«¢»
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ﷺ.
أمَّا بعد: فهذه جملة من الألفاظ والمعاني الكلّية جعلتها بين يدي هذه المقالة:
(*) قال الحكيم الخبير العليم في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾ [النحل: 90] قال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه «أحكام القرآن» (3/1172):
«قوله: «بالعدل» وهو مع العَالَمْ، وحقيقته: التوسط بين طرفي النقيض، وضده الجَوْر، وذلك أنَّ الباري خلق العالَم مختلفًا متضادًّا متقابلًا مزدوجًا، وجعل العدل في اطّراد الأمور بين ذلك، على أن يكون الأمر جاريًا فيه على الوسط في كل معنًى.
فالعدل بين العبد وربه إيثار حق الله على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر.
وأمَّا العدل بينه وبين نفسه، فمنعها عمَّا فيه هلاكها، كما قال تعالى: ﴿ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النازعات: 40]، وعُزُوب الأطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنًى.
وأمَّا العدل بينه وبين الخلق، ففي بذل النصيحة وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إلى أحد مساءة بقول ولا فعل، لا في سرّ ولا في علن، حتى بالْهَمِّ والعزم، والصبرُ على ما يصيبك منهم من البلْوَى، وأقل ذلك بالإنصاف من نفسك وترك الأذى» اهـ.
قلت: ذكر القرطبي في «جامعه» (10/121) كلام ابن العربي ثُمَّ قال:
«هذا التفصيل في العدل حَسَنٌ وعدل» اهـ.
وقال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70- 71].
(*) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (186- 187):
«قوله تعالى: ﴿ﮫ ﮬ﴾: أي قصدًا وحقًّا، وقال ابن عباس ﭭ: صوابًا، وقال عكرمة وابن عباس ﭫ أيضًا: القول السديد لا إله إلَّا الله، وقيل: هو الذي يوافق ظاهرُه باطنَهُ، وقيل: هو ما أُريد به وجه الله دون غيره، وقيل: هو الإصلاح بين المتشاجرين.
وهو مأخوذ من تسديد السَّهم ليصاب به الغرض، والقول السَّداد يعم الخيرات، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك» اهـ.
(*) وقال ابن الأثير في «النهاية» (2/317):
«قوله: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا»: أي اطلبوا بأعمالكم السَّداد والاستقامة، وهو القصد في الأمر والعدل به» اهـ.
(*) قلت: وهو جزء من حديث البُخاري في «صحيحه» (39) بلفظ: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» قال ابن حجر في «الفتح» (1/128):
«قوله: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا» أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل.
«وَأَبْشِرُوا» أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمراد: تبشير مَنْ عجز عن العمل بأنَّ العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقصُ أجره، وأبْهَمَ المبشّرَ به تعظيمًا له وتفخيمًا» اهـ.
(*) وقال ابن فارس في «مقاييس اللغة» (4/246):
«(عدل) العين والدال واللام أصلان صحيحان، أحدهما: يدلُّ على استواء، فالأول: العدلُ مِنَ النَّاس: المرضيّ المستوي الطريقة، والعدل الحكم بالاستواء، يُقال للشيء يساوي الشيء هو عِدْلُه» اهـ.
وقال في «النهاية» (3/172):
«العدل: الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سُمِّي به فوُضع موضع العادل، وهو أبلغ منه؛ لأنه جُعل المُسمَّى نَفْسَه عدلًا» اهـ.
(*) قلت: وعليه، فالاعتدال في القول والفعل: هو الاستقامة على الحق بالكتاب والسنَّة، وهو القصد في الأمر والعدل به، وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، وهو الإنصاف والتوسط، وهو الحكم بالسَّويّة المرضية، وهو ما وافق ظاهره باطنه، وهو الإصلاح وإرادة كل ذلك لوجه الله تعالى خالصًا له دون سواه، وإيثار الحق على النفس والنَّاس أجمعين، وتقديم رضى الله على الهوى، وبذل النصيحة وترك الغش والخيانة فيما قل وكثر، وعدم الجَوْر في الحكم.
(*) فإذا كان ذلك كذلك، فَبيْنَ ما ذُكر من السمو والرفعة والعلو والمنزلة الجليلة من مكارم الأخلاق التي يتحلّى ويتزيّن بها المؤمن والتي بُعث بها رسول الله ﷺ لإتمامها، فهناك ما يُضاد ذلك مِن مساوئ الأخلاق وسَفْسَافِها وأراذِلِها مثل الهوى والتشهي:
(*) قال الله تعالى: ﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؟! [القصص: 50].
قال ابن كثير في «تفسيره» (6/102):
«أي بلا دليلٍ ولا حجةٍ مأخوذةٍ من كتاب الله» اهـ.
وقال تعالى: ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ [القصص: 50].
(*) قال القرطبي في «جامعه» (13/221):
«أي: آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويُجْبِيه لهم الشيطان وأنه لا حجة لهم» اهـ.
(*) وقال السعدي في: «تفسيره» (ص: 618):
«قوله: ﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؟! فهذا مِنْ أضل النَّاس؛ حيث عُرِض عليه الهدى والصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلم يلتفت إليه ولم يُقْبل عليه، ودعاهُ هواهُ إلى سلوك الطرق الموصّلة إلى الهلاك، والشقاء، فاتبعه وترك الهدى، فهل أحدٌ أضلُّ ممَّن هذا وَصْفُه؟! ولكنْ ظُلْمُه وعدائُه وعدم محبَّته للحق، هو الذي أوجب له أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله، فلهذا قال: ﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [القصص: 50] أي: الذين صار الظلم لها وصفًا والعنادُ لهم نعتًا، جاءهم الهدى فرفضوه، وعُرض لهم الهوى فتبعوه، سدُّوا على أنفسهم أبوابَ الهداية وطرقَهَا، وفتحوا عليهم أبواب الغُواية وسُبُلَها، فَهُم في غيّهم وظلمهم يعمهون وفي شقائهم وهلاكهم يترددون» اهـ.
(*) وقال الله تعالى: ﴿ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ [النساء: 135].
قال ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم» (2/283):
«يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل، فلا تعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه، وقوله: ﴿ﭘ ﭙ﴾ كما قال: ﴿ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [الطلاق: 2] أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحةً عادلةً حقًّا، خاليةً من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: ﴿ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ أي: اشهدْ بالحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سُئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرّة عليك، فإنَّ الله سيجعلُ لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كل أمر يُضيّق عليه.
وقوله: ﴿ﭝ ﭞ ﭟ﴾ أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تُراعِهم فيها؛ بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإنَّ الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدّم على كُلّ أحد.
وقوله: ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾ أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله: ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبُغْضة النَّاس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: ﴿ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [المائدة: 8]» اهـ.
(*) وقال أيضًا السعدي في نفس الآية السابقة في «تفسيره» (ص208- 209) إكمالًا للفائدة:
«والقيام بالقسط من أعظم الأمور، وأدلُ على دين القائم به وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعيّن على مَنْ نصح نفسه وأراد نجاتها أن يَهْتَمّ له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْبَ عينيه ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به، وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى؛ ولذا نبَّه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله: ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توَفَّقُوا للعدل؛ فإنَّ الهوى إمَّا أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلًا والباطل حقًّا، وإمَّا أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سَلِمَ من هوى نفسه وُفّق للحق وهديَ إلى الصراط المستقيم» اهـ.
(*) وقال تعالى: ﴿ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾ [ص: 26] قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (15/140):
«أي: لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله ﴿ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾ أي عن طريق الجنَّة ﴿ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ﴾ أي: يحيدون عنها ويتركونها» اهـ.
وقال السعدي «في تفسيره» (ص:712):
﴿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ أي: بالعدل، وهذا لا يُتمكن منه إلَّا بعلمٍ بالواجب، وعلمٍ بالواقع، وقدرةٍ على تنفيذ الحق ﴿ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ فتميل مع أحد لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر ﴿ﰄ﴾ الهوى ﴿ﰅ ﰆ ﰇ﴾ ويُخرجَكَ عن الصراط المستقيم» اهـ.
وقال تعالى: ﴿ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [النازعات: 40] قال ابن كثير (8/200):
«أي: خاف القيام بين يدي الله ۵، وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها وردَّها إلى طاعة مولاها» اهـ.
(*) قلت: ومن أشدّ ما قيل في كتاب الله تعالى في تسفيه الهوى والتشهي بالضلال والغي والباطل ما قاله الله تعالى: ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﴾ [الأعراف: 175- 176].
فبيّنت الآية: أنَّ اتباع الهوى يصل بالمرء إلى انْسِلاخه من دينه عروة عروة، وشِرْعة فشِرْعة، حيث قال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﴾ [الجاثية: 23] فهذا حال صاحب الهوى.
(*) قال الإمام الشافعي ناصر السنَّة فيما رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (13337):
«ما أوْرَدْتُ الحق والحجة على أحد فقبلها منِّي، إلَّا وهِبْتُه واعتقدت مودَّته، ولا كابَرَ أحد على الحق ودفع الحجة إلَّا سقط من عينيّ ورفضتُه».
(*) قلت: أو تدري لِمَ سقط من عينيه ورفضه؟! لأنه صاحب هوى، والجواب الثاني: فيما قاله الإمام التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح فيما رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8455) قال:
«بلغنا أنَّ الشهوة والهوى يغلبان العلم والعقل والبيان» قال تعالى: ﴿ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الكهف: 28].
أو تدري لِمَ سقط من عينيه ورفضه؟! لأنه صاحب هوى، والجواب الثاني:
في قوله تعالى: ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [الصف: 5] قال القرطبي في «جامعه» (18/62):
«أي: لمَّا مالوا عن الحق، أمال الله قلوبهم عن الهدى، ولمَّا زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية، ولمَّا زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب، ولمَّا تركوا ما أمُروا به مِن احترام الرسول ﷺ وطاعةِ الربّ، خلق اللهُ الضلالة في قلوبهم عقوبةً لهم على فعلهم» اهـ.
(*) وروى أبو نعيم في «حلية الأولياء» (14913) عن الإمام سهل بن عبد الله التُّسْتري أنه قال:
«أيَّما عبد قام بشيء ممَّا أمره الله به من أمر دينه فعمل به وتمسك به، فاجتنب ما نهى الله تعالى عنه، عند فساد الأمور، وتشويش الزمان، واختلاف النَّاس في الرأي والتفريق، إلَّا جعله الله إمامًا يُقتدى به، هاديًا مهديًّا، قد أقام الدين في زمانه، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الغريب في زمانه، الذي قال رسول الله ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» [رواه مسلم (145)]، وما مِنْ عبد دخل في شيء من السنَّة وكانت نيته متقدمة في دخوله لله، إلَّا أخرج الجهل مِنْ سِرِّه شاء أم أبى؛ بتقديمه النّية، ولا يعرف الجهل إلَّا عالم فقيه زاهد عابد حكيم» قلتُ:
(*) الدخول في مِلاك أمْرِ المقالة والتعليق على هذه المقدمة:
فإذا تقرر عندك ما مضى بيانه ودليله على ضوء هذه المقدمة، فاعلم:
أنه لا يستقيم لعاقل رشيد مؤمن تقي يفهم ويعي ويدرك ويعلم الآيات القرآنية المذكورة آنفًا، من هذه المفاهيم، والمعاني العالية الراقية القرآنية، التي تبرهن وتدلُّ على هذه المكارم الأخلاقية الصالحة من التحلِّي بالصدق والعدل والإنصاف والسداد والقسط والاعتدال في القول والفعل والاستقامة على الحق بالكتاب والسنَّة، وتحرِّي الصواب واستواء السر والعلانية، وخلوص النية لله وحده من الرياء والسمعة وحب الشهرة والصيت، مع الوعيد الشديد من اتباع الهوى وغلبة الشهوة والغش والوقوع في أعراض النَّاس بالباطل والزور والبهتان، وتصيّد الأخطاء وحظ النفس، والافتتان بالدنيا، والترأس، وفساد القلوب والصدور والنفوس بالغل والحقد والحسد والتشهي؛ بعد أن نطق الله بالحق فقال: ﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾؟! [القصص: 50]، وقوله تعالى: ﴿ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾؟! [ص: 26]، وقوله: ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾؟! [الصف: 5].
(*) فكيف لرجل يعلم ما يخرج من رأسه من الأقوال أن يتكلم بالغش والزور والبهتان والكذب والتشهير بفلان بغير حق ويغتابه ويبهته ويسفهه، وهو رجل صالح مؤمن تقي، يخشى الله ويسعى في مرضاته، وإقامة شرع الله والذبِ عن السنَّة، والاجتهاد في تعليم النَّاس دينهم، ويحملُ هَمَّ وَنَصَبَ الدعوة بحيث لا يغيب همُّها عن خلده وخاطره لحظة، ثُمَّ مع هذه الصفات الكلية في مُعَلّمَ النَّاس الخير يسعى إنسانٌ إلى الوقوع فيه؟! ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [النور: 16].
(*) وفي هذا السِّياق المُهم يتطرق بِي الحالُ إلى التكُّلم في مسألة تكلّم فيها البعض، ومفادُها: كيف يحقّ لبعض الرجال أن يطعن في رجل مشهور عنه أنه من أهل العلم والصلاح، وخدم الدعوة سنين وهو مشهود له بذلك، ثُمَّ يأتي البعض مِمَّن أثنى على هذا العالِم من قبلُ، فيطعن فيه ويُشهّر به الآن، ويعلم القاصي والداني هذا الطعن، فهل هذا يستقيم في دين الله، مع المكانة التي عليها المطعون؟! أليس هذا من الطاعن تلوّنًا ونفاقًا؟! وكيف يُسَجَّل عليه ثناؤه من قبل، ثُمَّ يطعنه من بعد؟! أليس هذا جمعًا بين النقيضيْن؟!
قلت: يتلخص هذا الأمر بالبيان، في ركائز مَفاتيح العلوم، لمن يُمارس الدعوة إلى الله على بصيرة، فمنها: صحة القصد، وحسن الفهم، واستقامة الإدراك، وخلوص الوعي الصحيح، واعتدال التصوُّر، والرغبة في البيان بالحجة والبرهان، وإرادة إنكار المنكر الذي شاع وانتشر، لله وبالله وفي الله وعلى أمر الله ورسوله، قال تعالى: ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [الأنفال: 42]، ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [الأنفال: 37]، وقال: ﴿ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾ [آل عمران: 179]، وحتى: بإجماع أهل اللغة والأصوليين للغاية.
ويزعم العبد القفير أنَّ الغاية هي نصرة دين الله، وإلَّا لهلكنا وما نَجَيْنَا، قال الحكيم الخبير: ﴿ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾؟! [الملك: 14].
وأعضد كل ذلك بما قررته في إحدى مقالاتي المهمة، وهي تحرير وتحقيق القاعدة الكلية الأصولية العقلية الشرعية: «الحكم على الشيء فرع عن تصوّره» فلا يستقيم لذي بصيرة وفقه وعلم وفَهْم، أن يحكم على شيء وهو لا يتصوّر ابتداءً هذا الشيء وكُنْهَهُ وطبيعته وصفته ومِلاكه وقِوامه، فهذا عبث محض، ولا يتبين الشيء في إجمال أو تشابه أو تأويل، فلابدَّ من الظهور والبيان والإحكام والكشف، وهذا صنيع أهل الحل والعقد الذين يعلمون تأويله، ولا تكون الفتن إلَّا من الجِهَال، وهم المعاول التي يُهدم بها دين الله، ولا يسلم منهم إلَّا من تعلَّم وفَهِم.
(*) بيان الأسباب التي تؤدِّي إلى تَغَيُّر الأقوال في الرجال:
فهذه جملة من القواعد الأصولية على سبيل المثال لا الحصر لبيان ما كتبته في هذه المقالة، والتي لربَّما سلّطتْ الضوءَ على ما حدث من الفتن بين كبيرين من مشايخ أرض الله الحرام، وكذلك ما يحدث في غالب البلدان العربية بشكل عام؛ لوجود العلّة الجامعة بينهم.
(1) فإنَّه من المعلوم من الدين بالضرورة إجماع أهل العلم على القاعدة الكلية: «الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا».
فإذا وُجدت العلة وُجد الحكم، وإذا ارتفعت العلة ارتفع الحكم، وقد قامت الحجة والبرهان على تقرير هذا الأصل الكليِّ في كل علوم الشريعة: في أوامرِها ونواهيها وحدودِها وعراها، وشروطها ومقتضياتها ولوازمها ومسائلها وأصولها ومقاصدها الشرعية، واختلاف أحكامها، وناسخها ومنسوخها، والعام منها والخاص، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومبيّنها، ومحكمها ومتشابهها، وظاهرها وباطنها، والاجتهاد والتقليد، كل هذا مقرر عند المحققين من أهل الحَلّ والعَقْد، فتتغير الأحكام بتغير صفة وحال كل حكم حدث له ما يغيره من النسخ أو التخصيص أو التبيين أو الصرف عن الظاهر أو التقييد أو الإحكام الذي ينفي المتشابه، وصرف الأمر إلى الإيجاب والنهي إلى الكراهة التنزيهية أو الحل والجواز، ومن العزيمة إلى الرخصة فيتغير التحريم إلى الحل بعلة الرخصة عند الضرورة والحاجة الملحة، فقامت الأحكام الشرعية التكليفية إيجابًا وسلبًا، وجودًا وعدمًا على المناطات والعلل المناسبة والمؤثرة في الأحكام، والتغيير الحادث قطعًا لا محالة عند وجود المُغيّر بالتأثير.
(2) قاعدة الاستحالة التي نُقِل عليها الإجماع:
عن القرافي في «الذخيرة» وابن قدامة في «المغني» كما قررته في مقالة «الاستحالة» وهي على الموقع مطبوعة، وهي قاعدة أصولية «الأحكام للأسماء، والأسماء تابعة للصفات التي هي حَدُّ ما هي فيه» فالخمر يتحول بالصفة إلى خلٍّ، فتتغير الصفة إلى الحل برفع الإسكار، واستحالة صفات النجِس أو الحرام، كالميتة إلى ملح فيبطل عنه الاسم الذي به ورد الحكم فيه وانتقل إلى اسم وارد على حلال ظاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئًا آخر ذا حكم آخر، أو نقطة بول تقع في ماء أو ماء يقع في بول فلا يتغيران ولا يظهر لشيء من ذلك أثر وهكذا كلُ شيء، كما قرره الفقهاء والأصوليون، كابن حزم وابن تيمية، كذا في المقالة عن الاستحالة المذكورة آنفًا.
وقال أبو الحسن بن القطان في «الإقناع في مسائل الإجماع» (1/75):
«وأجمعوا أنَّ الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة فغيّرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا فإنه نجس، وإذا وقعت النجاسة بصاع من ماء فلم تغيّره عن حاله؛ جاز لمائة رجل أن يجتزئوه فيتوضئون به» اهـ.
قلت: هذا في الاستحالة المادّية، وكذلك الاستحالة المعنوية، قال الله تعالى: ﴿ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [التوبة: 28]، وقال: ﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ [الواقعة: 79]، وقال ﷺ فيما رواه مسلم (116/372): «سُبْحَانَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ».
فإذا أسلم الكافر تحول من النجاسة إلى الإيمان، وكذلك العاصي والفاسق من المسلمين تتغير صفته كذلك إلى العدل من الفسق في الشهادة، قال الله تعالى: ﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [النور: 4، 5] فتحول القاذفُ المحصناتِ من الفسوق وعدم قبول شهادته إلى التعديل والقبول، وكذلك العكس، من كان عدلًا ثقة ثُمَّ تتغير صفته إلى الفسوق فلا تقبل شهادته بعد أن كانت مقبولة، وهكذا من إيجاب إلى سلب والعكس كذلك.
(3) تكلم الأصوليون في مسألة «استصحاب حال الإجماع في محل النزاع»:
كما قررته في مقالة: «تقريب استصحاب الحال» وهي المقالة (15) في: «سلسلة المقالات الفقهية الأصولية» ومثالها: أنَّ الإجماع منعقد على أنَّ عادم الماء فرضه التيمم، فإذا تيمم الرجل ودخل في الصلاة وفي أثنائها جاء الماء، فجمهور أهل العلم على أنه يخرج من الصلاة، والعلة اختلاف صفة الإجماع، لأنَّ الإجماع على صِحة الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، فإذا وجد الماء تغيرت صفة الإجماع فغُير الحكم.
قال الزركشي في «البحر المحيط في أصول الفقه» (6/20 وما بعدها):
«….. لأنَّ محل الوفاق غير محل الخلاف فلا يتناوله بوجه، وإِنَّما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا توجد صفة تُغيّره، ولأنَّ الدليل إن كان هو الإجماع، فهو محال في محل الخلاف، وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب» اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في: «العدة في أصول الفقه» (4/1262/ وما بعدها):
«… ودليلنا على ذلك: أنَّ الإجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي يتناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص، متى تناول موضعًا لم يجز حَمْلهُ على غيره.
والاستدلال بالإجماع لا يصح بعد زواله، وإِنَّما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأنَّ الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به» اهـ.
(4) أخذُ النَّاس بما يظهر لنا من أقوالهم وأفعالهم:
روى البخاري في «صحيحه» (2641) باب الشهداء العدول، والخطيب البغدادي في «الكفاية في معرفة أصول علم الرواية» (1/267) باب الكلام في العدالة وأحكامها رقم (209) من حديث عمر بن الخطاب ﭬ قال:
«إنَّ أُناسًا كانوا يُؤْخَذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ، وإنَّ الوحي قد انقطع، وإِنَّما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاهُ وقرَّبناه وليس إلينا في سريرته شيءٌ، الله يحاسبه في سريرَته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمَنْهُ ولم نُصَدِّقْه وإن قال إنَّ سرِيرَته حَسَنَة».
قلت: هذا العدل والإنصاف والقسط والصدق وتحري الصواب والقول السديد والاستقامة والقصد في الأمور والوسطية الشرعية في القول والعمل، وبذل النصيحة وتجنب الجور والظلم والغش والخيانة والقول بالسَّوِيَّة المرضية والبعد عن الأهواء والتشهي والقول بالاستحسان العقلي المعتزلي الضال الذي ليس له أثارة من علم.
ولذلك رواه البخاري في باب الاعتدال والرضى بالشهادة المستقيمة المعتبرة.
وروى الخطيب في «الكفاية» (211) عن إبراهيم النخعي قال:
«العدل بين المسلمين من لم تظهر منه رَيْبَةٌ».
وروى الخطيب (213) عن ابن المبارك في العدل فقال:
«من كان فيه خمْس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب، ولا تكون في دينه خَرِبَةٌ، ولا يكذب، ولا يكون في عقله شيء».
ثُمَّ ختم الخطيب البغدادي هذا الباب (1/272- 273/ رقم (216) بكلام في غاية الجودة فقال:
«حدثني أبو الفضل محمد بن عبيد الله المالكي، أنه قرأ على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب قال: «والعدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر، هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامة مذهبه، وسلامته من الفسق وما يجرى مجراه، ممَّا اتفق على أنه مبطلُ العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها، والواجب أن في جميع صفات العدالة: إنها اتباع أوامر الله تعالى، والانتهاء من ارتكاب ما نهى عنه ممَّا يُسقط العدالة، وقد علم مع ذلك أنه لا يكاد يَسْلَمُ المكلَّفُ من البشر من كل ذنب، ومن ترك بعض ما أُمِرَ به حتى يخْرُجَ لله من كل واجب له عليه، وأنَّ ذلك يتعذَّر، فيجب لذلك أن يُقال: إنَّ العدل هو من عُرِف بأداء فرائضه ولزوم ما أُمر به، وتوقِي ما نهى عنه، وتجنُّبِ الفواحش المسقطة، وتحري الحقِ والواجبِ في أفعاله ومعاملاته، والتوقي في لفظه ما يُثْلِمُ الدين والمروءة، فمنَ كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه، ومعروف بالصدق في حديثه، وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يُسَمَّى فاعلها فاسقًا، حتى يكون مع ذلك متوقيًا لما يقول كثير من النَّاس: إنه لا يعلم أنه كبير، بل يجوز أن يكون صغيرًا نحو الكذب الذي لا يقطع على أنه كبير من الذنوب عندهم، لأجل أن القاذورات وإن لم يُقطع على أنها كبائر يُستحق بها العقاب، فقد اتُّفِق على أن فاعلها غير مقبول الخبر والشهادة؛ إِمَّا لأنها مُتْهِمَةٌ لصاحبها ومُسْقِطة له، ومانعة من ثقته وأمانته أو لغير ذلك، فإنَّ العادة موضوعة على أنَّ من احتملت أمانته سرقة بصله وتطفيف حبّة احتملت الكذب، وأَخْذُ الرشا على الشهادة، وَوَضْعُ الكذب في الحديث والاكتسابُ به، فيجب أن تكون هذه الذنوب في إسقاطها للخبر والشهادة بمثابة ما اتفق على أنه فسق يستحق به العقاب، وجميع ما أضربنا عن ذكره ممَّا لا يَقْطع قوم على أنه كبير، وقد اتُفق على وجوب رَدِّ خبر فاعله وشهادته، فهذه سبيلُه في أنه يجب كون الشاهدِ والمخبرِ سليمًا منه».
[قال الخطيب:]
والواجب عندنا أنْ لا يُردَّ الخبرُ ولا الشهادةُ إلَّا بعصيان قد اتُّفِق على ردّ الخبر والشهادة به، وما يغلب به ظن الحاكم والعالِم أنَّ مُقْتَرِفَه غيرُ عدل، ولا مأمون عليه من الكذب في الشهادة والخبر، ولو عمل العلماء والحكام على أنْ لا يقبلوا خبرًا ولا شهادة إلَّا مُسْلِمٍ بريء من كل ذنب قل أو كثرِ، لم يكن قبول شهادة أحد ولا خَبَرِه؛ ولو لم يُرَدَّ خبَر صاحبِ ذلك وشهادته بحال؛ لوجب أن يُقبل خبرُ الكافر والفاسق وشهادتهما، وذلك خلاف الإجماع، فوجب القول في جماع صفة العدل بما ذكرناه.
(*) والطريق إلى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامهِ وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها، إلَّا باختيار الأحوالِ وتتبعِ الأفعالِ التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة» اهـ.
قلت: فهذه أربعةُ قواعد أصوليةٍ مُجْمَعٍ عليها تُبرهن بيقين على تغَيُّر الأقوال في الرجال، وأنَّ الرجالَ يتحوّلون من العدالة إلى الفسق، ومن الطاعة إلى المعصية والعكس.
وهذه التحوُّلاتُ تؤثر على صفة الرجال وأمورِهم، هذه طبائع النفس البشرية.
أمَّا القاعدة الخامسة المجمع عليها:
(5) فالمعلوم من الدين بالضرورة تغيُّر فتاوى الصحابة الكرام في المسائل من الحل إلى الحرمة والعكس، كما حدث لعمر ﭬ بالفتوى بقولين في نفس مسألة المُشَرَّكة، فيما رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/255) كتاب الفرائض -المواريث- عن الحكم بن مسعود قال: شهدت عمر بن الخطاب ﭬ أشْرَكَ الإخوةَ من الأب والأم مع الإخوة من الأم في الثلث، فقال رجل: قضيت في هذا عام أوّل بغيْر هذا، قال: «كيف قضيت؟» قال: جعلته للإخوة من الأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، قال: «تلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا»، وفي رواية: «تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم» قال البيهقي: وبمعناه قال البخاري».
(*) وروى البيهقي في «الكبرى» (10/119) باب من اجتهد ثُمَّ رأى أنَّ اجتهاده خالف نصًّا أو إجماعًا أو ما في معناه ردَّه على نفسه وعلى غيره، فبدأ بحديث البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة ڤ عن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
(*) ثُمَّ روى البيهقي بعده في نفس الباب عن كتاب عمر إلى أبي موسى ﭭ:
«أمَّا بعد، لا يَمْنَعَنَّك
قضاءٌ قضيته بالأمس راجعت الحق، فإنَّ الحق قديم،
لا يُبْطلُ الحقَّ شيءٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل» قال البيهقي:
ورواه أحمد بن حنبل وغيره عن سفيان وقالوا في الحديث: «لا يَمْنَعنَّكَ قضاء قضيته
بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإنَّ الحق قديم، وإنَّ
الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
(*) وروى البيهقي بعد هذا الأثر عن عمر بن عبد العزيز يقول:
«ما من طينة أهون عليَّ فكًا، وما من كتاب أيسر عليَّ ردًّا من كتاب قضيتُ به، ثُمَّ أبصرتُ أنَّ الحق في غيره ففسخته».
قلت: وما ذكرتُه آنفًا من أجود ما يناسب هذا البحث، وهو مجمع عليه بلا مرية ولا ريب.
(*) ومن أصحّ ما يُستدل به في هذا الباب ما رواه البخاري (7353) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص ﭬ عن النَّبِيّ ﷺ قال: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» ورواه البيهقي أيضًا (10/1118) وهو حديث عمدة في المسألة، وهذا طريق الرجوع إلى الحقِّ.
(*) وقال ابن عمر وابن عباس بانحصار الربا في ربا النسيئة كما في حديث مسلم مرفوعًا (596): «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وقالا مدّة ثُمَّ رجعا عنه لحديث ربا الفضل في البخاري (2134) ومسلم (1588) «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» الحديث، فلمَّا عرفوا الحق ما كان لهم الرجوعَ من الخطأ إلى الصواب وليس لهم إلَّا ذلك بلا خلاف ولا شك، وهذا هو اليقين الحق.
وكذلك قول ابن عباس المشهور عنه في زواج المتعة ثُمَّ الرجوع، وهو مستفيض عنه في ذلك.
(*) ورجوع أبي موسى في فتوى الميراث لما سمع قول ابن مسعود، فيما رواه البخاري في «صحيحه» (6736) بما قضاه النَّبِيّ ﷺ فقال أبو موسى ﭭ: «لا تسألوني ما دام هذا الحَبْرُ بينكم» باب: ميراث ابنة الابن مع بنت.
(*) وكذلك ما خلى إمام من الأئمة الأربعة عن الرجوع عن جملة من أقواله حتى وصل الإمام أحمد كما في كتب الحنابلة بالاستفاضة عن القول في المسألة بالقولين والثلاثة والخمسة وهذا ثابت عنه بالنقل الصحيح، بل بالقول بسبعة أقوال.
(*) بل ورجع الإمام الشافعي من القول القديم كله إلى القول الجديد في مصر قبل موته وهو آخر ما قال، فرجع عن جميع أقواله في المذهب كله عدا سبعة عشر مسألة كما قاله النووي في «روضة الطالبين» وهذا الثابت يقينًا عن عامة الشافعية، وهذا من أقوى ما قيل في المسألة.
(*) وكذلك ما رجع فيه الإمام أبو الحسن الأشعري بعد أربعين سنة في الاعتزال، ثُمَّ رجع إلى مذهب أهل الحق، وأقرَّ في «الإبانة عن أصول الديانة» أنه يقول بمنهج أهل السنَّة والجماعة وبكل ما قاله الإمام أحمد في المعتقد والتوحيد وإثبات الصفات لله من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وصار بعدها إلى أن مات يقول بذلك بفصل الله ومنّه، قال تعالى: ﴿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﴾ [يونس: 32].
(*) وأمَّا القاعدة السادسة:
(6) ما قاله إمام أهل السنَّة والجماعة في وقته الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري (ت329هـ).
وهو شيخ الإمام ابن بطة العكبري، قال البربهاري في كتابه «شرح السنَّة» (ص: 66، فقرة 80):
«ولا يحل أن يكتم النصيحة للمسلمين -برّهم وفاجرهم- في أمر الدين، فمن كتم، فقد غش المسلمين، ومن غش المسلمين، فقد غش الدين، ومن غش الدين فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» اهـ.
وهذا مجمع عليه بلا خوف ولا مِرْية ودليله ما قال تعالى: ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ [الأنفال: 27].
(7) أمَّا القاعدة السابعة المجمع عليها:
(*) العام يُحمل على عمومه حتى يرد ما يخصصه، فإذا ورد: خُصّص.
(*) فإذا كان ذلك فاعلم: أنَّ تغيّر الفتوى هو منهج أهل السنَّة والجماعة القائم على الكتاب والسنَّة والإجماع عن الصحابة بلا نزاع، وهو منهج الحق والعدل والإنصاف والسداد والرشاد والصواب والاستقامة القويمة، وهو الذي أمرنا به بمراجعة الحق، ونُهينا عن التمادي في الباطل، وهل في هذا شك؟!
﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [النور: 16] أيعلم الرجل ما وصله من الحق ويسكت؟!
وأكرر عليك قول المحدِّث المُلْهَمِ أميرِ المؤمنين في قوله في «السنن الكبرى» (10/119):
قال عمر بن الخطاب ﭬ:
«لا يمنعنَّك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهُدِيت فيه لرشدك ان تراجع الحق، فإنَّ الحق قديم، وإنَّ الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
قلت: قول عمر هذا هو طريقة المنصفين المقسطين، فلا جَرَمَ أنَّ هذا هو منهج الكتاب والسنَّة، وأنَّ الزلل والترنّح والاضطراب الذي يحدث في هذا الباب والتخبّط فيه، لا يستقيم لطالب علم عاقل، بل لا يستقيم لعاقل ليس من طلبة العلم، ان يتردد في المنهج الصواب الذي سطَرته في مقالتي هذه، لوضوحها وبيانها، ووجوب وضرورة الالتزام بها.
(*) فإذا تقرر عندك ما مضى بدليله وتعليله فقد أُلْزِمْتَ يا حصيف بهذه اللوازم التي على كاهلك، فقد روى البخاري (2463) ومسلم (136/1609) من حديث أبي هريرة أنه قال بعد حديث وضع الخشب في جدار الجار:
«ما لي أراكم عنها مُعرِضين، والله لأرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم».
قال الله تعالى: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ [النساء: 65]، وقال ۵: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [الأحزاب: 36]، وقال سبحانه: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾ [النور: 54]، وقال تعالى: ﴿ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾ [البقرة: 285]، وقال: ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ [النور: 63]، وقال إمامان من المفسرين في تفسير هذه الآية الأخيرة:
الأول: القرطبيّ في «الجامع لأحكام القرآن» (12/247- 248):
«قوله تعالى: ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ بهذه الآية احتج الفقهاء على أنَّ الأمر على الوجوب؛ ووجهها: أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حذَّر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليه بقوله: ﴿ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره.
والفتنة هنا القتل، قاله ابن عباس، وقال عطاء: الزلازل والأهوال، وقيل: الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول، ومعنى ﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾ أي: يُعْرِضُون عن أمره، ومنه قوله ﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [الكهف: 50] أي: بَعُدَ عن أمر ربه» اهـ.
قلت: إنَّ منهج أهل السنَّة والجماعة الذي عليه الكتاب والسنَّة والإجماع، بوجوب فرضية إظهار الحق، وإنكار المنكر، ورفع راية البيان بكشف المُشكَلِ والمُجمَل الذي تتضحَ به حقائق الأمور، فكيفَ يُعاب على مثل من يصدع بالحق وتحرَّاه ويوصِّلُهُ إلى من لا يعلم؟!
قال تعالى: ﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ [القصص: 51].
والثاني: ما قاله ابن كثير في «تفسيره» (5/375):
«قوله: ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ أي: عن أمر رسول الله ﷺ، سبيله: هو منهاجه، وطريقته، وسُنّته، وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبل، ما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنًا من كان، كما ثبت في «الصحيحين» [البخاري (2697) ومسلم (1718)]، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أي: فليخش من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا ﴿ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، ﴿ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ أي: في الدنيا، بقتل أو حدّ أو حبس أو نحو ذلك» اهـ.
وقال عبد الرحمن بن ناصر السعدي في «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان» (ص185):
«قوله: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ [النساء: 65]: أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم؛ أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع؛ فإنها لا تكون إلَّا مستنده للكتاب والسنَّة، ثُمَّ لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكّمونه على وجه الإغماض، ثُمَّ لا يكفي ذلك حتى يسلّموا لحكمه تسليمًا، بانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، وانقيادٍ بالظاهر والباطن» اهـ.
واللهُ من وراء القصد وهو يهدي السبيل، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه
الدكتور عيد بن أبي السعود الكيال