ر2980 زيارة 

۞ القِـسـم : مقالات فقهية أصولية
۞ تاريخ الرفع : 01-12-2019 م .


بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجوزُ تَسْليمُ المأمومِ مع الإمامِ مُقَارِنًا له؟ «مثالٌ علميٌ على كيفية الترجيحِ بين الأقوال»

«¢»

«هل يجوز تسليمُ المأمومِ مع الإمام مُقَارنًا له؟»

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، أما بعد:

فقد روى البخاري في كتاب الآذان بابُ يُسلِّمُ حين يُسِّلمُ الإمامُ، (838) من حديث عِتْبانَ بنِ مالكٍ قال: «صَلّينا مع النَّبِيّ فَسَلَّمْنَا حين سَلَّم».

قال الحافظ ابنُ حجر في «فتح الباري» (2/374):

«قوله «بابُ يسَلِّمُ» أي المأموم «حين يُسَلّمُ الإمام» قال الزَّينُ ابن المُنَيِّر: تَرْجَمَ بلفظ الحديث، وهو مُحتمل لأنْ يكونْ المرادُ أنه يبتدئُ السلامَ بعد ابتداءِ الإمام له فيشرع المأمومُ فيه قبل أن يتمَّه الإمام، ويُحْتملُ أن يكون المرادُ أنَّ المأمومُ يبتدئُ السلامُ إذا أتمَّهُ الإمام -قال- فلمَّا كان مُحتمِلًا للأمرين وُكِلَ النظرُ فيه إلى المجتهد. انتهى.

قال الحافظ: «ويُحتملُ أن يكون أراد أنَّ الثاني ليس بشرط؛ لأنَّ اللفظ يحتمل الصورتين فأيُّهما فعل المأموم جاز، وكأنه أشار إلى أنه يُنْدبُ أن لا يتأخّرُ المأمومُ في سلامَه بعد الإمامِ مُتشاغلًا بدعاءٍ وغيرِهِ، ويدلُ على ذلك ما ذكره ابنُ عمرَ عند ابن أبي شيبة ما يُعْطِي معناه» اهـ.

قلت: علَّق البخاريُ قَبْلَ هذا الحديث عن ابن عمر فقال: «وكان ابنُ عمرَ يَسْتحِبُّ إذا سلَّم الإمامُ أن يُسَلّم مَنْ خَلْفَهُ».

أقول: فلمَّا كان الحديثُ يحتمل معنيين أورد البخاريُ أثر عمرَ وصدَّره به لِيُبيِّن ما أراده البخاريُ مِن هذا الأثر وأنه رجَّح أن يُسلِّم المأمومُ بعد الإمام، لأنَّ هذا هو الأصلُ، لاسيما بوجود الاحتمال الذي به تَضْعُفُ الدِّلالة «وإذا تطرَّقَ إلى الدليلِ احتمالٌ سقط به الاستدلال» على ما قدره الأصوليون، مِنَ دخولِ الإجمالِ إلى نفس الدليل، لِعَدَم قوة البيان فيه، فأصْبَحَ الدليلُ مُجملًا، فنحتاج إلى دليل آخر يُعَضّدُ الحَجّية وَيُبرهن على اكتمالِ البيان؛ لنقصانِ الدلالة المرجَّحِة على القطع أو الدلالةِ الأقوى، ولا خلافَ عند أهل العلم من الفقهاء والأصوليين أنَّ الدليل الأرجح مع الدِلالة الراجحة مقدمٌ على المرجوح الضعيف والدِلالة الضعيفة.

فقد روى البخاري في صحيحه (378) ومسلم (77/411) من حديث أنس عن رسول الله قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ».

والسياقُ في كلِ الحديث بالفاءِ التي هي للتعقيبِ والترتيبِ عند أهلِ اللغةِ والأصوليين، وهو مذهبُ الأئمةِ الأربعة وغيرُهم من النَحاة، والتعقيبُ: كونُ الثاني بعد الأول بدون مُهْلَةٍ مِنَ الزمنِ، كأنَّ الثاني أخذ بعَقِبِ الأولِ يعني في الجُملةِ.

لذلك قال الحافظ في «الفتح» (2/202) عند الحديث (689) باب: إِنَّما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به، قال: «هذه الترجمة قِطْعة من الحديث، والمراد بها: أنَّ الإتمام يقتضي متابعةُ المأموم لإمامِه في أحوالِ الصلاةِ فَتَنْتَفِي المقارنة والمسابقةُ، والمخالفة، إلَّا مَا دَلَّ الدليلُ الشرعيُ عليه» اهـ.

قلت: وفي قول ابن حجر قاعدة العمومُ الكليُّ وعليه، وعلى ظاهر هذا الحديث أنَّ الأمر قد يصل إلى درجة الوجوب في أنْ يكون السلام بعد أن يتمَّ الإمامُ السلام ثُمَّ يبدأ المأموم في التسليم، لأنَّ هذا الحديث سياقه من أوّله إلى آخره هو جملة من الأوامر المتتالية المتتابعة بلزوم العموم والتعقيب والترتيب، «فكبروا»، «فارفعوا»، «فاسجدوا» مع حديث البخاري في صحيحه (631) قال ﷺ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، ويؤكدُ ذلك ما قاله النووي في «شرح مسلم» (4/99) عند الحديث (77/411): قال: «وفيه وجوبُ متابعةِ المأموم لإمامه في التكبير والقيام والقعود والركوع والسجود، وأنه يفعلها بعد الإمام فيكبُّر تكبيرةَ الإحرامِ بعد فراغ الإمام منها، فإن شَرَعَ فيها قبل فراغ الإمام، لم تنعقد صلِاتهُ، ويركع بعد شروع الإمام في الركوع وقبل رفعه منه، فإنْ قارَنَهُ أو سَبَقَه فقد أساء، ولكن لا تبطلُ صلاتُه، وكذا السجود، ويُسلّم بعد فراغ الإمام من السلام، فإن سلّم قبله بطلت، وإن سلّم معه لا قبله ولا بعده فقد أساء ولا تبطل صلاته على الصحيح» اهـ.

قلت: بل نقول بأعلى من الوجوب، وهو ما قال الإمام ابن عبد البرّ في «التمهيد» (4/268) كتاب صلاة الجماعة، باب صلاة الإمام وهو جالس، قال:

«وأمَّا قوله: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»، فقد أجمع العلماء على أنَّ الائتمام واجب على كل مأموم بإمامه في ظاهر أفعاله، وأنه لا يجوز له خلافه لغير عذر ….

وأمَّا قوله في الحديث: «وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا» فإنَّه يدلُّ على أنَّ عمل المأموم يكون بعِقبِ عمل الإمام وبعده بلا فصْل، لأنَّ الفاء توجب التعقيب، والاستعجال، وليست مثل «ثُمَّ» التي توجب التعقِيب والتراخي، وعن مالك: أن يكون عملُ المأموم بعد عمل الإمام ويعَقِبهِ في كل شيء….

ففي هذا الحديث: بيان أن عمل المأمَوم بعد عمل الإمام دون فصل ولا تراخ، وهو الذي يوجبه حكمُ الفاء في قوله: فكبّروا واركعوا، وقد ثبت من جهة الأثر والنظر، أن حكمَ قوله: «فإذا كبّر فكبروا» في تكبيرة الإحرام أن يكون فراغُ المأمومِ بعد فراغ الإمام منها، وابتداؤه بها بعد ابتداءِ الإمامِ بها، وإن كان ذلك معًا، فالقياس أن يكون الركوع والسجود وسائر العمل كذلك.

قال أبو بكر بن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل متى يكبّر خلف الإمام؟ ومتى يركع؟

فذكر الحديث «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» ثُمَّ قال: «يتبعه في كل شيء يصنعه، كلما فعل شيئًا فعله بعده» اهـ.

وعليه، فإنَّ حديث «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» دليل قوي الرواية وقوى الدلالة في هذه المسألة، وهو أقوى من الحديث الذي بدأت به، والذي عَضَّدْتُ به هذه المسألة؛ لبيان مرتبة الرجحان الاستدلالية الأصولية في هذا الحديث الثاني المذكور.

فإذا كان ذلك كذلك، فقد تقرر عندك بما مضى بيانُه: أنَّ ما قاله الحافظ ابن حجر في بداية المسألة، وقوله بجواز المقارنة بين الإمام والمأموم في التسليم، أنَّ هذا القول فيه نظرٌ، لرجْحَان ما فصّلته، ويقوِّي ذلك أيضًا ما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه الذي كتبه قبل ابن حجر وكان اسمه كذلك: «فتح الباري في شرح صحيح البخاري» (5/223/ح 837) قال: «عن عِتبانَ قال: صلينا مع رسول الله فسلَّمنا حين سلم» قوله: «سلمنا حين سلَّم» ظاهره يقتضي أنهم سلَّموا مع سلامه؛ لأنَّ «الحين» معناه الوقت، فظاهر اللفظ يقتضي أنَّ سلامهم كان في وقت سلامه مقارنًا له، وليس هذا هو المراد -والله أعلم- وإِنَّما المراد: أنهم سلموا عُقَيْب سلامِه من غير تأخّرٍ عنه، وعبّر عن ذلك باتحاد الوقت، والحِينْ، فإنَّ التعاقب شبيهُ بالتقارن.

وهو أيضًا المراد -والله أعلم- من المروي عن ابن عمرو غيره من السلف في السلام مع الإمام، وأنهم أرادوا بالمعية: التعاقُب دون التقارن» اهـ.

قلت: هذا ما ترجّح عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، وإِنَّما أردت من هذه المسألة بعد معرفة الراجح منها، التطبيق العمليَ الفقهيَ الأصوليَ، لبيان كيفية الترجيح بين مسائل الشريعة، ببيان صفة هذا الترجيح، بالقوة والضعف، وصرف الدليل بالدليل، واستعمال الأرجح من المرجوح، ولماذا وبماذا يكون الترجيح، مع بيان الأسباب التي بها تَختار بين الحُجّتين والبرهانين والدليلين، وبين القاعدتين الأصوليتين أو جملة مِنها، فهنا قد وُجدت قاعدة: «إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال» وقاعدة «الدليل والحجة القوية في الرواية والدلالة أقوى بالترجيح» وقاعدة: «الترجيح بالمعضدات والمقويَات معتبرٌ شرعًا وعقلًا وعرفًا» وقاعدة: «العام على عمومه حتى يرد دليل يخصصه»، وقاعدة: «أسبابُ ردِّ القول في أي مسألة من خلال معرفة الخلل فيه بالحث والنظر بالدليل المعتبر» كما رددت قول ابن حجر بجواز المقارنة بين الإمام والمأموم في التسليم، بما ذكرته من الأدلة من الحديث والإجماع.

وقاعدة: «حمل المجملُ على المبين» وقاعدة «الفاء للتعقيب والترتيب» ووقد أفادت كل هذه القواعد جدًّا في هذا البحث، مع كيفية وضع القاعدة الأصولية في محلها والاستفادة منها، وإِنَّما يكون استعمال هذه القواعد على حسب السياق والحاجة وما يستلزم من هذه القواعد التي تتعيَّن على الباحث الشرعي بما تقتضيه الصَّنعة الفقهية الحديثية الأصولية، ولا يتأتى للباحث ذلك إلَّا بعد الإلمام بقواعد هذه الصنعة الثلاثيّة المذكورة، وما عند الباحث من ثَرْوَة التحصيل التقعيدي من القواعد الفقهية والحديثية والأصولية مجتمعة جميعًا، وضبط هذه العلوم الثلاثة بحدودها ومعرفة كنهها وصفتها، مع الفَهْم الصحيح والإدراك السليم والتصور المستقيم الذي به الوعي المعتبر لآلية الفتوى، ثُمَّ العلم بأنَّ الفقه هو المراد الأم لاكتمال منظومة الفتاوى العامة في العلوم الشرعية والذي يستقر ويثبت باستعمال واستخدام الصنعتين الأصولية والحديثية وهما الآلة الموصّلة إلى المطلوب.

وقد تكلم الفقيه الأصولي الإمام الحنبليّ في كتابه الجامع في أصول الفقه: «الواضح في أصول الفقه» (1/17- 18) بكلام قوي النَّبرة عالي الجودة والمنزلة في بيان حدّ الفقه وتصوّره المعتبر ولعلَّ أكثركَمُ لم يسمعه من قبل، فقال أبو الوفاء بن عقيل:

«فإذا ثبت حدّ العلم، فما الأحكام التي تميّز بها حدّ الفقه في قولنا: العلم بالأحكام الشرعية؟

والجواب هو: هي القضايا الشرعية، وذلك هو: الإباحة، والحظر، والإيجاب، والندب، والكراهة والتنزيه.

ولا يستحق بمعرفة هذه الأحكام والعلم بها اسم فقيه؛ إلَّا مَنْ عَلمِها بطريق النظر في أدلة الشرع، وأسند كل حكم إلى دليله، واستثاره بِمُثير، وهو العلم الاستدلالي الكسْبِيِّ، أي: العلم المُكْتسَب بالنظر والاستدلال، بالشاهد على الغائب، والصنعة على الصانع، فهذا الضرب مِنَ العلم هو الذي حدَّدْنا به الفقه فقلنا: العلم بالأحكام الشرعية» اهـ.

قلت: ومراده $: أنَّ من يطلع على كلام الفقهاء كابن حزم وابن قدامة وابن عبد البر والأئمة الأربعة في تحقيقهم لمسائل الفقه، ثُمَّ ينقل كلامهم فليس هذا بفقيه، بل هو مُقلّد، لأنه نقل محض، حتى لو نقله بالأدلة، أمَّا الفقيه الحق فعلًا: هو من يحقق كل مسألة بالبحث والنظر والاستدلال ومعرفة منهج التحقيق من خلال الإلمام بالحديث الضعيف والصحيح، والناسخ والمنسوخ والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه، وإدراك دلالات النصوص، والترجيح بينها، ومعرفة الراجح من المرجوح، والحق من الباطل، لأنَّ ما قاله الأئمة المجتهدون هي أقوالهم التي قالوها من أنفسهم بطريقة التحقيق العلمي، ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ [البقرة: 148] والكل يُؤخذ من قوله ويُردّ، والدلالات متفاوتة بالنظر والبحث باختلاف الأنظار والاجتهادات، والإصابة والخطأ، ومن ثَمَّ لابدَّ من التحقيق القائم على الصنعات الثلاث الفقهية والأصولية والحديثية، وهذا هو المراد بحدّ الفقه وكنهه وصفتِه، ولا يكون ذلك للفقيه إلَّا بالممارسة والتدريب والبحث والنظر والتعَلّم ومعرفة مفاتيح العلم وحدوده وآليّاته المستنبطة والمستخرجة بأساليب الاجتهاد والفتوى، فإن الفقيه المُهْتَمَّ بقواعد العلم ومسائله وأبحاثه، هو المرجُوّ منه الخير والصلاح، مُعَلَّمُ الناسَ الخيْر.

والله المُوَفّقُ الهادي إلى الرشاد والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

الباحث الشرعي الدكتور

عيد بن أبي السعود الكيال

مواضيع مشابهة
من أرشيف الموقع
تابع الصفحات الرسمية للموقع
إجمالي عدد زوار المـوقع :
إجمالي الزيارات المتكررة :
SiteLock