في الشريعة وعليه الكتاب والسنَّة والإجماع، ولا تستقر مسائل الشريعة ومسائل الحياة الدنيا إلَّا به.
روى البخاري في «صحيحه» (71) من حديث معاوية ﭬ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» (1/211):
«قوله: «يفقّهه» أي: يُفهّمْه» اهـ.
وقال تعالى: ﴿ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].
قال الطبري في «تفسيره» (5/205):
«يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به» اهـ.
وقال ابن كثير في «تفسيره» (2/334):
«ثُمَّ قال تعالى مُنكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن: شك وريب وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم» اهـ.
وقال في «القاموس المحيط» (4/158):
«(فَهِمَهُ) عَلِمَه وعَرَفهُ بالقلب، فهو فَهِمٌ، واستفهمني فأفْهَمْتُهُ وفهَمْتُهُ، وتفهَّمَهُ: فَهِمَهُ شيئًا بعد شيء» اهـ.
قلت: وأكثر من ذلك، ما يُبيّن أنَّ الفهم هو: الفيصل بين معرفة الحق من الباطل، فقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ﴾ [الأنفال: 29]، قال ابن كثير في «تفسيره» (4/27):
«قال ابن عباس، والسُّدّي، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، ومقاتل بن حيَّان: «فرقانًا»: مخْرَجًا، زاد مجاهد: في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس في رواية «فرْقانًا»: نجاة، وفي رواية عنه: نصرًا.
وقال محمد بن إسحاق: «فرقانًا» أي: فيصلًا بين الحق والباطل.
وهذا التفسير من ابن إسحاق أعمَّ ممَّا تقدم، وقد يستلزم ذلك كله؛ فإنَّ من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وُفِّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخْرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه -وهو محوها- وغفرها: سترها عن النَّاس سببًا لنيل ثواب الله الجزيل، كما قال تعالى: ﴿ ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28] اهـ.
وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (19/198- 200):
«ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهنّ بعض النَّاس، كما قال عليٌّ «إلَّا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه» [رواه البخاري (111)] …. والدلائل الصحيحة لا تتناقض، ولكن قد يخص وجه اتفاقها أو يضعف أحدها على بعض العلماء» اهـ.
قلت: وهذا من أجود ما يكون في حدّ الفهم وصفته وكنهه بما لا مزيد عليه.
ويؤكد ما قاله ابن كثير، الذي قاله الإمام القرطبي في: «الجامع لأحكام القرآن» (3/307) وهو من أرْوَاع ما قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [البقرة: 282] حيث قال:
«وعد من الله تعالى، بأنَّ مَنْ اتقاه عَلَّمه، أي: يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُلقى إليه، وقد جعل الله في قلبه ابتداء فرقانًا، أي فيصلًا يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: ﴿ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [الأنفال: 29] والله أعلم» اهـ.
وكذا قال الإمام ابن القيم في كتابه الجليل: «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (1/77):
«وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد؛ يُميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمدّه حسن القصد، وتحرِّي الحق، وتقوى الربّ في السّر والعلانية، ويقطع مادة الفهم: اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وترك التقوى» اهـ.
قلت: وما سطره ابن القيم هو: أسباب الفهم وشرطه وعلله وما به يكتمل ويستقيم وينضبط، ثُمَّ فصَّل زوال الفهم ودعامة الزوال: معصية الله ورسوله، واتباع الأهواء وغلبتها، وهذا أصل المسألة؛ فإنَّ التقوى أصل الفتح الرباني العلمي الفهمي الفقهي المبارك.
كذلك قال الله تعالى: ﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [الزمر: 9] قال السعدي في «تفسيره»: (ص720):
«أي: الذين يعلمون ربّهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحِكَم ﴿ﯸ ﯹ ﯺ﴾ شيئًا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار والضياء والظلام والماء والهواء، ﴿ ﯼ ﯽ﴾ إذا ذكروا ﴿ﯾ ﯿ﴾ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته؛ لأنَّ لهم عقولًا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف مَنْ لا لُبَّ له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه» اهـ.
(*) فإذا كان ذلك كذلك وتقرر عندك ما مضى فاعلم:
أنه لا يستقيم لطالب علم أن يحقق مسألة من مسائل الشريعة، صغيرة كانت أو كبيرة، حتى يَمُرّ بهذه المنازل من الفهم والتصوُّر.
(1) حسن القصد، وهو خلوص النية لله وحده وبُغية مراد وجه الله تعالى لا لدنيا ولا لحظ نفس، ولا لجدال ومراء باطل، بل لنفع نفسه وتعليمه ما لا يعلم، والازدياد في معرفة ما يخفى من المسائل التي يغفل عنها الطالب ويجهلها، قال تعالى: ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [البينة: 5].
وقال ﷺ فيما رواه البخاري في «صحيحه» (1): «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وإياك والهوى، واحذرْ حُبّ الشهرة، فقد قال ﷺ فيما رواه مسلم في «صحيحه» (2965): «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ».
قال أبو العباس القرطبي في: «المفهم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم» (7/97/ح 2697):
«والخفيِّ: يعني به الخامل الذي لا يريد العلو فيها ولا الظهور في مناصبها، الذي لا يعرف موضعه ولا يؤبه له».
قلت: وقد نُقل الإجماع على أنه: «لا يُحبّ الشهرة تقيٌّ» وهذا أمر لا خلاف فيه؛ ويشهد له حديث مسلم آنفًا، فإنَّ الله يحب الخفاء بنصِّ الحديث، وبمفهوم المخالفة الذي هو دليل الخطاب: أنه يبغض الشهرة ولا يحبّها، ولذلك بوّب القرطبي في «المفهم» عند الحديث: «باب الخمول في الدنيا والتقلل منها».
وروى أبو نعيم في «حلية الأولياء» (9423) عن الإمام ابن المبارك قال: قال لي سفيان: «إياك والشهرة! فما أتيت أحدًا إلَّا وقد نهاني عن الشهرة».
قلت: وهذا صورة من صور الإجماع بهذا اللفظ «ما أتيت أحدًا إلَّا» وهو من باب الحصر.
فعلى طالب العلم ضبط النّسْبَةِ بين الدرجة العلمية، والشهرة الخدَّاعة التي أصلها على غيْر الجادّة، فغالب أصحاب الشهرة أهل بدع، لاسيما في أمور الدعوة ورجالها، لما ترى من فتاويهم ومخالفتهم للكتاب والسنَّة والإجماع، وصاحب الحق مبغوض.
(*) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/214- 215) بعد أن ذكر البخاري: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الحديث، آنفًا، وذكر أحاديث الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل ثُمَّ قال:
«وكان عمر يقول في دعائه: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا»، وكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يُفسد عليها التحقيق، محبتها لله وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: «يا بقايا العرب، إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية» قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟ قال: «حُبّ الرئاسة»، وعن كعب بن مالك عن النَّبِيّ ﷺ أنه قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» قال الترمذي: حديث حسن صحيح: [في السنن: (2376) كتاب الزهد]، فبين ﷺ أنَّ الحرص على المال والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بيّنٌ؛ فإنَّ الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص؛ وذلك لأنَّ القلب إذا ذاق حلاوة عبوديّتهُ لله، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدّمه عليه، وبذلك يُصْرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: ﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [يوسف: 24]اهـ، هذه هي المنزلة الأولى.
(2) أمَّا المنزلة الثانية وهي: «الإلمام المتقن بمقاصد الشرعية» التي هي معرفة مراد الله ورسوله من الكتاب والسنَّة والديانة كلها، ومعرفة مراتبها، وبه تعرف ما من مسائل الشريعة تُحَقَّقُ وبأيّها تبدأ، لإصابة المراد الفقهي المعتبر، وما النَّاس فيه للحاجّة الملحة، وهذا من أفقه الأمور وأعظمها.
وما أروع ما قاله شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (20/497) حيث قال:
«ولهذا كان المقصود من أصول الفقه: أن تفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنَّة» اهـ.
قلت: وعلم مقاصد الشريعة هو من علوم أصل الفقه، ومن أجلّها على الإطلاق.
ولقد فصّلت القول في كتابي: «الدين عندنا الرّخص عن الثقة، نظرة مقاصدية».
وهو مرفوع على موقعي الإلكتروني، وبيّنت فيه معالم هذا الفنّ وضوابط صفته.
فأذكر منها كلمتين، الأولى كلمة مجملة للإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين» (3/5):
«فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد» اهـ ثُمَّ فصَّل الكلام في معنى هذه الكلمة.
وأمَّا الثانية: ما قاله شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (32/234):
«وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة، وأنَّ ترتيب الشارع للأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، يتضمّن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارّهم، ورأوا أنَّ المصلحة نوعان: أخروية ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسية النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمَّن: حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته ورسله وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل على الله، والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة، وكذلك ما شرعه من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام وحقوق المماليك والجيران وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السَّنيَّة وتهذيب الأخلاق، ويتبيّن أنَّ هذا جزءٌ من أجزاء ما به الشريعة من المصالح» اهـ.
والمقاصد الشرعية جمع مقصد من القصد، وهو معنى النّية، والمراد من القصد: استقامة الطريق، كما قال ابن منظور في «لسان العرب» مادة: (قصد) (41/3642):
«القصد: استقامة الطريق، وقوله تعالى: ﴿ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ [النحل: 9] أي على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة ﴿ﭰ ﭱ﴾ [النحل: 9] أي: ومنها طريق غير قاصد.
وفي الحديث: «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» [رواه البخاري (6463)].
أي: عليكم بالقصد من الأمور في القول والفعل، وهو الوسط بين الطرفين، وفي الحديث: «عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا» [رواه الحاكم في المستدرك (1176) وصححه ووافقه الذهبي] أي: طريقًا معتدلًا، والقصد: الاعتماد والأم» اهـ.
فهذا مُجْمَل المقاصد الشرعية لغةً وشرعًا لبيان حدَّها وصفتها.
(3) جمع شتات ما به تُعْلم مفاتيح العلوم، وما به تُضبط الفنون الشرعية من معرفة علوم الآلة التي بها تتفتح المدارك ويستقيم النظر والتصور والاستنباط، والترجيح المعتبر وفقه الدلالات، إذْ منها معرفة الدلالة الحقيقية التي هي مراد النصوص من الكتاب والسنَّة، والدلالة الإضافية التي هي مراد المجتهد، فتختلف باختلاف الناظرين والمجتهدين، وعلى كثرة ثروتهم العلمية تكون الإصابة والخطأ، فمن هذه القواعد: «الذي يعلم حجّة على من لا يعلم» فإنَّ معرفة القواعد الكلية، من قواعد الفقه والأصول والقواعد التي قامت عليها الشريعة وتحصيلها، وفهمها، ثُمَّ استعمالها في فروعها التي هي الفقه والفتوى وشئون المسلمين وما يتعلق بها وعلم الآلة الأم: علم أصول الفقه، الذي بَيَّن في حدّه وتعريفه بيانًا يقطع الألسنة فيمن لا يعرف أهمية هذا العلم، إذ تعريفه: «العلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية» ولا خلاف عندهم في المعنى مع تغيّر ألفاظ التعريفات لأصول الفقه، فمن مَهَّمات كل العلوم والفنون الشرعية: حفظ وفهم وشرح وتطبيق القواعد الأصولية التي بها ينصلح الاجتهاد والفتوى والاستنباط والتكلم في دين الله، وهذا بإجماع الأصوليين من علماء أصول الفقه قاطبة، فهذه المنزلة الثالثة، وهذه المنازل الثلاث هي بمثابة الأطر العامة الممهدة لتفاصيل التحقيق العملي لكل مسألة وكيفية البحث فيها وترتيبها متدرّجة درجة درجة، ومن ثَمَّ، فإنَّ ما بعد هذه المنزلة الثالثة هو: خطوات التحقيق المفصلة، والمنهج العلمي الذي يأتي بثماره ويحصّل الفهم الصحيح ويُترسِّخ قانونه.
قال في «المعجم الوجيز» ص (518):
«قنّن: وَضَعَ القوانين والقانون: مقياس كل شيء وطريقه، وفي الاصطلاح: أمر كليِّ ينطبق على جميع جزئياته التي تُتعَرّفُ أحكامُها منه» اهـ.
(4) وأَوَّلُ خُطوة في تحقيق المسائل: التصور الصحيح الحسن للمسألة المطروحة للبحث:
كما يقرأ المُخْتَّبِرُ الامتحان والسؤال المراد الإجابة عليه، فينظر إلى ألفاظه ويفهمها ويتدبّرها ويتأمَّلها، ويَستوعب المراد منها، والمعنى اللغوي والاصلاحي الشرعي وفقه المسألة؛ لأنَّ القاعدة الكلية في الباب: «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره» بمعنى: لن تستطيع أن تحكم على أي شيء إلَّا بمعرفه كُنْهَ هذا الشيء بالتحليل والتفصيل والإلمام بكل ما يساعد على الفهم والدراية والمعرفة والمعونة والمساعدة لكل لفظ، مع ربط الألفاظ كلها بجملة السؤال جملة وتفصيلًا، ثُمَّ إعادة وتكرار ذلك مرادًا حتى يتم ضبط المعاني وفهم المراد بتمام الإدراك وحسن الوعي، فإذا صح التصور ترتب عليه حسن الاستيعاب، وهذه هي الخطوة الأساس والأم في نيل التحقيق.
وهذه المنزلة الرابعة هي دعامة الجواب الصحيح والترجيح القائم على الاستخراج والاستنباط، وهي الدافعة إلى نيل المبتغى من البحث.
(5) معرفة أدلة الأحكام التي تستعين بها للوصول إلى الحق، كُلُها في صعيد واحد:
فلا يعزب عنك ويفوتك دليل في المسألة؛ لأنَّ غفولك عن دليل من جملتها يفسد عليك كل المسألة بِرُمَّتها، إذْ حضور كل الأدلة في خلدك وعقلك وبصيرتك تجعلك قادرًا على الظفر والإجابة النموذجية المعتبرة، وهذا المنزلة من أهم المنازل.
ومن ثَمَّ تبحث عن الدليل من الكتاب، والسنَّة والإجماع، ثُمَّ بقية الأدلة الأخرى عند الحاجة، من القياس الصحيح المعتبر، والعرف الذي هو مصدر من مصادر التشريع، والقاعدة الكلية فيه: «ما لم يرد الشرع بتقديره فالمرجع فيه إلى العرف» وقاعدة: «العرف المخالف للنصوص فهو باطل بالإجماع ولا عبرة به».
وكذلك المصلحة المرسلة ومعرفة أنَّ الإجماع عليها من الصحابة، وأنها أصل من أصول الشريعة، وكذلك الاستصحاب وقاعدة: «الأصل بقاء ما كان على ما كان» وقاعدة: «الأصل براءة الذمة من التكاليف» كما بينت مفصلًا في «سلسلة المقالات الفقهية الأصولية» وكذلك أصل: «سد الذرائع» وهو أصل اسْتدل عليه ابن القيم بتسع وتسعين وجهًا من الكتاب والسنَّة والإجماع وأقوال السلف والقياس والمعقولات وغيرها.
وكذلك شرع من قبلنا ما لم يخالف شرعنا، والراجح أنه أصل معتبر على خلاف ابن حزم.
(*) فإذا كان الاستدلال من الكتاب، فافهم تفسير الآية عند جملة من المفسرين ومعناها اللغوي والشرعي وفقه الآية ومرادها، وتعلم هل نُسخت أم لا؟ وهل هي عامة في الحكم؟ أم لحقها التخصيص؟ وما هو الدليل المخصص؟ ومعرفة وجه التخصيص؟ فلربَّما ليس ثَمَّ تخصيص، ولو قيل بالنسخ فلابد أن تعرف هل هو نسخ فعلًا؟، لأنَّ الأصل عدم النسخ، وقاعدة الأصوليين: «لا يقال بالنسخ إلَّا عند تعذر الجمع».
فإن وُجد وجه واحد فهو المعتبر لا غيره، وإن وجد الناسخ من السنَّة للآية، فلابد من تحقيق السند ومعرفة الصحيح من الضعيف وبيان الضعف وتفصيل السند بصنعته الحديثية، مع النظر في أدلة آيات الأحكام كلها كما في مظانها من كتب «أحكام القرآن».
ثُمَّ النظر إلى الآية هل هي محكمة أم متشابهة، فإنَّ المحكم ما كان له معنى واحد منضبط، والمتشابه يحتمل التأويلات والاحتمالات المختلفة الكثرة، وهذا أصح معاني الآية المحكمة والمتشابهة، كما قال تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [آل عمران: 7]، وكذلك المجمل من المبيّن.
(*) فإذا كان الدليل من السنَّة فلينظر إلى مظانَّها، ومعرفة معانيها وألفاظها لغةً وشرعًا وفقهًا وفهمًا، ومعرفة الصحة من الضعف، والناسخ من المنسوخ، والعام من الخاص والمطلق من المقيد، والمجمل من المبيَّن، وبيان التعارض بين الأدلة عند صحة الأحاديث في المسألة، فهنا نركن إلى قواعد ردّ التعارض، كما يحدث بين قاعدة «إذا اجتمع الحاظر والمبيح قُدم الحاظر» وقاعدة «الإعمال أولى من الإهمال» فالقاعدة الأولى: أن يجتمع في المسألة الواحدة حلال وحرام، كما وجد النهي عن الشرب واقفًا وجوازه، والنهي عن نقض الوضوء بمس الذكر وجوازه، فهل الأصل إعمال كل الأدلة وإحياء السنن والتوسعة على النَّاس، أم نأخذ بقاعدة الحاظر فيعطل أدلة الإباحة والجواز؟ وكتبت في هذه المسألة كتابي: «التعارض والترجيح بين قاعدتي ….» ورجحت الإعمال مع بيان عشرات الفروع في المسألة، من سلسلة الأبحاث الفقهية الأصولية السلفية، وكذلك التعارض بين العمومين كتحية المسجد وعمومها في كل وقت عند دخول المسجد، وعموم النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة وهو عام أيضًا، وأيهما يقدم؟
وكذلك قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة أو التحريم بعد الشرع» وما يترتب عليهما من الفروع في حالة الإباحة وحالة التحريم، وما الراجح منهم؟ لأنَّ كل قول منهما يلزمه حكم؟ وما يتعارض من القواعد الأصولية أيضًا «هل الأمر على الفور أم على التراخي؟» وما يترتب عليه من الأحكام، لاسيما في فورية الحج عند الاستطاعة أم تراخيه؟ وجملة جمّة من القواعد الأصولية والتعارض بينها، وكل هذا لابدّ أن يؤخذ في الاعتبار، وعدم معرفته يؤدي في تحقيق المسائل إلى الخلل الرهيب وفساد الترجيح واختلاط الاستنباط واضطراب الفتوى.
وقد ظفرت بفضل الله ومنه والذي لا تتم الصالحات إلَّا به في كتابي «أثر القواعد الأصولية في المعتقد وردّ شبه المنحرفين» بهذا الكتاب الذي لم يكتب مثله في هذا الباب والله أعلم، والكتاب مطبوع [pdf] على موقعي، ورددت على جملة كبيرة من شُبه أهل البدع بقواعد قعدتها في هذا الباب، تُبيّن: أنَّ عدم الإلمام بالقواعد الأصولية وعلم أصول الفقه، يؤدي إلى هلاك الفتوى واضطراب الاستنباط وطرق الاستخراج.
وقد وفّقت بفضل الله على تأليف كتابي الكبير «ما قل ودلَّ في أصول الفقه للمستدل، تقريب أصول الفقه على منهج أهل السنَّة والجماعة» وهو مطبوع بحمد الله في ثلاثة مجلَّدات، وما تركت مسألة من مسائل هذا العلم إلَّا وذكرتها على ما أزعم والله أعلم، ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [يوسف: 76] والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
(*) فإذا كان الاستدلال من الإجماع فلابد من الوقوف على مراجع المسائل التي ذكروا فيها المُجْمَعَ عليه، كما في كتاب: «مراتب الإجماع» لابن حزم، «ونقض مراتب الإجماع» لابن تيمية تعليقًا على كتاب ابن حزم، وكتاب ابن المنذر «الإجماع» وكتاب «الإقناع في مسائل الإجماع» لأبي الحسن بن القطان، ومعرفة ما صح منها وما ضَعُفَ، ومعرفة مسائل الاختلاف، لأنَّها من لوازم معرفة الإجماع، وهو مبثوث في كتب الفقه المقارن، لاسيما كتاب ابن المنذر الكبير الجليل «الأوسط» وقد اختصره في كتابه «الإشراف على مذاهب أهل العلم» وكتابه: «اختلاف العلماء» وغيره من الكتب فكون الباحث لا يحصل على مراجع الإجماع ويعرفها حين الرجوع إليها لاضطرب تحقيقه وفسدت استنباطاته، والإلمام بقاعدة الباب «ليس كل خلاف معتبرًا إلَّا ما كان له حظ من النظر» وهو مجمع عليه.
(*) فإذا استدل بالقياس، فلابد من التفريق بين القياس الصحيح والفاسد، ومعرفة كل ما يتعلق بالقياس من مسائل، من معرفة مسالك العلة التي هي المناط، بتنقيح المناط، وتحقيق المناط، وتخريج المناط حتى يتم لك القياس الصحيح، بمعرفة أركانه من: الأصل والفرع والعلة والحكم، ومعرفة الصحيح من الضعيف في الأحاديث التي هي الأصل الذي تبنى عليه الأحكام التي يُقاس عليها الفروع لاشتراكهما في الحكم بوجود العلة، وهذا معنى القياس وهو «حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما» كحمل النبيذ والمخدرات وكل مسكر ومغيب للعقل، على الخمر في التحريم بجامع الإسكار، والمراد بالحمل هنا -كما قال الأصوليون-: الإلحاق والتسوية بينهما في الحكم، وكما قاسوا تحريم إتيان الزوجة في الدبر على الحيض بجامع النجاسة، وهو من باب قياس الأولى، وبيان كل ما يتعلق بمسائل القياس وهو من أقوى مسائل أصول الفقه وأهمَّها، وعدم الإلمام بها يفسد الاجتهاد والتكلم في دين الله بلا شك أومرية.
قال الله تعالى: ﴿ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [العنكبوت: 43].
(*) كما فصَّلْت في هذه المنازل أهمية معرفة الصحيح والضعيف وهو علم مصطلح الحديث، وهو آلة القطع لإدراك الحجة الاستدلالية، ومن لم يعرف من المحدثين الآلات السابقة لتحقيق المسائل، فسد عنده بلا مرية ولا شك آلية التحقيق في مسائل الشريعة كما قرر ذلك الأئمة كأبي عمر بن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» والإمام الخطابيِّ في مقدمة «معالم السنن شرح سنن أبي داود» وجُلَّ الأصوليين.
(6)- أمَّا المنزلة السادسة وهي عامة في ما قبل من المنازل وهي قاعدة: «لا ينكر المختلف فيه وإنَّما ينكر المجمع عليه» وقد كتبت فيها كتابًا في: «سلسلة الأبحاث الفقهية الأصولية السلفية» الموسوم بـ«قاعدة لا ينكر المختلف فيه حدودها وضوابطها» وهي تُنزَّل على الخلاف المعتبر فحسب، وسواء كانت في مسائل الفقه أو الأصول أو الحديث، لأنَّ الخلاف معتبرٌ مع الاجتهاد والترجيح، وسواء في القواعد الفقهية، أو الأصولية، أو الحديثية، وكذلك في اختلاف رجال الحديث في التوثيق والتضعيف، الذي يترتب عليه صحة الحديث وضعفه، وهي مسألة في غاية الأهمية، وما يترتب عليه من اعتبار الحكم الشرعي التكليفي أو عدم اعتباره، من خلال الراوي ودرجة السند، فإنَّ ما بنيَّ على باطل فهو باطل، فقد يوثق أحمد من يضعفه ابن معين، ويضعف البخاري من يوثقه عليَّ بن المديني، ويوثق العجلي وابن شاهين من يضعفه السفينان وشعبة، والأمر طويل، فكل ذلك لابدَّ من الإلمام به في خطوات التحقيق، فالأمر أصعب من ذلك «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
قال الحافظ في «فتح الباري» (1/211) عند هذا الحديث:
«ومفهوم الحديث: أنَّ من لم يتفقه في الدين، أي: يتعلم قواعد الإسلام، وما يتصل به من الفروع قد حُرِم الخير» اهـ.
قلت: ومن أهم المعالم والمنارات: الإلمام بكتب الشروحات الفقهية الأم في الفقه المقارن، وشروحات كتب السنَّة المطبوعة كلها ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وتفاسير القُرآن بالمأثور، وكتب أحكام القرآن للجصاص والقاضي أبي بكر بن العربيِّ، لاسيما تفسير القرطبيِّ في «جامعه» كله.
وعليه، فكلما ازداد الباحث علمًا بهذه القواعد وكَثُر إلمامه بها حفظًا واستيعابًا وتدبرًّا وفهمًا، وعملًا، كلما ثقلت خبْرته، وكملت آليته في منظومة الترجيح، وصحة الاستنباط، وتحقيق مسائل الشريعة، وذلك؛ لأنَّ من أقوى ما يؤدي بالباحث إلى كشف اللثام عن حقائق مسائل العلوم، ومعرفة الحق من الباطل، والصحيح من الضعيف أو الباطل، والمعتبر من غير المعتبر، والذي تستقر به الفتوى أو لا تستقر، إنَّما هو: التحقيق العلمي المنضبط على الأسس والأصول والدعائم، التي تصير بك إلى التفقه في الدين، الذي هو إدراك ومعرفة قواعد الإسلام، وما يتصل به من الفروع الناشئة عن الأصول.
فقد روى أبو عمر بن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1011/ المختصر» عن ذي النون بن إبراهيم أنه قال: «من أعلام البصر بالدين معرفة الأصول لتسلم من البدع والخطأ».
وروى أيضًا أبو عمر في «جامعه» (1610) عن الإمام مالك قال: قال إياس بن معاوية لربيعة الرأي: «إنَّ الشيء إذا بُنِيَ على عوجٍ لم يكدْ يعتدل» وفي رواية «على غير أُسٍّ لم يكد يعتدل».
قلت: ومن الأسس التي لابدَّ منها لضبط المسألة، والقواعد التي تفرَّعت على قاعدة: «لا ينكر المختلف فيه قاعدة: «ليس كل خلاف معتبرًا، إلَّا ما كان له حظ من النظر» وقاعدة: «ما بني على باطل فهو باطل»، «ما بني على حق فهو حق» وعليه، فلا يستقيم خلاف على دليل باطل أو هالك في سنده، أو حديث صحيح سندًا ولا دلالة فيه في موطن النزاع ومحل الشاهد، ومن المسائل المهمة في هذا السياق الخلافيِّ: اعتبار الاجتهاد الذي أدَّى إلى اضطراب الفتاوى بين الأئمة، لوجود الخلاف غير المعتبر في نفس الامر، وصورته:
ما ذكره شيخ الإسلام في كتابه: «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» وهو من فصول «مجموع الفتاوى» تم طُبع منفردًا، وهو رسالة جليلة مع صِغَر حجمها.
وفيها رفع الملام عن هؤلاء الأئمة فيما كان منهم من الاجتهاد الذي لم يصح بأسباب معتبرة، ومدارها على رفع الحرج عنهم لما حدث لهم من عدم معرفتهم، بما لو صلوا إلى علمه لغيروا فتاويهم التي لا تصح، وأسبابه في أمور:
منها: القول في مسائل قامت على حديث لم يثبت وقد صححوه وهم يعتقدون ذلك، وليس كذلك في نفس الأمر، فقال من صححه بالفتوى على اعتباره وخالفهم الآخرون.
ومنها: الفتوى في مسائل قالوها برأيهم، وفي المسألة حديث ثابت لم يصل علمه إليهم فأفتوا فتوى غير صحيحة، وخالفهم الآخرون.
ومنها: صحة الحديث عنهم، ولم يروا فيه دلالة فأفتوا بعكسه، وغيرهم اعتبر دلالته فخالفوهم في ذلك.
ومنها: اختلافهم في العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، وتعارض الأدلة، وتعارض العمومات، ومعرفة القواعد الأصولية والغفلة عن بعضها؛ على قاعدة: «الذي يعلم حجة على من لا يعلم»، واختلاف النظر والفكر والدلالات وقوة القريحة وضعفها، والفتح من عنده الله بالصواب وعدمه وغير ذلك من الدلالات، وتأثير ذلك على الفتاوى.
فقد رواه البخاري في «صحيحه» (7352) ومسلم (1716) قال ﷺ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ».
قال النووي في: «شرح مسلم» (11/184):
«أجمع المسلمون على أنَّ هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فأمَّا من ليس بأهل للحكم لا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه، فإنَّ حكمه ليس صادر عن أصل شرعي» اهـ.
قلت: وهذا ضابط معتبر مهم في المسألة لبيان التصور الشرعي والفصل فيها من ناحية التحقيق.
وقال الإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين» (1/268):
«ودلالات النصوص نوعان: حقيقة وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف.
والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافًا متباينًا بحسب تباين السامعين في ذلك» اهـ.
قلت: وعليه لابد للباحث من معرفة هذه الضوابط والقواعد التي تُصوّب بها الأحكام.
(7) المنزلة السابعة: معرفة من يُؤخذ منه العلم ومن لا يؤخذ منه، وهي أهم المنازل:
فقد روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» (15726) عن صالح بن مهران، وكان يقال له: الحكيم، أنه قال:
«كل صاحب صنعة لا يقدر أن يعمل في صناعته إلَّا بآلة، وآلة الإسلام العلم، وإذا رأيت العالم لا يتورَّع في علمه، فليس لك أن تأخذ العلم عنه».
قلت: دعك من الورع يا فطين! بل نلزمك فحسب بتحرِّي الحلال والحرام، فما ظنك بالحرام والتَّلبُّس به؟ والتجرُّؤ على المعاصي والتلبس بالبدع؟
(*) قال أبو بكر بن العربي الإمام القاضي المالكي في كتابه: «أحكام القرآن» (4/1715) عند آية الحجرات: ﴿ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾ [الحجرات: 6] فقال:
«من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة، والفسق قريبة تبطلها» اهـ.
(*) وقال النووي في «شرح المهذب» (1/70-71):
«… على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين» اهـ.
(*) وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (16/224) عند آية الحجرات:
«وفي هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلًا؛ لأنَّه إنَّما أمر فيها بالتثبت عند نقل الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا» اهـ.
(*) وقال الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (2/156) تحت باب ذكر شروط من يصلح للفتوى:
«أول أوصاف المفتي الذي يلزم قبول فتواه …. ثم يكون عدلًا ثقة؛ لأن علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيرًا بها» اهـ. فهذه أربعة إجماعات وأزيدك الخامسة:
(*) وقال الشاطبي في «الموافقات» تحت المسألة الرابعة من كتاب الاجتهاد (4/408):
«واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق» اهـ
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه: «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» (ص297):
«العلم هو السنة، والجهل هو البدعة».
وروى أحمد في «مسنده» (17079)، والترمذي في «سننه» (2676) وقال: حسن صحيح، والحاكم في «المستدرك» (329، 332) وصححه ووافقه الذهبي، من حديث العرباض بن سارية عن رسول الله ﷺ قال: «… فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
وروى البخاري (2697)، ومسلم (718) قال ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» يعني: مردود قوله وعمله على نفسه.
وفي رواية البخاري: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ».
وقال الشاطبي إمام المقاصد الشرعية في كتابه الجامع: «الموافقات» (1/62/ تحت المقدمة (12)):
«وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات، إحداها:
العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقًا لفعله، فإنْ كان مخالفًا له فليس بأهل لأنْ يُؤخذ عنه العلم، ولا أنْ يقتدى به في علم» اهـ.
وقال الشاطبي في «الموافقات» (1/47/ تحت المقدمة الثامنة):
«والعلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا، هو العلم الباعث على العمل الذي لا يُخَلَّى صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل هو العمل بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعًا وكرْهًا» اهـ.
قلت: وقد كتبت جملة كبيرة من المقالات الفقهية الأصولية، والمقالات المنهجية على الموقع الالكتروني، كلها أمثلة عملية لتحقيق المسائل الشرعية وكيفية ذلك في كل مقالة، ما يقرب من أربعين مقالة، فارجع إلى ما شئت منها ليتبيَّن لك منهجية التحقيق الذي نظّرتُ له ومَنْهَجْتُ؛ لبيان منظومة التحقيق العلمي والاستفادة به والتدريب عليه، ومباشرة خطواته بالمعالم والمنارات الدالة عليه والمرشدة إليه وقوانينها العلمية ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [يوسف: 76] ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
(8) أمَّا المنزلة الثامنة:
فهي معرفتك بأنَّ الكل يؤخذُ من قوله ويردّ، إلا
رسول الله ﷺ.
وهذه المنزلة من أهم المعالم والمنارات، وبها يستقيم قانون التحقيق وضوابط آلية الترجيح، ومناهج الاستنباط والاستخراج، وصحة التعارض بين النصوص والأدلة، ووجه ذلك على ما مرَّ من هذه المنازل السبع، أنَّ الباحث المحقق الفقيه الأصولي المدرك الواعي البصير، لا يقيم تحقيقه وترجيحه إلَّا على المرجعية الاستدلالية من الكتاب والسنَّة، كما قال تعالى: ﴿ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ﴾ [النساء: 59].
وقال تعالى: ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [الشورى: 10] وقال سبحانه: ﴿ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ﴾ [النحل: 64] فهذه النصوص وأشباهها إلزام لنا بقيام الحجة والبيّنة من الله ورسوله، ورسول الله هو المبيّن للقرآن، فلا مناص للمحقق إلَّا بالدليل من الكتاب والسنَّة، مع ضم حديث عرباض بن سارية السابق آنفًا: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ».
وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (2/227):
«ولهذا اتفق المسلمون على أنَّ كل أحد من النَّاس يُؤخذ من قوله ويُترك إلَّا رسول الله ﷺ، وإن كانوا متفاضلين في الهدي والنور، فما وافق آثار الرسول فهو الحق، وما خالف ذلك فهو الباطل، وإن كانوا مجتهدين فيه والله يثيبهم على اجتهادهم ويغفر خطاهم» اهـ.
ومن ثَمَّ فلا يُقام التحقيق إلَّا على الأدلة الشرعية المعتبرة الصحيحة الصريحة، من الكتاب والسنَّة، وما تفرَّع منهما كما سبق بيانه وكل من دون رسول الله ﷺ يؤخذ من قوله ويترك، ولا معصوم إلَّا رسول الله ﷺ، ولو كان أبا بكر فمن دونه، لأنَّ المسائل الخلافية يختلف كل أهل العلم فيها من لدن الصحابة إلى قُبيل الساعة، ولو حدث الخلاف فلابدَّ من القطع في ذلك بالأدلة والمعتبرة، والاجتهادات والأنظار والاستخراجات والاستنباطات تتغيّر بتغيّر الأشخاص، وغالب أهل العلم يقول القول ويرجع فيه، حتى وصل الأمر إلى القول في المسألة الواحدة بسبعة أقوال، ومن ثُمَّ، ليس ثَمَّ استدلال إلَّا بالنصوص، وعليه، فلا يستقيم لباحث في تحقيق مسألة أن يقول هو قول أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو داود أو ابن حزم، فضلًا، عن الخلفاء الراشدين الأربعة ومن دونهم من الصحابة؛ إلَّا في سياق التقوية والتعضيض فحسب، ودليل ذلك الآيات المذكورة، والإجماعات المتواترة على ذلك.
وهذا الذي ذكرته من أهم ما يكون عند المحققين من أهل العلم سلفًا وخلافًا بلا نزاع ألبتة.
ممَّا يؤكد ويُبيّن لك الداء العضال والمرض الخبيث سرطان التعصّب البغيض الممقوت، وقد كتبت في سلسلة تصحيح المعتقد رقم (26) كتابي: «زفرات مهموم بين دليل مكلوم وتعصّب مذموم» وهذا الداء من أفسد الأسباب لضياع العلم وفساد الدعوة.
فقد روى أبو عمر بن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1342) (المختصر) عن ابن عباس قال: «ويل للأتباع من عثرات العالم» قيل: كيف ذلك؟ قال: «يقول العالم شيئًا برأيه، ثُمَّ يجد من هو أعلم برسول الله ﷺ منه، فيترك قوله ذلك، ثُمَّ يمضي الأتباع» قلت: والمعنى: يمضى الأتباع على ما قلدوه من العالم وقد رجع، ولا يعلم الأتباع أنه رجع ويتديّنون بقوله وهو باطل إلى الموت، وذلك لأنهم مقلدون لا يفهمون ولا يعلمون، وهو حال كل مقلد بدون حجة وبينة.
وروى أبو عمر في نفس السياق عن عليِّ بن أبي طالب (1343) قال:
«إياكم والاستنان بالرجال، فإنَّ الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثُمَّ ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النَّار فيموت وهو من أهل النَّار، وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النَّار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنَّة فيموت وهو من أهل الجنة، وإن كنتم لابدَّ فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء».
وروى أبو عمر (1344) عن ابن مسعود قال: «ألا لا يقلّدن أحدكم دينه رجلًا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر».
فإذا كان ذلك كذلك، فقد تقرر عندك ممَّا مضى من هذه المعالم والمنازل والمنارات والقوانين ما تستقيم به أبْحاثُك وتحقيقاتك على مثل ما كان عليه المحققون من أهل الحل والعقد من أهل العلم سلفًا وخلفًا، فعضد عليه بنواجذك، ولا تفرّط فيه، بعد تدبّره وتصوّره وتفهمه واستيعابه وإدراكه ووعيه، والله تعالى أعلى وأعلم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه
الباحث الدكتور/ عيد بن أبي السعود الكيال
دكتوراه من كلية الشريعة الإسلامية جامعة الأزهر بالقاهرة.